النظام الأسدي أقدم الأنظمة الشمولية الحديثة


 

منذُ تأسيسه على يد حافظ الأسد وحتى الوقت الراهن، يبدو النِظام الأسدي وكأنه يستحوذ على مجموعة من الخصائص التي مكنته من السيطرة «المادية» والهيمنة «الخِطابية» على المُجتمع والحياة العامة السورية، وفوق ذلك استحوذ على جُملةٍ من الأدوات التي حصل عبرها على شرعيّة الحُكم، إن في الداخل، أو في التوازنات الإقليمية والاعتراف الدولي. هذه الأشياء التي مكنت النِظام الأسدي من أن يكون من أقدم الأنظمة الشمولية استمراراً في التاريخ الحديث، قاربت 46 عاماً.

تُشكل «الأيديولوجيا الرسميّة» أولى خصائص الحُكم التوتاليتاري، فصِناعة «الدين الرسمي» هي أولى مُنتجات هذه الأنظمة، لأنها تخول المؤسسات الحاكمة أن تُعنّف وتُقصي وتعزل المُعترضين عليها بثوبٍ من الشرعيّة، عبر نعت هؤلاء بتجاوز هذه «الأيديولوجيا الرسميّة» التي يُظهرها النِظام وكأنها مُطابقةٌ ومُمثلةٌ لمصالح وتطلُعات هذه المُجتمع المحكوم من قِبله.

استطاعت الأسديّة تجاوز هذا المعيار عبر تحويل الإيديولوجيا الرسميّة إلى «الخِطاب الرسمي». لأن هذه الأيديولوجيا الرسمية التي مثلتها «النزعة القوميّة البعثيّة»، كانت شديدة الثقل على النُخبة الأسديّة التي صعدت مع انقلاب عام 1970 المؤسس للنِظام. أولاً: لأنهم بالأساس صعدوا بالتضاد مع حاملي هذه الأيديولوجيا، سواء القوميين المدنيين من «قادة» البعث ومؤسسيه في القيادة القومية للحزب، الذين تم القضاء عليهم أثناء انقلاب شباط عام 1966 ونعتهم بـ«اليمين»، كدلالةٍ على التباين معهم والتفارق مع أيديولوجيتهم. أو تيار «البعثيين الرومانسيين» اليساريين، شُركاء انقلاب عام 1966.  من جهة أخرى فإن الأيديولوجية بما تعنيه من عُمق معرفي وأدوات علميّة وتحليل منهجي للماضي والحاضر والمُستقبل، لم تكن تُناسب الخصائص الاجتماعية والبيئية التي كانت تُحيط بأبناء طبقة الانقلاب، ومن ثُم الحُكم، الأسديّة. فهؤلاء كانوا بأغلبيتهم المُطلقة ريفيين «بُسطاء»، قادمون من «الهوامش» السورية نحو المركز، كانوا الأكثر فقراً والأقل تعليماً. أي أن الأيديولوجيا بمعناها وعُمقها المعرفي كانت تُثير الضوضاء في مُخيلاتهم ومداركهم، وتكشف «ضُعفهم» المكين.

استعارت الأسدية عوضاً عن ذلك بـ«الخِطاب الرسمي». فعلى الدوام كان ثمة «خاطب عام»، على الجميع أن يُرددوه، وأن يُظهروا شرعيته وصحته وتطابقه مع المصالح العُليا للعامة؛ بغض النظر عن إيمانهم العميق والحقيقي بذلك أو عدمه، مثلما أثبتت الباحثة ليزا وادين في كِتابها الشهير السيطرة الغامضة.

كان هذا الخِطاب الرسمي العام يمتد من صورة رأس النِظام واستثنائيته، مروراً بخيارات السياسة الخارجية للنظام، وليس انتهاءً بما يوحيه النظام من خِلال المُسلسلات الدرامية والأغاني «الوطنية» والشعار المركزي لكُل مرحلة، وسياسته الاقتصادية. فمجموع هذه الخِطابات المبثوثة من قِبل أجهزة وأدوات كثيرة ومُركبة ومُدارة من قِبل مركز النِظام، مجموعها كانت تصب في سياق واحد.

