on
ما سبب الانسحاب الروسي من سوريا؟
إذا كان قرار الرئيس الروسي سحب القسم الأكبر من القوات العسكرية الروسية من سورية مفاجئاً من ناحية التوقيت، فإنه غير مفاجئ من حيث المبدأ، ذلك أن التدخل العسكري الروسي في سورية لم يعد له معنى على الصعيد العسكري في ظل الهدنة المستمرة.
لقد حققت روسيا أهدافها الرئيسية الثلاث من تدخلها العسكري في سورية: أولاً من خلال فك العزلة الدولية عنها وإعادتها بقوة إلى المسرح الدولي، والثاني إبعاد أي خطر ميداني يهدد النظام، وتمكين الأخير من المحافظة على المنجزات العسكرية التي تحققت كخطوة ضرورية قبيل انطلاق مفاوضات جنيف السياسية، وثالثاً تثبيت تواجدها الاستراتيجي في سورية عبر قاعدتين عسكرتين، بحرية في طرطوس وجوية في اللاذقية.
لكن السؤال المهم ليس متعلقاً بعملية الانسحاب العسكري في ذاتها وإنما في توقيت الإعلان الذي تزامن مع يوم انطلاق مفاوضات جنيف وبعد يومين من تصريحات وزير خارجية النظام وليد المعلم التي نسف فيها أسس العملية السياسية.
ثلاث رسائل سياسية وراء توقيت إعلان الانسحاب:
1 وقف فائض القوة لدى النظام عبر تثبيت الاستثمار السياسي للإنجازات العسكرية عند حد معين، وبالتالي إعطاء الأولوية للمستوى السياسي، وهذا ما أكده بوتين في اتصاله مع الأسد “إن الوقت قد حان لأن تؤدي الديبلوماسية دورها” وما أكده أيضاً خلال اجتماعه مع وزيري الدفاع والخارجية في الكرملين.
هي رسالة سياسية للنظام السوري في المقام الأول بعدما ضرب الأخير الجهود الروسية بعرض الحائط ثلاث مرات، الأولى حين أعلن الأسد رفضه الهدنة وأنه ماض في القتال، فجاءه الرد من المندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركن الذي قال إن تصريحات الأسد لا تتماشى مع الجهود الديبلوماسية التي تقوم بها روسيا، ومع أن تصريح تشوركن كان تصريحاً شخصياً بحسب قوله، لكن شخصاً بمستواه السياسي لا يطلق تصريحات ارتجالية أو شخصية من هذا النوع لو لم تكن تعكس الموقف الحقيقي لموسكو.
والثانية حين حدد الأسد موعداً لإجراء انتخابات تشريعية، فجاءه الرد من المتحدثة باسم الخارجية الروسية التي أعلنت في مؤتمر صحافي إن الانتخابات تجري بالتوافق مع المعارضة وضمن المرحلة الانتقالية.
وأخيراً جاء الامتعاض الروسي من تصريحات المعلم التي ضرب فيها جميع التفاهمات الروسية الأميركية المتمثلة في اجتماعي فيينا وفي القرار الدولي رقم 2254، وكانت المكالمة الهاتفية التي أعقبت هذا التصريح بين لافروف والمعلم ومن ثم بين بوتين والأسد دليلاً على الاستياء الروسي.
لقد كانت الرسالة الروسية واضحة: أي محاولة لإفشال جنيف من قبل النظام لن تكون روسيا جزءاً منها، وعلى دمشق تحمل تبعاتها، أما إعلان موسكو استمرار دعمها النظام فهي رسالة ليست له وإنما للأطراف الإقليمية والدولية إذا حاولت الخروج على نص التفاهمات الروسية الأميركية.
2 رسالة سياسية إلى الأطراف الإقليمية الداعمة للمعارضة مفادها أن موسكو ليست متمسكة بشخص الأسد لكنها متمسكة بأسلوب حل الأزمة السورية، وأن موسكو لا تريد ضرب المصالح الإقليمية في سورية وبالتالي دفعها إلى التحرك مع تركيا في الشمال السوري.
والأهم من ذلك أن موسكو لا تريد حصول مجابهة مع السعودية كما جرى مع تركيا، إذ تبدو موسكو اليوم بحاجة كبيرة إلى الرياض في ما يتعلق بالتفاهم على تثبيت إنتاج النفط العالمي عند مستويات كانون الثاني (يناير) الذي تم التوصل إليه الشهر الماضي في الدوحة بحضور وزير النفط السعودي.
ومن المتوقع أن يعقد الشهر المقبل اجتماع بين منتجي النفط في موسكو من أجل التوصل إلى اتفاق عالمي لتجميد الإنتاج لا يمكن أن ينجز من دون توقيع الرياض في ظل تخمة المعروض.
وروسيا بحاجة إلى هذا الاتفاق في ضوء الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها وفي ضوء حسابات وزارة المالية الروسية التي توقعت ارتفاع رسوم تصدير النفط في البلاد 39 في المئة على أساس شهري للطن في نيسان (أبريل) المقبل.
وليس صدفة أن يكون الخطاب السياسي الروسي تجاه أنقرة حاداً بينما هو مع الرياض عقلاني وموضوعي ومنفتح على رغم تناقض الموقفين حيال سورية، حيث تأمل روسيا أن تتم زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إليها في أسرع وقت.
3 رسالة سياسية إلى الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة أن روسيا ملتزمة بتعهداتها وقد أثبتت أنها جزء من الحل وليست جزءاً من المشكلة، ومن شأن ذلك أن يفتح باب الحوار حول أوكرانيا وحول الدور الروسي على مستوى أوسع، وربما تشبيه المسؤولين الروس الانسحاب العسكري من سورية بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 فيه من الدلالة ما يكفي على النتائج التي يمكن أن تحصل في حال تعاونت موسكو وواشنطن معاً.
وتأمل موسكو أن تمهد الخطوة السورية هذه إلى فك العقدة الأوكرانية بإنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للانتقال إلى مرحلة أخرى من التعاون على المستوى العالمي في ظل تصور روسي لواقع عالمي جديد يتقاطع مع تصورات أوباما.
*الحياة