خصوصية القهوة الإيطالية تواجه تهديد اكتساح الشركات الأميركية
9 أبريل، 2016
في العادة لا يجلس الإيطاليون لتناول هذا النوع من القهوة في الصباح، إذ يتناولونها في ثوان معدودة ثم يغادرون تجاه العمل أو الدراسة، ولا يستمتع الزبون بلذة القهوة إلا بعد أن يشرب قليلا من الماء الغازي ليجهز نفسه لتذوق القهوة الإيطالية الأصلية والشهيرة.
هذه الطقوس الشعبية في إيطاليا تشهد تهديدات عديدة، والمسألة متعلقة دائما بالأزمة الاقتصادية التي تعانيها أوروبا كباقي مناطق العالم، وهي الأزمة التي عرضت الشركات الأوروبية العريقة والعديد من مميزاتها الثقافية والتراثية إلى خطر الاندثار تحت تأثير تحول مقرات تلك الشركات إلى دول أخرى غير دولها الأصلية، أو أنها تشترى بعد أن تفلس، أو أن تقوم شركات كبرى عابرة للقارات بالدخول إلى السوق ومنافسة أعرق الماركات وإزالتها من السوق، بكل ما تحمله تلك العلامات التجارية من تاريخ وحكايات وثقافة التصقت بالشعوب.
وينسحب هذا الواقع الاقتصادي العالمي على القهوة الإيطالية بطبيعة الحال، فالـ”إسبريسّو” والـ”كابوتشينو” والـ”الماكياتو” والـ”الموكا” والـ”الكوروتّو” أصبحت عناوين لأنواع القهوة التي تبحث عن الثبات أمام غزو الماركات الأجنبية لشبه الجزيرة الإيطالية، ولعل تلويح شركة “ستارباكس” الأميركية لصنع القهوة بدخول السوق الإيطالية يعد التحدي الضخم والمباشر الذي يواجه أكثر المنتوجات شهرة وشعبية في إيطاليا وهي القهوة، بعد البيتزا.
ليست القهوة الإيطالية فقط التي تمثل هدفا قادما للمنتوجات الأميركية التي تدمر بقدرتها التنافسية العالية كل الصناعات الملتصقة بثقافات الشعوب تحت تأثير العولمة الاقتصادية والثقافية، فقد سبق وأن انهارت عاصمة الموضة العالمية ميلانو قبل أكثر من عقد عندما بدأت العلامات المعروفة في عالم اللباس والتجميل والموضة في مغادرة المدينة نحو فرنسا أو كندا أو الولايات المتحدة الأميركية، حيث أصبحت علامات كـ”برادا” و”جيفاتشي” و”جورجيو أرماني” تصنع في مناطق أخرى خارج إيطاليا، بعد أن نجحت الشركات العابرة للقارات في شراء تلك العلامات وتحويل مقراتها إلى دول أخرى أقل تكلفة في المواد الأولية واليد العاملة، الأمر الذي جعل من تلك العلامات التجارية تتراجع وتفقد بريقها العالمي المعروف.
لقد عرفت القهوة الإيطالية شهرة عالمية منذ أربعينات القرن الماضي إلى اليوم، خاصة بعد أن قدم إلى هذا البلد الواقع في قلب حوض البحر الأبيض المتوسط العديد من العمال والكوادر الهندسية والصناعية والفنية للمشاركة في إعادة إعمار البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط النظام الفاشي لموسوليني. وقد نقل السياح عن الإيطاليين أسماء القهوة التي يشربونها حتى أصبحت تلك الأسماء علامات تجارية في ذاتها، كـ”إسبريسّو” و”كابوتشينو” وغيرهما.
وقد عرفت ثقافة القهوة في إيطاليا أوجها في عقدي السبعينات والثمانينات عندما أحرزت إيطاليا على المرتبة الأولى عالميا من ناحية الجودة والإنتاج والاستهلاك. وأشهر المناطق في إيطاليا لاستهلاك هذا المنتوج هي نابولي وروما وفلورنسا وفينيسيا.