تخلصَ النِظام عبر هذه الآلية، بتبديل الأيديولوجيا بالخِطاب، تخلص من ثقل ما قد تُخلفه التحولات الإقليمية والدولية على استقرار النِظام نفسه؛ خصوصاً وأن حجم النِظام الأسدي كان متواضعاً نسبياً، ليس بالمُقارنة بالقوى الدولية، بل حتى بالكيانات والقوى الإقليمية المُحيطة به، الأوسع موارداً والأكبر ديموغرافيةً ومساحة.

هكذا استطاعت الأسديّة التحول من نِظام بدأ بطرح نفسه كتشكيلٍ «عقلاني» ضمن الرومانسية القومية/الاشتراكية البعثية، ثم تحول إلى طرح نفسه كتيار قومي عروبي أثناء حرب تشرين، مروراً بنِظام ضبط ٍعامٍ وحامٍ للأقليات أثناء تدخله في لُبنان، وليس انتهاء بكونه موالياً لإيران في حربها الأولى مع العِراق، ومن ثُم مُتحالفاً مع الولايات المُتحدة في حرب الخليج الثانية، وطبعاً كتيار قومي/«سُني» مقاوم للحضور الأمريكي في العراق، وجزء تكويني فيما سماه «محور المُمانعة». من علاقة متينة مع العربية السعودية إلى تحالف استراتيجي ومن ثُم تبعيّة لإيران، من اعتبار تُركيا عدواً تاريخياً للقومية العربية إلى معاهدةٍ أمنيةٍ شهيرةٍ معها، من قائد لجبهة الصمود والتصدي مروراً بتبريد جبهة الجولان لأربعين عاماً، والتنازل عن لواء اسكندرون.

المسألة الأخرى تتعلق بـ«الحزب الجماهيري»، هؤلاء الذين رصدهم كارل فريدريش في التوتاليتاريات التقليدية، ووصفهم بأنهم «الأقلية غير المُترددة» التي تؤمن بأيديولوجية النظِام وتدافع عنه لأسباب ذاتية وأيديولوجية ومادية وطبقية، المُستعدة للانخراط في أية مواجهة قد تهدد استقرار النظام واستمراره، وضمان الولاء التام لرأس النظام. حصل ذلك أولاً لأن رأس النظام والحلقة الأضيق من مؤسسيه، كانوا قادمين من الجهاز العسكري/الطائفي ضمن الحزب، بالتضاد مع التيار الشعبوي التعبوي التنظيمي من الحزب، الذي قاده مؤسس الحزب ميشيل عفلق في النصف الأول من الستينات، وفي النصف الثاني منه بقيادة الأطباء الثلاث (الأتاسي/ زعين/ ماخوس)، الذين انقلب الأسد عليهم.

من جهة أخرى، فإن الأسد المؤسس ومن بعده نجله، كانوا يشكون من «عُقدة الكاريزما» الضرورية لبناء تيارات حزبية/شعبوية، والتي كانت متوفرة في كُل شخصيات الأحزاب التوتاليتارية، مثل جمال عبد الناصر وصدام حُسين. فالأسد كان يُدرك تماماً عدم قُدرته على شحذ ولاء ملايين الحزبيين الأيديولوجي عبر المخاطبة والأيديولوجيا والحضور الشخصي الكاريزمي. لذا كانت اللعبة الطائفية بما تعنيه من ولاء عضويٍ «أعمى»، مُتخمٍ بحس الانتماء العصبوي «الخلدوني» هي ما يُناسبه تماماً.

ثمة قوسٌ كبيرٌ يجب أن يُفتح هُنا حول مسألة «الطائفيّة الأسديّة»، إذ أنها استفادت تماماً من ظرف مظلومية الطائفة العلوية السورية الخاصة، حين وفرت لتيارٍ واسعٍ من أبنائها إحساساً عميقاً بأن «الأسديّة» هي نِظامهم السياسي الذي حملهم من الهوامش الاقتصادية والرمزية والثقافية والسياسية لسوريا، وحولهم إلى «مركز سوريا» في كُل تلك النواحي، وأتخمَ هؤلاء «العلويين» المُنخرطين في مؤسساته بالامتيازات وأوهام التفوق على باقي السوريين. وبذلك أمّنَ النظامُ ولاءهم العضوي المُطلق، وعمّقَ من التماهي بينه وبينهم. حتى باتوا يستشعرون بأن كُل وجودهم مُرتبطٌ بوجود واستقرار الأسدية نفسها، كما ظهر في مرحلة الثورة السورية.

