المعارضة السورية حائرة أمام الانسحاب الروسي من سوريا


المعارضة السورية حائرة أمام الانسحاب الروسي من سوريا

المعارضة السورية حائرة أمام الانسحاب الروسي من سوريا

العرب اللندنية – باسل عودات

مازال الانسحاب الروسي -الجزئي- من سوريا يشغل المراقبين والمتابعين لمجريات الأزمة السورية، ومازالت القراءات التي رافقت هذه الخطوة متواصلة في أكثر من اتجاه. لكن يبدو أن فرضية الانسحاب بهدف الضغط على الأسد باتت غير مجدية وغير مقنعة في ظل نفي الكرملين الأمر والتهديد بالعودة خلال سويعات، هذا فضلا عن العتاد العسكري الذي تركته موسكو في القاعدة العسكرية التي ثبتتها على الساحل السوري.

بعد قرار روسيا المفاجئ سحب جزء من قواتها العسكرية من سوريا، رجّحت المعارضة السورية وأوساط أوروبية وجود اتفاق روسي ـ أميركي يُنهي الأزمة السورية، ورأت أن هناك تحوّلا في الموقف الروسي وبداية افتراق عن النظام السوري الذي دعمته بشكل مطلق منذ انطلاق الثورة السورية قبل خمس سنوات، وعرقلت كل قرارات مجلس الأمن التي تدين النظام السوري ويمكن أن تدفعه لوقف الحل العسكري ضد الشعب.

استندت المعارضة السورية في تأويلها للانسحاب الروسي الجزئي إلى فرضيات متعددة ليس بينها أي فرضية حاسمة أو لها انعكاسات بطريقة تعامل الروس مع الأزمة السورية، وافترض البعض أن روسيا بدأت رحلة تخليها عن الأسد بعد أن شاكس ورفض حلّها السياسي الذي يقضي بتنازله عن السلطة خلال 18 شهرا، وافترض آخرون أنها أيقنت استحالة تحقيق النصر عسكريا دون وجود قوات برية وأنه بات من الأفضل لها أن تدعم الحل السياسي، فيما افترض البعض أن روسيا بدأت تخسر عسكريا وفضّلت أن تنسحب قبل الغرق في المستنقع السوري الذي شبهوه بالمستنقع الأفغاني، وجزم اقتصاديون أن روسيا لم تعد تحتمل الكلفة العالية للحرب وقررت الانسحاب حتى لا تُرهق اقتصادها المُتعب أصلا.

انعكاسات مختلفة

التصريحات الروسية كانت مناقضة لكل ما سبق من فرضيات، فقد أكّدت على أنها نسّقت هذا الانسحاب مع السلطات السورية، ونفت أن يكون انسحابها رد فعل على مشاكسة قام بها النظام السوري، أو أن هدفها إضعاف الأسد ميدانيا أو الضغط عليه لتقديم تنازلات في مفاوضات جنيف، كما نفت أن تكون وراء الانسحاب أسباب اقتصادية، ونبّهت كل الأطراف من أنها قادرة على العودة إلى سوريا خلال ساعات. وأتبعت روسيا التصريحات بالأفعال، فبعد رصد عشرة أيام تالية لإعلانها انسحابها تبيّن أنها لم تسحب كل شيء، وأبقت جزء هام في قاعدتها الجوية والبحرية في الساحل السوري. فقد أبقت حوالي أربعين طائرة مقاتلة وألف ضابط وخبير، ولم يتوقف الطيران الروسي عن شن الهجمات على مواقع المعارضة أوقعت خسائر كبيرة بين المدنيين بحجة استهداف تنظيم داعش، وتبيّن من تعنّت وفد النظام في جنيف بأن روسيا لم تضغط عليه لتخفيف تشدده.

يقول أحد المعارضين البارزين الباقين في سوريا إنه من الصعب تخيّل أن ترضى روسيا بأن تفقد آخر معاقلها في الشرق الأوسط خصوصا والعالم العربي عموما، كما من الصعب التخيّل أن النظام يمكن أن يُشاكس روسيا، فهو وقّع معها مؤخراً على اتفاقية عسكرية سلّم بموجبها رقبته وقراره العسكري وحتى السياسي لها، وهذا بالتأكيد كان ثمنا لحمايته الآن وفي ما بعد.