أما اليوم، وتحت تأثير قوة الشركات الأجنبية خاصة الأميركية منها، أصبحت القهوة الإيطالية مهددة بالزوال لإمكانية اكتساح شركة ستارباكس للأسواق، نظرا لكون القهوة المصنوعة في هذه الشركة تحاكي القهوة الإيطالية بشكل مصطنع وليس حقيقيا، وبسعر أقل من سعر القهوة الإيطالية، الأمر الذي يمكن أن يخلق التباسا لدى المستهلكين فتهجر المقاهي الإيطالية الأصلية المعروفة ويصبح البن الإيطالي منتوجا للمترفين والرومنسيين وتفقد القهوة الشهيرة شعبيتها.
فقد صرح رئيس ستارباكس، هوارد شولتس، بأنه زار إيطاليا كثيرا ومكث في مدنها مطولا وراقب كيفية عمل المقاهي وسلوك الحرفاء، وأكد أنه واثق من أنه درس السوق لفترة طويلة بما يكفي، وقال “كل شيء أنجزناه حتى اليوم يعتمد على الخبرات الرائعة التي اكتسبها الكثيرون منا في إيطاليا”.
وفي المقابل، لا تزال القهوة الإيطالية تقاوم بضراوة اكتساح الشركات الأخرى لأسواقها، والتي ستزيد ستارباكس من صعوبة هذه المقاومة وثقلها، لكن الأمر “لا يعدو أن يكون مجرد دخول لشركة ما في سوق مفتوحة”، حسب نادل في مقهى “لا تافولا كالدا” المعروف في روما، مستشهدا بما تقوم به امرأة أميركية من تكساس كل شهر وهو القدوم لشراء البن الإيطالي وإصلاح آلة قهوتها الإيطالية لتتمكن من شرب “الإسبريسو” في ضيعتها المخصصة للخيول جنوب الولايات المتحدة.
ستارباكس تلوح باقتحام السوق الإيطالية للقهوة
سنة 1971، لم تكن “ستارباكس” سوى مقهى صغير في مدينة سياتل قبالة “بيك بلايس ماركت” الذي كان في ذلك الوقت سوقا عصريا مفتوحا يعج بالزبائن كل يوم. وقد كان لموقع المقهى قبالة هذه السوق الفضل الكبير في توسعه وفتحه لفروع أخرى وصلت إلى كل أرجاء الولايات المتحدة، بل إلى أكثر من 70 دولة في العالم.
بدأت قصة عزم شركة ستارباكس على غزو عرين القهوة في العالم، إيطاليا، منذ سنوات مبكرة جدا. كان ذلك سنة 1981 عندما زار المدير العام الحالي للشركة هوارد شولتس في تلك السنة مدينة سياتل، ومر كما يمر العديد من الزائرين على سوقها الكبير ليرتكن بعدها إلى ستارباكس ويشرب قهوة، وبعد إعجابه بالطعم (لأنه يحاكي الطعم الإيطالي) قرر شولتس شراء المقهى والعمل على تطويره والمزيد من انتشاره في كامل الولايات المتحدة حتى تمكن من إنشاء فروع عالمية لسلسلة المقاهي، وكان ذلك سنة 1987، أي بعد أربع سنوات من ذهابه في رحلة عمل إلى إيطاليا والتي بدأت سنة 1983، تعلم خلالها شولتس كيفية تحضير القهوة الإيطالية وأسرارها، ليعود إلى سياتل ويشتري العلامة بمعية مستثمرين محليين آخرين.
ويقول العديد من المتابعين إن هوارد شولتس المسؤول الأول عن شركة ستارباكس لم يغادر مربع الطعم الإيطالي في صنع القهوة، وهذا دليل آخر على أن القهوة الإيطالية هي الأقوى على الإطلاق. ولا ينكر شولتس أنه متأثر بالطريقة الإيطالية وبعمق، لكنه يؤكد أن شركته قادرة على غزو السوق الإيطالية والتمكن من السيطرة على مفاصل التوزيع و”أن تصبح علامة ستارباكس فوق علامة “لافازا” و”إيللي” و”الإسبريسّو”.