طبعاً لا يعني ذلك بأنه لم يكُن ثمة شُركاء وأعضاء في الأسديّة من باقي أطياف ومكونات المُجتمع السوري؛ لكن المقصود أن هؤلاء «العلويين» كانوا الأكثر توفيراً لشرط «غير المُترددين» في الدِفاع والانتماء للأسديّة.

على أن كُل ذلك حسب فريدريش لن يستطيع حفظ استقرار النِظام التوتاليتاري وديمومته دون احتكارٍ كاملٍ وسائل وأدوات العُنف من طرف، ومن طرفٍ آخر بناء نِظام مُراقبة بوليسي صارم، يُغطي مكونات المُجتمع، وبالذات القوى الحيوية الاقتصادية والسياسية والثقافية والمُجتمعية؛ بحيث تسقط جميع هذه القوى بشكل مُسبق في «فخ الرهبة»، حيث تفقدُ أي قُدرةٍ على المبادرة والانتظام خارج سياق ما ترسمه مراكز النِظام نفسه، وبذا تم شلُّ المُجتمع مُقابل السُلطة.

صحيحٌ أن الأسدية فعلت ذلك بالضبط، لأن المجتمع والكيان السوري بالأساس ما كان به «جيوب مُتمردة» على شرعية الكيان أو النِظام الحكام. وقد تجاوز النِظام الاستخباراتي «البوليسي» الأسدي الحدود التقليدية التي كانت عند التوتاليتاريات العادية، القائمة على مُراقبة ومُعاقبة المناوئين السياسيين للنِظام الحاكم، وأضاف لها ثلاثة خصائص بذاتها:

من جهة تجاوزت مهام هذه الأجهزة في مُمارسة التعنيف بحق «أعداء النِظام» حدود الكيان السوري، فالأجهزة الأسدية قتلت السياسي محمد عمران في بيروت ومؤسس البعث صلاح الدين بيطار في باريس، وكانت تلك الأعمال كافية لتتحول إلى أدوات ردع لكافة المعارضين السياسيين الفعليين، فيما لو فكروا في تشكيل مُعارضة حقيقة للنِظام في الخارج. طبعاً طالَ الأمر نفسه مناوئي النِظام من غير السوريين، أمثال كمال جنبلاط ورفيق الحريري …إلخ.

من جهة أخرى فإن الأجهزة الأمنية الأسدية تحولت إلى شبه وكيل للشبكات الأمنية الدولية، كأجهزة مُراقبة على المُجتمع والحركات الاجتماعية والسياسية السورية والإقليمية. وفي مرحلة لاحقة غدَت بُنية الأجهزة الأمنية مراكز للتصنيع والتحكم بشبكات التطرف الإسلامية، ومراكز لربط وتفكيك هذه الشبكات في سوريا مع نظيرتها الإقليمية والدولية، وتحويل كُل ذلك إلى قيّمة مُضافة للأسدية في علاقاتها الأمنية بالأجهزة العالمية، وتحويل تلك الخدمات إلى أداة لتحصيل الاعتراف والجدارة للنِظام في مُعادلة القبول الدولي له، باعتباره رُكناً في توازن الاستقرار والضبط الذي تتوخاه الأجهزة الأمنية الدولية في علاقتها مع أنظمة المنطقة. طبعاً في مرحلة أكثر تقادماً، اعتُبرت تلك الخدماتُ الخاصةَ للأمنية للأسديّة في حفظ «الاستقرار الأمني» /«التهديد بالفوضى» قيمةً وحيدة تُجبر القوى الدولية على التفكير ملياً فيما لو انزاحت إلى خيار «تحطيم» النِظام الأسدي. كالدخول العسكري المُباشر إلى لبنان عام 1976.

