on
عنهما… هما فقط
بعينين مبهورتين تنظر إليه. قد يقول كلاماً تافهاً، قد يردّد نكتاً غير مفهومة، وقد يقوم بتلك الحركة التي تضحكها بشكل هستيري بشفتيه. لكن في كل هذه الحالات، تبقى عيناها مبهورتين به. يظهر ذلك جلياً وهي تنظر إليه، وهي تراقبه ماشياً، مدندناً أغنية، أو شاتماً أحدا ما في الهاتف. تبتسم بشكل أوتوماتيكي حين تسمعه يتكلم في الهاتف، تخرج فجأة من عالمهما الصغير جداً، إلى عالمه هو. يبهجها ذلك. هي لا تحب الناس (تكرههم غالباً)، تحبّهم فقط، من خلال صوته. “أحبك” تقول من دون أن تقصد، يستدير نحوها، لتعيد ما قالته لأنه لم يسمع. فتقول: “ما قلت شي”. تسكت وتبتسم. سيظن أنها مجنونة.
****
كل شيء يقول إنهما غير متشابهين. هما متشابهان ربما في مخزون الكآبة الذي يعيش بداخلهما، والذي راكمته السنوات والعلاقات الفاشلة والمؤذية، ومتشابهان بجنونهما في التعاطي مع المجتمع. فقط. أما كل شيء آخر، فآخر: الديانات، الجنسيات، السنّ، العمل، الالتزامات في الحياة. “لا يمكن للعلاقة أن تنجح”، همست لها صديقتها وهما ثملتان. ماذا تعرف صديقتها أصلاً؟ كيف تشرح لها تفاصيل تلك اللحظة التي يكونان فيها لوحدهما، ويختفي كل اختلاف بينهما. هو وهي فقط.
****
يشغّل الموسيقى. تحب الموسيقى هي، وهو يختار لها من موسيقاه التي لا تفهم شيئاً منها. فنانون لم تسمع بهم، يبدو مطروباً لأغنية/معزوفة، تبتسم، ثم تبتسم، ثم تتنفس بصوت مرتفع، وفي رأسها تتردّد موسيقى أخرى ثم تقول: “تعى نسمع روبي”. طيّب، “بلاش روبي، مدحت صالح؟”، هذا حدها الأقصى من الموسيقى العميقة. يلاحظ غالباً النظرة البلهاء بعينيها، ولعلّ صوت روبي، يغادر رأسها ويصله، فيرضخ.
****
تسأله سؤالا، وبينما يجيب، تفقد تركيزها. لا تسمع ما يقوله، تفكّر في شيء آخر، في لقائهما الثاني. مهووسة بالتخطيط أصبحت. هي التي لم تخطط لشيء طيلة حياتها. تحمل الروزنامة وترسم قلوباً على التواريخ التي سيتقابلان فيها. لأول مرة تستعمل تلك الروزنامة التي وصلتها من إحدى شركات التجميل. ملأت الروزنامة قلوباً، ثمّ وجوهاً حزينة في تلك الأيام التي تشتاق فيها إليها. وقلوباً محطمة في الأيام التي أغضبها فيها. تقول كلاماً بشعاً وانفعاليا له عندما تغضب. ثم تعتذر. ست ثوان هي الحد الفاصل بين الكلام البشع والاعتذار. ست ثوان ثابتة لا تتغيّر.
****
لا تذكر متى بدأت العلاقة بينهما. الأرجح أنّ لا تاريخ محدّدا للعلاقة التي أصبحت فجأة علاقة، من دون أن يكتشفا ذلك. قالت له “أحبك”، قال لها: “أحبك” وسط أشياء أخرى كثيرة، وأكملا حياتهما بعدها بشكل طبيعي جداً. الشكل الطبيعي الذي تتخلله نوبات كآبة غير مفهومة، هستيريا بكاء ودموع، وعزلة غير مفهومة أيضاً. لكنهما، هما فقط، متفاهمان عليها.
لا تذكر كيف اتفقا أن تتحول العلاقة الافتراضية إلى علاقة حقيقية. قالت له: “تعال” قال لها: “سآتي”، وسط مشاريع أخرى كثيرة. ثمّ أتى. من بلاده البعيدة (قليلاً)، وهي من عالمها البعيد (كثيراً). بدا كل شيء بديهيا، حين أمسك بيدها، حين كلمها، حين قبّلها. كل شيء بديهي. “أعرفه منذ زمن طويل” كانت تردّد في رأسها.
***
تكتب له رسائل طويلة عبر الهاتف، حين يكونان كل في مكانه. تخبره فيها تفاصيل، على الأرجح تافهة في معظمها: تحب رائحة شعره، تحب شكله وهو يمسك آلته الموسيقية، تحب حين يكلمها عن حياته السابقة الأخرى، تحب حين يأكلان سمكاً معا، أو حين يمشيان في الشارع. تحب حين يغضب منها لأنها تشرب الدخّان، وتحب حين تلتفت فجأة فتراه ينظر إليها. هما يعلمان أكثر من كل شيء آخر، أن هذه العلاقة قد تنتهي، لكل أسباب العالم، لسبب كبير، أو لسبب تافه… لكنهما يعلمان أيضاً، هي تعلم على الأقل، أنها الآن، هنا، في هذا المكان، مكانها. الأيام المقبلة، فلتبقَ حيث هي.. هي لا تحتاج لها. تحتاج للزمن أن يتوقّف حيث هو الآن، لسنة سنتين عشر.. ولتستعد الأرض بعدها دورتها الطبيعية.
المصدر: العربي الجديد – نور زين