وفي الحين الذي قاومت فيه القهوة الإيطالية لمدة عقود المنافسين العالميين في صنع أنواع القهوة المختلفة، فإن الأمر هذه المرة قد يهدد بجدية وجود علامة بارزة من علامات الثقافة الإيطالية وهي القهوة، فقد أكد الرئيس المدير العام هوارد شولتس أنه قد تعرف إلى أسرار هذا المنتوج وكيفية تحضيره، “بل وثقافة تناوله في الأوقات المختلفة”، وأضاف شولتس أنه واثق من دراسته للسوق الإيطالية لفترة طويلة بما يكفي، وقال “كل شيء أنجزناه حتى اليوم يعتمد على الخبرات الرائعة التي اكتسبها الكثيرون منا في إيطاليا”.
والمثير للانتباه أن شولتس تحدث كثيرا عن عادات وتقاليد تناول القهوة، الأمر الذي يلوح بتدمير كامل لأسس ثقافة اشتهرت بها إيطاليا منذ قرنين من الزمن.
استلهم هوارد شولتس مواقع مقاهيه من النظرة الإيطالية التقليدية لمواقع المقاهي، فعملا بالقاعدة الإيطالية التي تقول “بين البيت ومكان العمل يجب أن يكون هناك مقهى”، انتشرت مقاهي ستارباكس في أميركا والدول التي فيها فروع للعلامة.
ويعكس هذا الانتشار نية حقيقية لستارباكس في غزو أسواق القهوة في العالم وتعويض كل الماركات التي كانت معروفة بعلامتها التجارية، بل وتغيير ثقافة تناول القهوة برمتها، لتصبح أقرب إلى النمط الأميركي في العيش عوضا عن الثقافة الأصلية التي نشأت فيها القهوة وهي إيطاليا بمدنها العتيقة وتقاليدها القديمة.
ونقل موقع ستارباكس عن شولتس قوله “لقد أنشأ الإيطاليون المسرح والرومانسية والفن وسحر تجربة قهوة الإسبريسو وحان الوقت لنشاركهم في ما ابتدعوه ونعرض عليهم قهوتنا أيضا”. ويصف تجربة القهوة بأنها “طقس صباحي” حقيقي على طاولات جذابة مع مجموعات من الزبائن الدائمين ونادل، يعرفون بعضهم بعضا.
ويوجد لستارباكس اليوم نحو 23 ألف متجر في أكثر من 70 دولة، وماديا يمكن للشركة أن تتحمل بسهولة خطوة غير ناجحة، فالسلسلة تحقق باستمرار نتائج قياسية لسنوات وإذا ما تمت مواجهتها من قبل الإيطاليين بمقاومة شديدة فإنها لن تخسر شيئا مقارنة بمرابيحها اليومية.ستارباكس: اسم السلسة مقاه حول العالم تبيع القهوة التي تحمل علامة ستارباكس. تأسست سنة 1971 ولكن انطلاقتها الفعلية العالمية كانت سنة 1987 بتأسيسها لفروع خارج الولايات المتحدة.
الإيطاليون يقاومون الشركات الأجنبية دفاعا عن ثقافة القهوة
لم يبق سوى إيطاليا الموطن التقليدي للإسبريسو الداكنة والكابتشينو ذات الرغوة بمنأى عن شركة متاجر القهوة الأميركية، فمن جبال دولميت المتجمدة نزولا إلى جزيرة صقلية الحارة لا يمكن رؤية أي فرع لستارباكس إلى حد هذا اليوم، عكس ما يتمناه القائمون على الشركة الأميركية في أن تتحول إيطاليا إلى مساحة لبيع قهوتهم على حساب القهوة الإيطالية العريقة، وينتاب الشك بعض الخبراء في ما إذا كان الزبائن الإيطاليون سوف يبدأون في تقبل حلم القهوة الأميركي يوما.
