لا مصالحة بين الجماهير والعقل؟

26 آذار (مارس)، 2016

8 minutes

(خاص السورية. نت 17/ 12/ 2014)

(1/ 2)
كتاب غوستاف لوبون (1841 -1931) “علم نفس الجموع” Psychologie des foules الذي صدر عام 1895 كان له تأثير بالغ عند مفكرين أوروبيين كثيرين من أشهرهم مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد (1856-1939)، ومنظّر علم الاجتماع الألماني الكبير ماكس فيبر (1864-1920).

حاشية على روح الجماهير (صعود الحضارات وانحطاطها)

محمد عبد النور

الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2014

154 صفحة

ينطلق الكتاب من منظور شديد السلبية للجموع، وفي الكتاب الذي نعرضه الآن يكتب السوسيولوجي الجزائري الذي يدرّس في جامعة غرداية محمد عبد النور “حاشية” عليه، وقد صدر الكتاب عن “الدار المتوسطية للنشر” -تونس -2014، وهو يتألف من 154 صفحة.

يتعاطف المؤلف مع الاتجاه المشكّك بدور العقل في التاريخ عموماً وفي حركة الجموع خصوصاً، وهو يعلن ذلك في مقدمة الكتاب: “ليس الكتاب كتاب منطق، بل المنطق ضرب من التكلف غير المجدي” (ص5).
ويرى المؤلف أنه لا المجتمعات الغربية قامت على العقل ولا المجتمعات الشرقية بمستطاعها النهوض برفع شعار العقل (ص5). والكتاب استعراض لآراء لوبون وتعليق عليها، وليس من الواضح دائماً متى ينتهي رأي لوبون ويبدأ رأي المؤلف!
يرى لوبون أن عواطف الجمهور لها صفتان: التضخيم والتبسيط، وأن الجماهير متعصبة ولكن لها نزعة محافظة فهي تتأرجح بين طبعين متطرفين هما الانتقال من العبودية إلى الفوضى ومن الفوضى إلى العبودية (ص28). إن الجماهير تغيّر أسماء مؤسساتها عن طريق ثورات عنيفة، ولكنها تبقي في عمق هذه المؤسسات على مضامين تعبر عن حاجياتها الوراثية المرتبطة بالعرق.

عواطف الجمهور لها صفتان: التضخيم والتبسيط، وأن الجماهير متعصبة ولكن لها نزعة محافظة فهي تتأرجح بين طبعين متطرفين هما الانتقال من العبودية إلى الفوضى ومن الفوضى إلى العبودية. إن الجماهير تغيّر أسماء مؤسساتها عن طريق ثورات عنيفة، ولكنها تبقي في عمق هذه المؤسسات على مضامين تعبر عن حاجياتها الوراثية المرتبطة بالعرق. لوبون

ليس مصطلح “العرق” من المصطلحات المحببة الآن في الغرب، لكننا ننسى أن النظرية العرقية كانت سائدة في أوروبا طيلة القرن التاسع عشر، وكان للفرنسيين منها نصيب وافر، بل واحد من أهم منظريها كان الفرنسي جوزيف غوبينو (1816 -1882)، وقد امتدت النظرية لتشمل حقولاً مثل النقد الأدبي كما هي عند هيبوليت تين (1828-1893) علاوة على تأثيرها المعروف في المستشرقين ومنهم أرنست رينان (1823 -1892).

ومن الطريف أن نعرف أن هذه الآراء العنصرية التبخيسية بحق العرب و”الساميين” لم تلق مقاومة من قبل كتاب ونقاد “العصر اللبرالي” بل تم استيرادها والأخذ بها على أنها “آخر مكتشفات العلم” (وتجد آثارها عند العقاد والمازني وأحمد أمين وحتى الرافعي لم ينج من تأثيرها!). ومن المؤسف أننا الآن أيضاً لا نجد أن مؤلف الكتاب الذي نعرضه يبدي أي حساسية تذكر تجاهها! عن أفكار الجماهير يرى لوبون أنها تنقسم إلى نوعين: أفكار طارئة عابرة مثل الانبهار بفرد أو عقيدة ما وأفكار ثابتة عميقة مثل الأفكار الدينية والسياسية، ولا يمكن للأفكار التي يوحى بها إلى الجماهير أن تصبح ذات أثر فاعل إلا إذا اتخذت شكلاً بسيطاً بحيث لا ترتبط بدليل منطقي وإنما تتجسد على هيئة صور.