الأنظمة الاقتصادية وعلاقتها بالأسدية

آخر الشروط المُحدِدة لبُنية الأنظمة التوتاليتارية كان يتعلق بالأنظمة الاقتصادية التي تتبناها، فلم يكن صُدفةً أن جميع هذه الأنظمة طوال القرن العشرين قد أسست اقتصادات شديدة المركزية والتوجيه والسيطرة من قِبل الدولة ومؤسساتها. فهذه الاقتصادات كانت مصدراً أولاً لتأسيس «جيش البيروقراطيين» الموالين والمُسيطرين على أجهزة الدولة ومصادر قوتها وحيويتها. ومن طرفٍ آخر لا تسمح بصعود أية نُخبة اقتصاديّة تملك خياراتٍ و«أطماعاً» سياسيّة مُنافسة ومُناهضة لخيارات النِظام.

تجاوزت الأسديّة ذلك عبر فهم طبيعة الاقتصاد السوري، وعلاقته بالأنظمة الاقتصادية للدول المحيطة. فالأسديّة أسّست لمركزيّةٍ نسبيّة، شبه مُحتكرة في ضمان سيطرتها على كُل مؤسسات الدولة البيروقراطية وشبه المدنية «نقابات واتحادات»، بحيث تكون جزءاً مركزياً في اللعبة الاقتصادية العامة، بأنماطها الزراعية والتجارية والصِناعية. لكنها بالمُقابل تخلت تماماً عن «التأميم» الشامل والسيطرة الكُلية على الاقتصاد، كما كانت تسعى إليه السياسات البعثية السابقة للأسديّة.

بموازاة ذلك فإن الأسديّة أسست لشكلين غير مرئيين من «اقتصاد الظل». أولهما اقتصادُ ظلٍّ يتعلق بما كان يتلاقه النِظام من أموال من الكثير من الدول، بالذات من الخليج وفي مرحلة لاحقة من إيران. فلم يكن يُعرف كيف كانت تُستلم وتُدار وتُصرف تلك الأموال. فالنُخب السوريّة كانت تُفسر ذلك بأن الأسديّة كانت تصرف تلك الأموال لتجاوز أزماتها الاقتصادية من طرف، وفي تقوية أجهزتها الأمنية والعسكرية «خارج القانون الواضح» من طرفٍ آخر.

كما أن الأسديّة قد خلقت بوعيٍ اقتصاداً غير شرعي في الظل، وصل في سنوات حُكم بشار الأسد ليبلغ قُرابة 40% من عموم الاقتصاد السوري، هذا الاقتصاد الذي كان يتوزع على شبكات التهريب والبسطات والبناء غير النِظامي والفساد الإداري والنهب العام…إلخ، والذي كان يؤسس لأن يكون ملايين الفاعلين الاقتصاديين السوريين «تحت الطلب»، وقتما كانت ترغب الأجهزة الأمنية الأسديّة.

في المرحلة الأولى كانت الأسديّة تقوم على شبه شراكة اقتصادية بينها وبين الكُتل التجارية السورية، بالذات منها المركزية في مدينتي حلب ودمشق، وعلى توافقٍ قائمٍ على تأمين موقعٍ مُناسب لملايين الفلاحين السوريين، وبذا تجاوزَ «المسألة الزراعية» التي كانت مصدراً لقلق الحياة السياسية طوال أكثر من ربع قرنٍ بعد الاستقلال. لكن الأسديّة تجاوزت شرط توازنها ذلك منذ صدور قانون الاستثمار رقم 10 عام 1991، والذي شرعن تحول جوهر اقتصاد الأسديّة، وسمحَ لأبناء الجيل الثاني من نُخبة الحُكم الذين جمعوا أموالهم عبر شبكات الفساد، سمحت لهم بالاستثمار في الاقتصاد السوري ومن ثم السيطرة عليه. وقد كان شرط ذلك التخلي عن طبقة الفلاحين عبر إهمال المسألة الزراعية، وطبقة البيروقراطيين عبر تحطيم الطبقة الوسطى السورية. وفي مرحلة لاحقة تم تتويج ذلك باقتصادٍ مركزي من نوع خاص، قائم على مركزّة الاقتصاد في يدّ عُصبة من المُحيطين برأس النِظام الأسدي، تُسيطر بشكل كامل على الاقتصاد السوري. وكانت بذلك أهم مدخلٍ لاندلاع الثورة السوريّة.