وداعا بشار الأسد


كان قرار الانسحاب الروسي من سوريا مفاجئا، لذلك وجب التريث في التعليق، لأن الحاجة كانت ماسة للاستعانة بالمختصين في الشأن الروسي، كالصديق مصطفى فحص، وكان ضروريا مراقبة المشهد على الأرض من سوريا إلى جنيف.

إلى هذه اللحظة يبدو القرار جديا، وأسبابه منطقية وضاغطة، فهناك صراع جليّ بين مراكز القوى داخل الكرملين، اللوبي العقدي ممثلا في العسكر أصحاب الشبق التوسعي، واللوبي البراغماتي الذي يمثل رجال الأعمال وأصحاب المصالح المالية.

منذ فرض الغرب عقوباته على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، لجأ رجال الأعمال الروس إلى تركيا التفافا على العقوبات، لذلك تضرر رجال الأعمال بشدة بعد توتر العلاقات التركية – الروسية إثر أزمة السوخوي، ومع توسع العمليات العسكرية، في ظل العقوبات وأزمة أسعار النفط، تضاعف إنهاك الخزينة الروسية، وقد قرأنا جميعا – مؤخرا – تخفيض الميزانية العسكرية في روسيا بنسبة 5 بالمئة.

ويبدو أن عقلاء الكرملين لاحظوا أن بلادهم تقدم غطاء مجانيا للميليشيات الشيعية ضد السنّة وضد الأتراك، وهذا يعني باختصار أن الحضور الروسي في الشرق الأوسط والعالم العربي لن يكون مقبولا، كما أن عدد المسلمين السنّة في روسيا يبلغ 23 مليون نسمة، وبالتالي فإن الاستمرار في مناصرة الأسد وإيران قد يؤدي إلى أفغانستان جديدة شمال القوقاز، وفي ظل هذه الاحتمالات جاءت مناورة “رعد الشمال” التي عنت أن الأمور ستخرج من سيطرة روسيا كليّا، فأيّ صدام عسكري مباشر بين الروس من جهة وبين السعوديين والأتراك سيعني صراعا مع الجغرافيا ومع الإسلام.

وفي المقابل، هناك مصلحة ماسة للروس عند الرياض، فقد قرأنا قبل أشهر عن صفقة تقدر بخمسة مليارات دولار، وهي في إطار صفقات أوسع مع الإمارات وقطر، والتفاهم مع هذه الدول جوهري وحيويّ للتعامل مع أزمة أسعار النفط.

ويضاف إلى ذلك أن الأخبار القادمة من الكونغرس والناتو غير مطمئنة للكرملين، هناك حديث عن انتشار جديد للقواعد، وهناك مؤشرات لتدشين سباق تسلّح لن تتحمّله موسكو إطلاقا، ودلائل الانتخابات الرئاسية الأميركية فوق المرعبة، فهيلاري كلينتون ابنة منهج سياسي أذلّ الروس في البلقان وغيرها، ودونالد ترامب له دعم ملحوظ من أوساط عسكرية واستراتيجية محتقنة، لذلك لا خيار أمام موسكو سوى إنجاز تسوية عاجلة مع أوباما، وإلا فالقادم أسوأ.

وأنا أقلّب هذه الحيثيات أو الأسباب، استذكرت حديثا جمعني قبل نحو أسبوعين مع معارض سوري، وقد بدا تفاؤله بالنسبة إليّ غريبا، هو موقن بأن نهاية عصر بشار الأسد أقرب من أيّ وقت مضى، وكان تقديره بأن شهر أكتوبر المقبل قد يحمل بشرى زوال آل الأسد عن رقاب السوريين والعرب، كما أكد لي أن التدخل السعودي البري في سوريا حاجة دولية، فلا بد من جيش سنّي ينهي داعش وما شابهه، تدخلت إيران عبر الحرس الثوري وما يسمّى بحزب الله فتعاظم داعش، وفعل جيش بشار الأمر نفسه وانتهينا إلى نفس النتيجة، وهذا يعود لأن بشار وعصابته يقتلون السنة والمعارضة وهذا يعزز البيئة الحاضنة للدواعش، كما أن تلك الزمرة لم تبذل أيّ محاولة جدية لمحاربة الإرهاب، بل إن تاريخها قائم على دعم الإرهاب وممارسته.

