لا، قرار التدخل الدولي في ليبيا لم يكن خاطئًا!


ما زالت ليبيا وتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضمنها في عام 2011 يشكلان مرادفًا لمصطلحات الفشل، الكارثة، والوضع المأساوي للشرق الأوسط، ويبدو من الأهمية بمكان اليوم أن نطرح الأسئلة حول صحة هذه الحكمة السائدة، لأن الطريقة التي نفسر بها ليبيا تؤثر على تفسيرنا لسوريا، والأهم من ذلك، تقدم لنا تقييمًا لإرث سياسة أوباما الخارجية.

بطبيعة الحال، ليبيا، كما يمكن لأي شخص أن يرى، تعيش حالة من الفوضى، والأمريكيون يتساءلون بصورة معقولة عمّا إذا كان التدخل خاطئًا، ولكن معقولية الأمر لا تجعله محقًا.

تبدو معظم انتقادات التدخل، حتى تلك التي تستفيد من الوقت الطويل الذي مرّ عليه التدخل، قاصرة بمضمونها؛ فمن المؤكد أن التدخل لم ينتج شيئًا ما يقارب حتى الديمقراطية المستقرة، ولكن هذا لم يكن هدف التدخل أساسًا، بل كان الهدف حماية المدنيين ومنع وقوع الفظائع.

يقيّم النقاد ليبيا اليوم بعدد المُثل التي لم تتحقق، ولكن هذه الطريقة ليست صحيحة ولا ناجعة لتقييم مدى نجاح أو فشل التدخل؛ فللقيام بذلك، يجب أن نقارن ليبيا اليوم مع ما كانت ستبدو عليه لو لم يحصل التدخل، ووفق هذا المعيار، كان التدخل في ليبيا ناجحًا، البلاد أفضل حالًا اليوم مما كانت يمكن أن تؤول إليه لو سمح المجتمع الدولي للديكتاتور معمر القذافي بمواصلة هياجه في جميع أنحاء البلاد.

على صعيد آخر، يؤكد النقاد أيضًا بأن التدخل سبّب، أو خلق، أو أسفر، بطريقة أو بأخرى، عن نشوب الحرب الأهلية، ولكن في الواقع، الحرب الأهلية بدأت بالفعل قبل مباشرة التدخل، أما بالنسبة للفوضى، العنف، وعدم الاستقرار العام، الذي تشهده ليبيا اليوم، فإن هذه النتائج مرتبطة بشكل أكثر معقولية بفشل المجتمع الدولي ما بعد التدخل، وليس بالتدخل بحد ذاته.

حقيقة تشويه أو سوء فهم التدخل في ليبيا والإرث الناجم عنه هو بحد ذاته دليل على خطاب السياسة الخارجية المشوه الدائر في الولايات المتحدة، حيث يُنظر إلى أي شيء أقل من النجاح، وفي هذه الحالة، تحوّل ليبيا بسرعة لتصبح دولة ديمقراطية مستقرة نسبيًا، على أنه فشل.

الناتو تدخل لحماية المدنيين وليس لإقامة الديمقراطية

جاء في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي خوّل استخدام القوة في ليبيا، بأن الهدف من التدخل هو “حماية المدنيين والمناطق الآهلة بالسكان الواقعة تحت تهديد الهجوم”، وهذا هو الهدف الذي تم تحقيقه فعلًا.

في فبراير 2011، انتشرت المظاهرات المناهضة للقذافي في جميع أنحاء البلاد، واستجاب النظام للحركة الاحتجاجية الوليدة بقوة مميتة، مزهقًا أرواح أكثر من 100 شخصًا في الأيام القليلة الأولى، مما استثار رد فعل تمثّل بالتمرد المسلح، والذي سرعان ما فقد زخمه بعد نشوئه.

ما زلت أتذكر كيف شعرت في تلك الأيام، في الساعات التي شهدت تقدم قوات القذافي نحو بنغازي، وبالمعنى الحرفي تمامًا، كانت كل لحظة في تلك الموقف مهمة، وكلما طال انتظرنا، كلما ازدادت التكلفة.