ويبدو أن ما يعتقده المعارض السوري أقرب للمنطق، فروسيا ثبتت ولأجل غير مُسمّى تواجدها في قواعدها العسكرية في المتوسط، وبات لها موطئ قدم يُحسب له حساب دولي سواء أكانت هذه القواعد مليئة بالعسكر أم فارغة، وهو أهم سبب جاءت إلى سوريا من أجله، كما يبدو أن النظام ليس بحاجة للمشاكسة، فروسيا أمّنت له الحماية ولنظامه البقاء على الأقل لسنة ونصف السنة، الموعد المُفترض ـ والمُستبعد ـ للانتخابات الرئاسية التي أشار لها القرار الدولي 2254.

يقول المعارض السوري وليد البني لـ”العرب”، “لقد تأخرت في فهم مدلولات إعلان روسيا عن سحب قواتها من سوريا لأنني كنت بحاجة لمراقبة أمرين، الأول سلوك وفد النظام في جنيف ومدى المرونة التي سيبديها سواء لجهة موافقته على إلغاء الانتخابات البرلمانية الكاريكاتورية التي أعلن عنها الأسد أو لجهة التعامل مع فكرة الانتقال السياسي والانتخابات الرئاسية في نهايتها، والثاني التصريحات الروسية بعد الانسحاب وحجم الانسحاب الذي سيتم، لكن وبعد مراقبة موقف وفد النظام المتشدد واستمرار القصف الروسي وضآلة حجم الانسحاب العسكري الروسي، بتُّ مقتنعاً بأن سبب إعلان روسيا انسحابها من سوريا هو الضغوط التي حاولت الولايات المتحدة وأوروبا والسعودية ممارستها على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومنها إمكانية تزويد الثوار بأسلحة مضادة للطيران، كي تدفعه للضغط على الأسد للقبول بالخروج من السلطة، وروسيا ليست بحاجة لخداع أحد، هي تضغط ولا تخدع″.

ونفى البني أن يكون موقف وفد النظام في مفاوضات جنيف مكابرة، وقال “إن موقف وفود النظام هو نفسه لم يتغير منذ جنيف الأول، النظام ليس غبيا وهو يعلم أن المكابرة قد تجعل مصيره مشابهاً لمصير نظام القذافي ومصير عائلة الأسد لن يكون مختلفاً، لذلك لو كانت هناك مواقف دولية وعربية تُشعره بالخطر فعلا لتغيرت مواقفه فورا”.

من جهته وصف المعارض السوري إياد بركات السياسة الروسية بـ”المُتلونة”، وقال لـ”العرب”، “بعد سنة من بدء الثورة، حمّلت روسيا بعض مسؤولية قتل السوريين للنظام بعد أن كانت تتهم المعارضة بقتلهم، لكن السوريين لم يفرحوا بموقفها هذا إذ سرعان ما قالت إن تصرفات النظام هي رد فعل طبيعي للدفاع عن سوريا، وبعد سنة ونصف السنة من بدء الثورة قالت إنها لا ترتبط بالأسد بأي صداقة، واستبشر السوريون خيرا، ثم تبيّن أن علاقتها بالأسد أكثر لصقا من أي وقت مضى، كما تحدثت عن وحدة سورية وتبيّن أنها مهّدت الطريق للنظام لإعلان الانفصال في ما لو وُضع في الزاوية، وعلينا ألا نُخطئ تفسير سحب قواتها العسكرية، فهي بالتأكيد لم تقم بذلك من أجل المعارضة”.

من الممكن مناقشة “تلوّن” السياسة الروسية بالنسبة للأزمة السورية، على الأقل من باب علاقتها بالمعارضة السورية، ففي بدايات الثورة طرحت روسيا نفسها كوسيط حيادي حريص على مصلحة النظام والمعارضة على حد سواء، وأقامت علاقات جيدة مع هيئة التنسيق وقوى سياسية أخرى ربطت مواقفها بالموقف الروسي متحدية بقية تيارات المعارضة، وسرعان ما تخلّت روسيا عن الهيئة وغيرها بسهولة في مراحل لاحقة، وراهن عليها بعض الديمقراطيين السوريين وتبيّن لهم أنها تسعى لتعويمهم لتبني وجهات نظرهم.

