د.طيب التيزيني يكتب: من التفكك إلى النهوض!



د.طيب التيزيني

يعيش العالم العربي بكله وبأجزائه حالة من القصور التاريخي، الذي قد يكون محشواً بعدد هائل وقادم من الانفجارات والأفخاخ، التي يراد منها أن تدخله في حشرجاته الأخيرة، وإذا كنا مذعورين من إدخال العالم العربي فيما يراه البعض تفككاً له وتآكلاً، بسبب المشاريع المنطلقة من مؤخرة التاريخ، مثل التقسيمية الاثنية العرقية والطائفية، فإننا بالمقابل مدعوون إلى اكتشاف ما يجعل منه لُحمة واحدة متعددة المكونات، ولكن موحدة أو متقاربة البنى التاريخية والوظائف والأهداف الاستراتيجية.

إن ذلك الأمر أصبح جزءاً حاسماً في استراتيجيات دول ترنو إلى إعادة تأسيس إمبراطوريات تصدعت وتفككت تحت تغيرات الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية والثقافية فيها وفيما حولها، ويهم في هذا الخصوص أن انتصارات كبرى ومديدة حدثت في مراحل تحقيق الاستقلال الوطني، وقد تبلور ذلك في مرحلة ظهور العالم الثالث، خصوصاً فيما تجلى فيه بالعالم العربي، لكن خطوات أخرى في اتجاه تأسيس عالم عربي مزدهر قلما حدثت.

لقد جرى التوقف بعد إنجاز الاستقلالات العربية، حيث أدرك الغرب ضرورة ذلك التوقف بأشكال شتى، منها الانقلابات العسكرية والإبقاء على السلطة في أيدي هذه الأخيرة وأيدي ورثتها، في سورية ولبنان والعراق ومصر وليبيا وتونس والجزائر واليمن والسودان.. إلخ، هذا مع اقتطاع مناطق عربية هنا وهناك من قبل بلدان أجنبية، بل تم اقتطاع فلسطين بكاملها لصالح القوى الصهيونية، وثلاث جزر إماراتية اقتطعت من قبل إيران.

واتضح أن بعض ورثة الحكم في العالم العربي أخفقوا في الحفاظ على ما ورثوه، حيث فككوه وحولوه إلى احتياجات خاصة بهم عبر ما تبلور على أيديهم تحت دائرة الاستبداد الرباعي: الاستئثار بالسلطة، وبالثروة، وبالإعلام، وعبر ما لفق تحت عنوان المرجعية المجتمعية السياسية، لقيادة البلد والحزب القائد أو الطائفة المهيمنة، أو ما يقوم مقام المرجعية الأولى القطعية، وعلى هذا الأساس، نشأت أحزاب ومجموعات أفرزت ذلك «الحكم».

وهنا، علينا أن نضبط عملية التفكك، التي اخترقت المنظومات السياسية والفكرية والأخلاقية لأولئك، حيث أدى ذلك إلى سقوطهم، لكن أيضاً إلى تفكك ما ظنوا أنه بنيتهم النظرية والسياسية والأخلاقية: إن أجلّ الأفكار تتساقط على أيديهم وربما تتحول إلى نقيضها. هكذا تحولت فكرة العروبة والمشروع النهضوي العربي إلى نقيضها، بل إلى عدوها. وقياساً على هذا، تحولت فكرة العروبة الإنسانية الديموقراطية إلى نمط من التمذهب الفاشي المغلق!

ونلاحظ أن ذلك التمذهب العرقي الفاشي يغدو الوجه الأول للاستئثار الرباعي، ليتحول إلى حالة مندمجة بأيديولوجيا دينية ظلامية، في وجهها الثاني، هذا ما نلاحظه في الأيديولوجيا الشيعية الإيرانية الفارسية، التي تنبع أولاً في اعتقادها أنها الأسمى من بين كل الأيديولوجيات، وفي أنها ثانياً المدعوة إلى إصلاح «الخلل البشري» عبر تدخلها في شؤون البشر جميعاً إن استطاعت.

إن المشروع العربي، الذي واجه انكساره على أيدي من زعموا أنهم بناته وأصحابه، يعود الآن إلى الحلبة، رافضاً -على أيدي جموع متعاظمة من حامله الاجتماعي- الاستبداد والظلامية والاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية المجتمعية السياسية، وداعياً إلى فتح عوالم جديدة أمام انتصاراته. والحق، أن الخروج من هذا المشروع لن يعني أقل من تفكك الأقطار العربية واحداً تلو الآخر، يداً بيد مع التأسيس الاستراتيجي لمنظومة فكرية سياسية تتناول عبرها المعيقات بصبر وتأنٍّ ومستقبلية. هكذا، تبدأ نقطة الولوج إلى المشروع العربي النهضوي من ثلاثية التنوير دون الظلامية، ومن الديموقراطية دون الهيمنة، ومن العروبة التي تستوعب البشر أجمعين!

المصدر: الاتحاد

أخبار سوريا ميكرو سيريا