كان الأمر مخيفًا، ولم أكن أريد أن أعيش في أمريكا حيث كنا نقف صامتين حيال إعلان ديكتاتور وحشي، مستخدمًا لغة مرتكبي الإبادة الجماعية المتميزة، بوضوح عن نواياه في القتل؛ ففي أحد خطاباته، وصف القذافي المتظاهرين بـ”الصراصير”، وتعهد بتطهير ليبيا “شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة”.

وبالفعل، وعشية تدخل الناتو، قُدّر عدد القتلى ما بين 1000 و 2000 شخصًا، في الوقت الذي كانت فيه عتبة تسامح المجتمع الدولي عن جرائم القتل الجماعية المتعلقة بالربيع العربي لا تزال منخفضة إلى حد ما.

وقف مستشارو أوباما حينها أمام خيارين للقيام بالعمل العسكري، إما فرض منطقة حظر الطيران، والتي لم تنفع بحد ذاتها بوقف دبابات القذافي، أو اتخاذ قرار أوسع من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة وحلفائها لاتخاذ المزيد من التدابير، بما في إنشاء ما يعتبر منطقة حظر تجوال حول مناطق انتشار المعارضة المسلحة، وبالمحصلة، اختار الرئيس الأمريكي الانصياع للخيار الأخير.

استمرت عملية حلف شمال الأطلسي نحو سبعة أشهر، وقُدّر عدد القتلى بحوالي 8000 شخصًا، معظمهم على ما يبدو من من مقاتلي الجانبين، رغم عدم وضوح هذه النقطة، لأن الحكومة الليبية لم تحدد بوضوح “الثوار” من “أنصار الثوار”، ولكن وفقًا لما خلص إليه تحقيق هيومن رايتس ووتش، فلقد سقط 72 مدنيًا على الأقل نتيجة لحملة الناتو الجوية، وهو عدد يقل بشكل قاطع عن تخمين عدد الضحايا الذين كانوا ليسقطوا جرّاء استمرار نظام القذافي.

في تلك الفترة، أصبحت مزاعم “حياد المهمة عن طريقها” شائعة، وتم تعميم هذه المزاعم بجزء كبير نتيجة لتصريحات ميكا زينكو من مجلس العلاقات الخارجية، ورغم احتمالية صحة تصريحات زينكو في هذا الشأن، إلا أن تصريحاته تؤكد، بدلًا من أن تفسر، سبب كون حياد المهمة أمرًا سيئًا بشكل دائم، فمن المحتمل وفي بعض الظروف، أن يلعب توسيع نطاق المهمة، بدلًا من حصرها بنطاق ضيق، دورًا كبيرًا في هذا الشأن.

ومن هذا المنطلق، كان إصرار إدارة أوباما الدائم على تضييق نطاق المهمة، بما في ذلك الزعم السخيف القائل بأن المهمة ستستغرق أيامًا وليس أسابيعًا، هو المشكلة منذ البداية؛ فزينكو وغيره لم يوضحوا الكيفية التي يمكن من خلالها حماية المدنيين طالما كان القذافي يشن حربه عليهم.

ما الذي كان سيكون عليه شكل ليبيا اليوم لولا تدخل الناتو؟

من المفيد في هذا السياق أن ننخرط في مفهوم التاريخ المغاير؛ فكما يقول نيال فيرغسون في كتابه البدائل الظاهرية “لكي نفهم ما آل إليه الأمر الواقع، نحن بحاجة إلى فهم ما لم يؤل إليه هذا الواقع”.

بتطبيق ذلك على السياق الليبي، لا ينبغي علينا أن نقارن ليبيا، أثناء أو بعد التدخل، مع تحقيق بعض المثل العليا المتصورة حول الديمقراطية الراسخة والفعالة، بل بدلًا من ذلك، يجب مقارنتها مع ما نستطيع، وفق أفضل قدراتنا، أن نتوقعه كنتيجة بديلة مرجحة في حال لم تتدخل الولايات المتحدة ضمن ليبيا.