الشرق الأوسط كقضية استراتيجية

لا تخفي أوساط دبلوماسية أوروبية قناعتها بأن التدخل الروسي في سوريا والخروج منها يأتي كلهما بضوء أخضر أميركي مسبق، خاصة وأن هذا الملف الدولي عالي الحساسية والأهمية للولايات المتحدة التي تمتلك أوراق ضغط كثيرة لإحراج روسيا في غير مكان، فالشرق الأوسط قضية استراتيجية تمس الأمن القومي الأميركي ولا مجال للمساومة عليه، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن التفاعل الأوروبي مع تدخل روسيا وانسحابها كان سريعا وإيجابيا بشكل لافت، فهي لم تُبد قبل ستة اشهر أي قلق أو رفض للتدخل الروسي. وبما أن أوروبا لا يمكن أن تنافق من أجل روسيا، فإنها في الغالب وافقت لأنها اطلعت على خارطة طريق أميركية تُلبي مصالحها وتوازن العصا من منتصفها.

يمكن دعم هذه النظرية بمراقبة تململ روسيا من رفض الولايات المتحدة، فبالأمس عقد اجتماع عاجل بشأن انتهاكات اتفاق وقف العمليات القتالية في سوريا والمطبق منذ ثلاثة أسابيع، وهذا الاجتماع يصب نظريا لصالح الولايات المتحدة على اعتبار أن الغالبية العظمى من الانتهاكات يقوم بها النظام، ورغم هذا فقد أبدت روسيا انزعاجها لأنها على ما يبدو غير قادرة على التصرف في ملف فرعي من هذا الحجم دون موافقة ومباركة أميركية، فكيف بملف أكبر كالتدخل العسكري والانسحاب.

أكّدت مصادر عسكرية سورية منشقة رفيعة المستوى متواجدة في أوروبا لـ”العرب” أن “الحل الداخلي السوري بات مستحيلا”، وقالت إنه “لا بد من تدخل خارجي لإنهاء الأزمة السورية، وهذا التدخل برأيها يتمثل بقوات عربية أوروبية مشتركة مدعومة أميركياً ومُسلّحة بقرار أممي”، وشددت على أن هذه الخطوة “تجاوزت مرحلة البحث النظري بالنسبة للولايات المتحدة وانتقلت لمرحلة دراسة التفاصيل العملية”.

وتحدثت عن أسباب تدخل روسيا العسكري السريع وانسحابها المفاجئ، وقالت “المتفق عليه بين روسيا والولايات المتحدة أن يسبق التدخل العربي ـ الدولي تشكيل مجلس عسكري مشترك من طرفي الصراع، يترافق مع إنهاء التواجد الإيراني، وتحجيم دور حزب الله، وحل ميليشيات النظام أو إجبارها على الاندماج بالجيش، وتدخل روسيا العسكري جاء لهذا الهدف، ثم الانتقال لضبط الأمن في المناطق التي يسيطر عليه الطرفان، وإضعاف الأطراف غير الموافقة على الحل، وبالتدريج الانتقال للمناطق الأكثر تعقيداً التي يسيطر عليها تنظيما الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، وبالتوازي تسير العملية السياسية، وربما خروج روسيا لتسهيل هذا الهدف”.

يبدو نظريا أن هناك انعكاسا على الأرض لهذه الفرضية، فبعد التدخل الروسي العسكري تراجعت الهيمنة الإيرانية على قرار النظام بشكل واضح، وتوقف نسبياً تمدد حزب الله، ودمج النظام كثيراً من ميليشياته المنفلتة بتشكيلات الجيش والحرس الجمهوري، ووافق النظام على العودة لطاولة المفاوضات مع أطراف كان يتهمها، كعادته، بالإرهاب ويؤكد على أنه لن يُفاوضها، مع تسريبات بإجراء النظام مؤخراً تغييرات في تركيبة الحرس الجمهوري.

يُؤمن كثير من المعارضين السوريين أن إعلان روسيا انسحابها العسكري لا يعني بالتأكيد سحب النفوذ الروسي من هذا البلد، ولا وقف دعمها للنظام، بل هو تمهيد لشكل آخر من التدخل، ومقدمة لأحداث أخرى.

المعارضة السورية حائرة أمام الانسحاب الروسي من سوريا الاتحاد برس.