يرى لوبون أن أفكار الجماهير تنقسم إلى نوعين: أفكار طارئة عابرة مثل الانبهار بفرد أو عقيدة ما وأفكار ثابتة عميقة مثل الأفكار الدينية والسياسية، ولا يمكن للأفكار التي يوحى بها إلى الجماهير أن تصبح ذات أثر فاعل إلا إذا اتخذت شكلاً بسيطاً بحيث لا ترتبط بدليل منطقي وإنما تتجسد على هيئة صور.

يضرب لوبون مثل الهنود الذين تعلموا في الجامعات الأوروبية ونالوا الشهادات العلمية ولكن الأفكار التي تعلّموها ظلت على سطح المخزون الثابت لأفكارهم الدينية والاجتماعية الموروثة دون تغيير. والمؤلف يؤكد رأي لوبون ويعممه: “والمؤكد أن هذا المثال ينطبق دون تحفظ على الطلبة المسلمين الذين يتلقون تعليمهم في الدول الغربية، إذ وبعد عودتهم لا يكون ما تعلموه إلا سطحياً بالنسبة لتكوينهم العرقي والثقافي مهما بدا من تعصبهم لأفكار الحداثة والتقدم التي يظنون أنهم قد تغيروا بها إلى الأبد” (ص33).
ويقيس المؤلف على ذلك المجتمعات الحضرية التي تكاد تنعدم فيها المظاهر التراثية للثقافة والعمران الأهليين وتكتسحها مظاهر الحياة والمؤسسات الحديثة، ولكن الأمر لا يتعلق إلا بالسطوح الظاهرية لتلك المجتمعات”.

ولكي تترسخ الأفكار فإنه يلزم وقت طويل ولا يقل عنه طولاً الوقت اللازم لتخرج الأفكار منها! (ص35). ولذلك “الجماهير متأخرة عن العلماء والفلاسفة بعدة أجيال”! (ص35). هذه الحقيقة المرة بالنسبة للمفكرين تدفعهم إلى التنازل كثيراً عن منطقهم العقلي الصارم كي يحققوا التعايش مع مجتمعاتهم، فهي حقيقة تفصم شخصياتهم إلى شطرين، وهم لا يحققون التأثير المطلوب لأفكارهم إلا من خلال بسطها في مستوى مدارك الجمهور وعواطفه، حتى يمكن إنفاذ جزء ولو يسير منها حتى يتقبلها الجمهور ويتبناها لا كأفكار تحمل براهين منطقية ولكن كعواطف راسخة تصنع تصوراتهم وترسم سلوكهم (ص36).

يزعم لوبون أن لمنطق الجماهير خاصتين أساسيتين: أ- الربط بين الأشياء المتنافرة التي ليس بينها إلا علاقات سطحية. ب- القيام بالتعميم المباشر للحالات الفردية دونما استقصاء. والخطباء يستعملون هذه الخاصية في التلاعب بالجماهير عبر الربط السطحي بين الأشياء.

إن لم تحدث البرهنة المنطقية والعقلية أثراً فورياً على الجماهير فما طبيعة البرهنة والحجج التي تؤثر عليها إذن؟
يرى لوبون أن صلة محاججة الجماهير بالمنطق ليست إلا ظاهرية، على طريقة الأسكيمو الذين يستنتجون من ذوبان الجليد بالفم أن الزجاج الشفاف سيذوب فيه أيضاً ويشبه التعميم الذي يطلقه العامل على جميع أرباب العمل عندما يستغله رب عمله (ص37). وتستطيع أن ترى في هذه التعميمات أن لوبون منحاز عنصرياً وطبقياً! لكن المؤلف لا يبدي نقداً لهذا الانحياز.
يزعم لوبون أن لمنطق الجماهير خاصتين أساسيتين: أ- الربط بين الأشياء المتنافرة التي ليس بينها إلا علاقات سطحية. ب- القيام بالتعميم المباشر للحالات الفردية دونما استقصاء. والخطباء يستعملون هذه الخاصية في التلاعب بالجماهير عبر الربط السطحي بين الأشياء.

وعن خيال الجماهير وتصوراتها يرى لوبون أن المسرحيات والسينما والإعلام تقدم النموذج الأوضح لضخامة التأثير الذي تقوم به الصورة على الجماهير، وحين هلك خمسة آلاف شخص في بضعة أسابيع في فرنسا بالإنفلونزا لم يؤثر ذلك لأن هذا لم يتجسد على شكل صورة، على حين أثّر عميقاً في الجماهير عبر قارب فقدت آثاره في المحيط الأطلسي لأن الإعلام ركّز عليه. ويرى أن “معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها” (ص42).

نهاية الجزء الأول

محمد شاويش – برلين