وهنا، إليكم ما نعرفه حول ذلك، منذ 19 مارس 2011، تاريخ مباشرة عملية الناتو، ارتفع عدد القتلى في ليبيا بسرعة مذهلة إلى أكثر من 1000 شخصًا في فترة قصيرة نسبيًا من الزمن، ويمكننا أن نؤكد، من خلال سمعة القذافي طويلة الأمد، بأنه كان على استعداد لقتل مواطنيه (وغيرهم) بأعداد كبيرة إذا كان هذا هو ما يتطلبه بقاؤه.

لم يكن هناك أي نهاية تلوح في الأفق؛ فبعد أن حقق الثوار بعض المكاسب في وقت مبكر، استطاع القذافي اغتنام الأفضلية، ولكنه مع ذلك، لم يكن في وضع يمكّنه من توجيه ضربة حاسمة للمعارضة، وجدير بالذكر هنا، بأنه وضمن جميع بلدان عصر الربيع العربي لم يستطع أحد جانبي الصراع العسكري أن يؤمن انتصارًا عسكريًا واضحًا على الطرف الآخر، حتى في ظل المزايا الهائلة والتدعيمات في القوى العاملة والمعدات والدعم الإقليمي.

أي ليبي اختار حمل السلاح حينها، كان عرضة ليتم القبض عليه، اعتقاله، أو قتله في حال فوز القذافي، ولهذا كانت حوافز قبول الهزيمة معدومة، ناهيك عن عدم رغبة الشعب المفهومة بالعيش مجددًا تحت حكم رجل وحشي ومستبد مهووس.

إذن، النتيجة الأكثر ترجيحًا لليبيا كانت ستكون تمامًا كالوضع السوري اليوم، من حيث استمرار البلاد في نزاع لأجل غير مسمى يتميز بتصعيد مستوى العنف الدائم، وحتى أوباما، الذي يبدو اليوم غير متأكدًا من صحة قرار التدخل، اعترف في مقابلة له في أغسطس 2014 مع توماس فريدمان بأنه “لولا التدخل، فمن المحتمل أن تصبح ليبيا كسوريا، وكانت لتشهد المزيد من الموت، المزيد من الاضطراب، والمزيد من الدمار”.

ما الذي تسبب بالحرب الأهلية الليبية الحالية؟

هجوم النقاد على تدخل الناتو كان مسؤولًا، بطريقة أو بأخرى، عن حالة الفوضى وعدم الاستقرار الليبية القائمة؛ فعلى سبيل المثال، وبعد خروجه من إدارة أوباما، كتب فيليب غوردون، المسؤول الأمريكي الأبرز في الشرق الأوسط بين عامي 2013 و2015: “في العراق، تدخلت الولايات المتحدة واحتلت وكانت النتيجة كارثة مكلفة، في ليبيا، تدخلت الولايات المتحدة ولم تحتل وكانت النتيجة كارثة مكلفة، أما في سوريا، فلم تتدخل الولايات المتحدة ولم تحتل والنتيجة كارثة مكلفة”.

المشكلة هنا هي أن تدخل الولايات المتحدة لم ينتج في الواقع كارثة مكلفة، إلا إذا كنا نستخدم كلمة “نتيجة” لتتضمن معنى حدوث أمر ما بعد حدوث أمر آخر؛ فعملية حلف شمال الأطلسي انتهت في أكتوبر 2011، والحرب الأهلية الحالية في ليبيا باشرت في مايو 2014، أي بعد عامين ونصف العام، وتدخل الناتو متصل بالطبع مع العنف الذي تشهده ليبيا اليوم، ولكن هذا لا يعني بالضرورة وجود علاقة سببية بينهما.

