لبنانيو “داعش” قادمون
21 مارس، 2016
قبل أيام، نشر تنظيم “داعش” شريطَ فيديو يُحرّض فيه شابان لبنانيان “أهل السنة والجماعة” على الانتفاض ضد “حزب الله” والجيش اللبناني، وعلى مجمل القوى السياسية اللبنانية بما فيها تيار “المستقبل”، ومبايعة “الخليفة إبراهيم”.
اللافت في الفيديو صدوره عن “المكتب الإعلامي لولاية الرقة”. ولهذه المركزية دلالة أمنية خاصة، فالرقة خططت لعمليات باريس الواسعة النطاق عبر مقاتلين فرنسيين وبلجيكيين غالبيتهم من أصول مغاربية. واستخدام “داعش” مخزونه من المقاتلين الأجانب لاستهداف دول بمواطنين اكتسبوا خبراتٍ عسكرية مهمة في سوريا والعراق، أثار قلق دول غربية. مثلاً، بريطانيا تُحضر لاحتمال وقوع ١٠ اعتداءات متزامنة في لندن، وفق صحيفة “ذي صنداي تايمز”. ولهذا الغرض، تستعد قواتها المظلية الخاصة (أس آي أس) والشرطة لهذه الاحتمالات، وحتى لفرضية التفجير الكيماوي أو البيولوجي، وفقاً للتقرير ذاته. وأساس هذه التحضيرات الاستثنائية، تعزيز القدرة على الانتشار في أماكن حساسة لتجنب وقوع عدد كبير من الضحايا في صفوف المدنيين برصاص مسلحين كما حصل في فرنسا، ومراقبة المشتبه بانتمائهم إلى التنظيم، ولا سيما المهاجرين إلى سوريا والعراق.
في المجالين، يواجه لبنان تحديات كبيرة. أولاً، تُعاني القوى الأمنيّة اللبنانيّة ضعفاً، إن كان في التمويل، أو في العديد والمعدات وغياب القوة الجوية، علاوة على انتشاره الواسع على جبهات داخلية وحدودية. وعلى الرغم من القدرات الأمنية والاستخباراتية المتمثلة بمخابرات الجيش اللبناني وفرع “المعلومات”، إلا أن عدد المقاتلين كبير نسبة إلى السكان، إذ يراوح بين بضع مئات و٩٠٠. وقد يزيد على ذلك إذا احتسبنا الأستراليين من أصول لبنانية، ومنهم من نزعت عنهم كانبيرا جنسيتهم الثانية، فباتوا لبنانيين فحسب. ووفق مصدر مُطلع من “الرقة”، فإن التنظيم أوصى مطلع عام ٢٠١٥، في قرار “مفاجئ وغير مفهوم”، بعودة المقاتلين اللبنانيين إلى بلدهم حيث “اندمجوا في مجتمعاتهم”. هل هم فعلاً تجاوزوا تجربة القتال والتشدد أم أنهم “قنابل موقوتة” يتم تحريكهم من بعد، تماماً كما حصل مع الانتحاري التركي محمد أوزترك الذي فجر نفسه في شارع الاستقلال وسط اسطنبول الأسبوع الماضي؟ ما يُرجح الفرضية الثانية أن الفيديو ليس حديثاً، وفقاً للتحليلات الأولية، إذ نشر صورة للرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان ولم يذكر أحداثاً خلال السنتين الماضيتين.
الواقع أن هؤلاء المقاتلين اللبنانيين تلقّوا تدريباً، إعلامياً وعسكرياً وشرعياً، واكتسبوا خبرات في أراضي سيطرة التنظيم، وشكلوا كادراً يفوق بأضعاف عدد العائدين اللبنانيين من حرب أفغانستان في تسعينات القرن الماضي، والذين خاضوا حرب الضنية ضد الجيش اللبناني نهاية عام ١٩٩٩. وحرب الضنية، بما تختزنه تجربتها من كمائن وحرب عصابات، وليس التفجيرات الأخيرة في الضاحية الجنوبية لبيروت، تُشبه أكثر الاستراتيجية الخارجية للتنظيم، التي ظهرت معالمها الأولى قبل شهور في أوروبا، ثم تبلورت في هجوم على بلدة بن قردان التونسية في السابع من آذار/ مارس الجاري. انطلاقاً من الأراضي الليبية، شن مقاتلون تونسيون ينتمون إلى “الدولة الاسلامية” هجوماً مسلحاً على بن قردان التونسية، صدّه الجيش وقوى الأمن بعد معركة دامية أودت بحياة ٥٣ شخصاً بينهم ٣٥ مقاتلاً و١١ عسكرياً و٧ مدنيين. ووفق التقارير التونسية، فإن التنظيم حاول إيجاد موطئ قدم له في بن قردان، انطلاقاً من ليبيا، بما يتماشى مع استراتيجية التمدد بعد السيطرة على الأرض. ويأتي هذا الهجوم بعد أنباء عن “هجرة” عدد مهم من عناصر التنظيم المغاربة من سوريا إلى ليبيا لأسباب متنوعة، أبرزها طموح بعضهم بالتمدد في بلدانهم بعد اكتسابهم خبرات قتالية عالية.
لكن هل يريد “داعش” التمدد إلى لبنان على غرار التجربة التونسية الأخيرة؟
في الفيديو الأخير للتنظيم ما يؤشر إلى هذا الاتجاه. أظهر الشابان “أبو خطاب اللبناني” (عمر الساطم) و”أبو عمر الشامي” (بسام بيتية) وجهين جديدين لـ”الدولة الاسلامية” في لبنان. “أبو خطاب” المسلح برشاش، ويرتدي بزة عسكرية كاملة لا بل منمقة، و”أبو عمر الشامي” الذي يتحدث ببلاغة وطلاقة وثقة ليس لها بين مشايخ السلفية في لبنان مثيل يُذكر. وما يؤكد هذه الثقة حقيقة أن المتحدثَين في الفيديو لم يخفيا وجههما كما درجت العادة في التسجيلات الجهادية، بل ظهرا بكل وضوح، ما سمح للإعلام بكشف هويتهما سريعاً. في تحريضه “أهل السّنة” على الانتفاض ضد زعمائهم السياسيين والجيش اللبناني، كان لافتاً استخدام “أبو خطاب” آية “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة”، وهي ربما تدل في التاريخ العسكري للتنظيم، على تجربة مدينة الموصل حيث طرد مئات المقاتلين في عملية خاطفة عشرات آلاف الجنود العراقيين. ولبنان أقرب إلى العراق في هذا المضمار، إذ يملك توتراً مذهبياً ومظلومية سُنية تفتقدهما تونس، ويُشكلان بيئة ملائمة للتنظيم يتغذى من الفتنة السنية- الشيعية. ولبنانيو “داعش”، على الرغم من عددهم الكبير نسبياً، لم يلعبوا دوراً قيادياً في تنظيم صلبه عراقي، بل بقوا على هامشه. وقد تكون اللحظة اليوم ملائمة كي يلعبوا دوراً في دولة تُعاني فراغاً وأزمة ولا رئيس لها، وهي غير مستعدة لمثل هذا الاستحقاق، لا مالياً ولا اقتصادياً ولا شعبياً.
إنها لعبة البحث عن فجوة للتسلل إلى دولة يحكمها الفراغ.
المصدر: المدن – مهند الحاج علي