ترتبط القهوة الإيطالية بقيم الحداثة وثورة التنوير التي حدثت في أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر وهزت العالم بجميع أركانه عبر الأفكار الثورية التي بدأت تعرف التراكم والتدوين في المقاهي الواقعة شمال إيطاليا بالذات، بالتوازي مع الصالونات الأدبية التي كانت تعقد في فرنسا وبريطانيا. إذ لا يزال مقهى “فلوريانو” في مدينة البندقية قائما إلى اليوم منذ سنة 1764، ويفتح أبوابه دون انقطاع أمام زبائنه الإيطاليين ليشربوا قهوة الصباح ويغادروا إلى أعمالهم وشؤونهم. وقد عرف مقهى فلوريانو بأنه المكان الممتع الذي كانت تقرأ فيه صحيفة “فارّي” التي كانت تطبع في ميلانو سرا وتنشر بعيدا عن أعين السلطة في الإمارات الصغيرة في إيطاليا وخشية أن يتفطن لها الفاتيكان في روما فيحرمها.
وقد رافقت القهوة الإيطالية المعروفة باسم “إسبريسو” كل التغيرات السياسية التي حدثت في إيطاليا منذ المحاولات النظرية التي قام بها جوزيبي مازيني لتوحيد “الأمة الإيطالية” والتي تلتها حملات غاري بالدي الذي نجح في ضم الجزء الجنوبي إلى الجزء الشمالي لإيطاليا ليعلنها جمهورية فيدرالية موحدة وعاصمتها روما بعد أن كانت العاصمة المؤقتة هي تورينو. وبذلك فإن القهوة في إيطاليا ليست فقط منتوجا يتباهى به الإيطاليون لأنهم يتقنون صنعه، بل إن القهوة في إيطاليا رمز قومي لا يمكن التخلي عنه. وهذا ما يبدو حتى في إجابات مرتادي المقاهي والعاملين فيها.
إذ يقول أدريانو سانتورو وهو نادل في مقهى “بار ديل كابتشينو” الذي يعتبر أحد أفضل المقاهي في وسط العاصمة روما “لا يحب الإيطاليون هذا النوع من القهوة ذات الإنتاج الضخم والمعد للاستهلاك على المستوى العالمي، لا سيما من هذه الأكواب البلاستيكية الكبيرة”. وأكد النادل سانتورو أن القهوة الأميركية لن تتمكن من هزيمة القهوة الإيطالية، “لأن قهوتنا تفوح بتاريخ عريق بكل بساطة”. وأضاف “إنهم يستخدمون شراب الكراميل والقرفة وما شابه، وإذا قمت برش بعض القرفة على قهوة شخص ما هنا في إيطاليا فسوف يلقيها في وجهي على الفور”. وفي رأي سانتورو فإن قهوة ستارباكس “هي للمراهقين والسياح وليس لشاربي القهوة الحقيقيين”.
ووافقت امرأة أميركية على المنضدة في “بار ديل كابوتشينو” رأي النادل أدريانو سناتورو، حيث تقلب كريستا من شيكاغو، والتي تعيش في روما منذ 15 عاما، رغوة الحليب في كوبها باستمتاع وتقول “لن تطأ قدماي أحد متاجر ستارباكس إن هنا في إيطاليا أو في الولايات المتحدة بلدي”، وحين سئلت المرأة “ولم هذا؟” أجابت موضحة “بمجرد تجربة القهوة الإيطالية لا يمكنك احتساء هذه الأنواع التي يتم تخميرها في الولايات المتحدة مجددا”. وأكدت كريستا أنها بالرغم من كونها أميركية إلا أنها تأتي كثيرا إلى إيطاليا للاستمتاع بالقهوة الأصلية وشراء كميات من البن واللوازم الضرورية لصنع القهوة الإيطالية في بيتها، وقالت كريستا “لست أنا فقط من يقوم بهذا، هناك المئات من الأميركيين يقومون بسفرات كثيرة إلى إيطاليا”.
ومن المرجح حسب مراقبين أن تخسر شركة ستارباكس الرهان في إيطاليا نظرا لأن المسألة تتجاوز استثمار شركة أجنبية في دولة ما، لتصل إلى الدفاع عن ثقافة بحالها تميز الشعب الإيطالي عن غيره من الشعوب.