للقول بأن الصراع الحالي في ليبيا هو نتيجة للتدخل، يجب أن نفترض أساسًا بأن اندلاع الحرب الأهلية كان أمرًا لا مفر منه، بغض النظر عن أي شيء حدث خلال الـ30 شهرًا اللاحقة للتدخل.

هذا الأمر يحذو بنا للنظر بأهمية التمييز بين التدخل بحد ذاته، والفشل اللاحق للمجتمع الدولي، وهو الفشل الذي تعترف به جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة، بالتخطيط والعمل لما بعد التدخل ولمساعدة الليبيين في إعادة بناء بلدهم الممزق.

تشمل هذه التدابير إرسال بعثات التدريب للمساعدة في إعادة هيكلة الجيش الليبي (الأمر الذي حققه حلف الناتو بخجل في أواخر عام 2013 من خلال إرسال فريق صغير من المستشارين)، إرسال قوات حفظ سلام متعددة الجنسيات، توسيع مهمة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والتي اقتصر دورها على الشأن الاستشاري، والضغط على الحكومة الليبية للنظر في بدائل لقانون العزل السياسي الخطير والمزعزع الاستقرار.

وأيضًا، وعلى أصعدة أقل إثارة ربما، كان يمكن للولايات المتحدة وحلفائها أن يلقوا بوزنهم السياسي لتصحيح التصميم المؤسساتي وإقناع صناع القرار في ليبيا بالعدول عن اختيار أحد النظم الانتخابية الأكثر فشلًا في العالم، المتمثل بالتصويت الأحادي غير قابل للتحويل، جنبًا إلى جنب مع التحيّز المؤسساتي المحابي للمستقلين، هذا المزيج الذي فاقم الانقسامات القبلية والإقليمية بذات قدر تصعيبه وتعقيده لمهمة تقاسم السلطة.

وأخيرًا، كان يمكن للولايات المتحدة أن تضبط حلفائها، وخاصة دول الخليج ومصر، عن ممارسة التدخل المفرط في الفترة التي سبقت نشوب الحرب الأهلية لعام 2014.

ولكن على أرض الواقع، تراجعت ليبيا بسرعة من قائمة الأجندة الأمريكية، وهو أمر لا يعد مستغربًا نظرًا لتوجس إدارة أوباما الدائم، ليس فقط من التدخلات العسكرية، بل أي نوع من التدخل لفترات طويلة، سواء أكان دبلوماسيا أو ماليًا أو غير ذلك، في بؤر التوتر في الشرق الأوسط.

تم تداول افتراضات حول إمكانية قيام الأوروبيين بممارسة جهود أكبر فيما يتعلق بليبيا، ولم تكن هذه الافتراضات مجرد آمال، لأن هذا الافتراض كان يُعبّر عن قاعدة تنظّم انخراط إدارة أوباما في الخارج، والتي أسماها المحللان نينا هاشيجيان وديفيد شور بـ”نظرية المسؤولية”، وهي تُعبّر عن إستراتيجية حث الدول الأخرى المؤثرة للمساعدة في تحمل أعباء إنشاء نظام عالمي مستقر يسوده السلام.

قد تكون هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يعمل بها العالم، ولكن هذه المجموعة من الافتراضات الرئيسية، التي تشكل جزءًا من عقيدة أوباما، ثبت بأنها مخطئة في أحسن الأحوال، وخطيرة في أسوئها.

قد لا يعجبنا وقع ذلك، وأوباما ذاته لن يعجبه وقع ذلك بالتأكيد، ولكن حتى عندما تكون الولايات المتحدة ذاتها ليست منخرطة بشكل خاص في نزاع معين، فمن المتوقع منها على أقل تقدير أن تضع جدول أعمال، تدعو الشركاء، وتجذب الانتباه الدولي نحو قضية سيجري لولا ذلك إهمالها في مستنقع نزاعات الشرق الأوسط، والواقع يقول إن الولايات المتحدة، وبخصوص الشأن الليبيي، لم توفِ الحد الأدنى لهذا المعيار، وحتى الرئيس أوباما نفسه اعترف في نهاية المطاف بإخفاقه في البقاء منخرطًا في ليبيا، وذلك وفق ما عبّر عنه في مقابلته مع فريدمان قائلًا: “أعتقد أننا وشركاؤنا الأوروبيون قللنا من شأن حاجتنا لحضورنا بقوتنا الكاملة في حال كنا نرغب بالقيام بشيء من هذا القبيل”.