وصديقي المعارض يرى أن المصالح بين موسكو وطهران تتناقض، فمجرد التدخل الروسي إشارة لانكسار إيران أو عجزها، والعالم كله، بما ذلك روسيا وأميركا والرياض، لن يقبل بأن تسقط سوريا في حفرة حكم إسلاموي، ولا جدال في أن إيران كداعش والقاعدة، إسلامويون جميعا، وفي النهاية روسيا تبحث عن مصلحتها، ومصالح روسيا الحقيقية مع دول مجلس التعاون الخليجي وأغلبيته العربية والإسلامية لا مع إيران وأقليّاتها. الروس لا يريدون استمرار الأسد من أجل قطف سوريا وكسب الخليج، أما الإيرانيون فيتمسكون بالأسد لإطالة الحرب التي تقود نهايتها إلى تسوية ليست من مصلحة طهران.

وقد أعادني كلام المعارض السوري إلى آخر حديث صحافي للأستاذ محمد حسنين هيكل، حيث قال نصا “هناك تناقض تاريخي بين إيران وروسيا، وهناك شك طبيعي روسي. التجربة الشيوعية في روسيا لم تكتمل ولكنها تركت مواريث ثقافية أثرت في أمور كثيرة، ما قام به ستالين وخروتشوف أو غورباتشوف أنهم نظروا إلى مطالب روسيا في المنطقة بمقدار قوّتها. والصراع التاريخي بين روسيا وإيران طويل جداً وكذلك التداخل بينهما، وصيغ التعايش في ما بينهما لم تعش كثيراً، فالشاه حاول ومنْ قَبْله، والروس يرغبون في فترة من غير مشاكل كما يرغبون بسلام مع كل حدودهم (مع أوروبا أو مع الجنوب) لأنهم يشعرون أنهم يحتاجون إلى إعادة بناء واسعة جداً، فأحوالهم ليست جيدة. روسيا لا تزال بلد عالم ثالث، وهي غنية بالموارد، وقد دخلت في ثورة صناعية حقيقية، برغم أنها عالم ثالث ولكنها في أفضل حالات العالم الثالث”.

ولو نظرنا إلى سياق العلاقة الثلاثية بين الأسد وطهران وموسكو، سنجد أن حديث المعارض السوري لم يخل من وجاهة، فإيران حرّضت الأسد على التشدد والاستهانة بالنصائح الروسية، وقد لاحظنا ثلاث محطات لذلك، الأولى قول الأسد بأنه سيستعيد كل أراضي سوريا بالقتال، وقد علّق الكرملين بأنّ تصريحات الأسد تتناقض مع الجهود الدبلوماسية الروسية وعلى الرئيس السوري أن يفكر في الخروج من الأزمة بكرامة، والثانية هو عزم الأسد على إجراء انتخابات نيابية في مخالفة للقرار الدولي 2254، وأخيرا تصريح وليد المعلم بأن الحديث عن مصير بشار الأسد في مفاوضات جنيف خط أحمر، وجاء الرد الروسي بقرار الانسحاب، وظهر البرود بين طهران وبوتين على السطح.

مع تباعد المسافة بين الأسد وبوتين، تتقارب المسافات بين موسكو والرياض، بداية من التعاون النفطي، وليس انتهاء بالحفاظ على المصالح الروسية في سوريا، مع التأكيد على أن نقطة الخلاف هي موعد رحيل الأسد، في بداية العملية الانتقالية كما تريد الرياض، أو في نهايتها كما تقترح روسيا، والنتيجة ستتضح خلال مفاوضات جنيف التي تركّز راهنا على العملية الانتقالية.

التحق بوتين بقائمة عريضة من زعماء العالم الذين وجدوا بأنه لا جدوى من التعامل مع الأسد، جاك شيراك وحسني ومبارك وعبدالله بن عبدالعزيز ورجب طيب أردوغان وغيرهم، فهو يعاني من جنون العظمة ولا يلتزم بوعد، فضلا عن أنه مرفوض شعبيا وإقليميا ودوليا، وقائمة جرائمه العابرة للحدود من لبنان إلى العراق مرورا بفلسطين وسوريا لا حصر لها، اكتشف بوتين متأخرا أن حربا من أجل الأسد لا مصير لها غير الهزيمة والعار، لم يربح بوتين من تدخّله السوري غير “تدريب قواته” على استهداف المدنيين وفق وصفه، تدخلت إيران وعجزت عن تثبيت الأسد وكذلك روسيا، وهذا دليل مصداقية ووهج الثورة السورية النبيلة، وقريبا سيحتفل الأحرار بلحظة الانتصار، وما النصر إلاّ من عند الله.

 العرب   أحمد عدنان