ومع ذلك يجدر التأكيد على أنه حتى في ظل دوران رحى الحرب الأهلية، استيلاء داعش على الأراضي، ووجود ثلاث “حكومات” متنافسة، فإن الدمار في ليبيا لا يزال بعيدًا للغاية عن مستوى الموت والدمار الذي شهدته سوريا في غياب التدخل.

وبعبارة أخرى، حتى هذا “السيناريو الأسوأ ” الذي نشهده، لا يرقى ويبتعد للغاية عن السيناريوهات الأسوأ التي كانت لتشهدها ليبيا، فوفقًا للإحصاءات، وعلى مدى 22 شهرًا من الحرب الأهلية، شهد النزاع الليبي مقتل حوالي 4500 شخصًا حتى الآن، أما في سوريا، فعدد القتلى يبلغ حوالي 100 ضعفًا، مع مقتل ما ينوف عن 400,000 شخصًا، وفقًا للمركز السوري لأبحاث السياسات.

جميعنا عواقبيون الآن

للأسباب المبينة أعلاه، انحدار ليبيا إلى الحرب الأهلية، وما نتج عن ذلك من فراغ في السلطة استغلته بنهم الجماعات المتطرفة مثل داعش، لم يكن أمرًا حتميًا، ولكن دعونا نفترض للحظة بأنه كان كذلك، فهل هذا الأمر من شأنه أن يقوّض الأسس التي قام عليها قرار التدخل الأصلي؟

المثال الأكثر وضوحًا لذلك هو حرب العراق، والتي لا تعتبر خاطئة لأنها أسفرت عن حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والحرب الأهلية في البلاد، بل لأن قرار التدخل في المقام الأول لم يكن له ما يبرره، كونه كان مبنيًا على افتراضات خاطئة وواهية متعلقة بأسلحة الدمار الشامل.

ولكن، لو تحولت العراق بسرعة إلى وضع “جيد”، وأصبحت دولة مستقرة نسبيًا، غير معيبة، وتتمتع بديمقراطية فاعلة، فهل هذا من شأنه أن يبرر بأثر رجعي ابتدار حرب غير مبررة؟ من المفترض أن يكون الجواب لا على هذا السؤال، رغم أننا كنا لنكون سعداء جميعًا لو كانت العراق تسير على طريق واعد.

ذات هذا التفسير، ولكن بطريقة عكسية، ينطبق على ليبيا؛ فصحة اتخاذ القرار بالتدخل العسكري في مارس 2011 لا يمكن التراجع عنها أو إبطالها بأثر رجعي، وليس بهذه الطريقة يمكننا الاختيار والحكم على أخلاقياتنا، وهو المعيار الذي ينطبق تمامًا على خياراتنا في الحياة الشخصية، وهذا الأمر قد يبتدر اختلافًا فلسفيًا؛ فأوباما، وفقًا لأحد مساعديه، هو شخص “عواقبي”.

أتصور بأن هذه النظرة العواقبية، أكثر ربما من الأسئلة الضيقة التي يتم طرحها حول التدخل العسكري، هي التي تقف خلف بعض التحريفات التي تطال إرث ليبيا، فإذا كنا جميعًا أشخاصًا عواقبيين، سيستحيل علينا تقريبًا أن نتخذ قرارًا بالعمل في أي مكان دون وجود نوع من الضمان المحتوم في أن تتحول منطقة النزاع، والتي لم تشهد أي استقرار على الأرجح  لسنوات أو لعقود، إلى حالة الاستقرار فجأة.

وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل تعتمد صحة قرار وقف الإبادة الجماعية في رواندا على ما إذا كانت رواندا ستصبح ديمقراطية مستقرة بعد إيقاف الإبادة الجماعية؟ وكيف كان يمكن لصناع السياسة أن يعزموا على هذا القرار طالما كان استقرار وضع أي دولة ما بعد الصراع يعتمد، في جزء منه، ليس فقط على التقديرات الواقعية، بل أيضًا على الأسئلة الدائمة وغير المؤكدة حول الإرادة السياسية للمجتمع الدولي في تسخير الوقت والاهتمام والموارد اللازمة لمساعدة البلدان الممزقة على إعادة بناء أنفسها؟

فكرة أن ليبيا، بسبب نفطها وعدد سكانها القليل نسبيًا، كانت يمكن أن تكون حالة سهلة نسبيًا، هي فكرة غريبة حقًا، كون القذافي حرص، ومنذ وقت مبكر، ألّا تكون ليبيا بدونه مستعدة لإعادة بناء نفسها؛ فلأكثر من أربعة عقود، فعل كل ما في وسعه لإجهاض بزوغ أي منظمات مجتمع مدني أو مؤسسات مستقلة حقيقية، ونتيجة لارتيابه من بزوغ مراكز نفوذ منافسة له، قلّص القذافي الجيش الليبي ليضحي عبارة عن إقطاعية شخصية، وعلى عكس الأنظمة الاستبدادية العربية الأخرى، كانت الدولة والزعيم في ليبيا لا ينفصلان.

الاعتقاد بأن ليبيا لم تكن ستواجه، على أقل تقدير، مشكلات عدم استقرار كبيرة على مدار الانتقال من حكم الشخص الواحد إلى “حالة أخرى” غير مؤكدة، ناجم بكل تأكيد عن نظرة للتنمية السياسية منفصلة البتة عن كل من التاريخ والواقع.

خطاب السياسة الخارجية المشوّه

تستتبع الطريقة التي نستذكر بها ليبيا أسلوبنا بالحديث عن تغيّر دور أميركا في العالم، الذي لم يكن نحو الأفضل؛ فلربما أضحى الأميركيون أكثر عرضة للنظر إلى التدخل في ليبيا باعتباره فاشلًا، فقط لأن الولايات المتحدة كانت في طليعة عملية حلف شمال الأطلسي، لذلك فإن أي انحدار لاحق إلى الصراع في ليبيا يفترض سلفًا فشل أميركا، يضحي أمرًا نفضل عدم التفكير به، بل نتقبله كما هو.

عادة ما يُنتقد السياسيون، خارج مجتمع السياسة الخارجية، على أفعالهم الخارجية، وليس على امتناعهم عن الفعل، فكما قال وزير الدفاع السابق روبرت غيتس “القذافي لم يكن يشكل تهديدًا لنا، بل كان يشكل تهديدًا لشعبه”، فلو لم تتخذ الولايات المتحدة قرارًا بالتدخل، لكانت ليبيا قد تحولت على الأرجح إلى مزيج سام من الديكتاتورية وحركات التمرد، ولكننا كنا سنستطيع أن نتملص من المسؤولية، ونزعم بأننا لم نقدم على أي فعل يستجلب الضرر، على الرغم من أن الضرر قد وقع بطبيعة الحال.

في وقت من الأوقات، بدا الأمر كما لو كانت الولايات المتحدة تتمتع بتحيّز دائم نحو القيام بالعمل، حيث كانت تحوز غريزة القيادة في أغلب الأحيان، وتتخذ القرار باللجوء إلى الحل العسكري حتى في خضم الصراعات الصغيرة نسبيًا البعيدة عن مصالح الأمن القومي الأميركي، ولكن التجربة المأساوية التي خاضتها في العراق غيّرت ذلك، فأضحى يُنظر إلى الامتناع عن العمل باعتباره فضيلة، ولنكون واضحين، الامتناع عن العمل قد يكون فضيلة في بعض الأحيان، ولكن ليبيا لم تكن إحدى تلك الحالات.