ما أسفرت عنه «وثائق بنما» المسربة: جدل عالمي وتجاهل عربي


تباينت ردود الأفعال الرسمية لدول العالم، حول وثائق بنما التي كشفت اللثام عن ملفات فساد، وتهرب ضريبي ضخم، مُتورط فيه عشرات القادة والساسة والمشاهير حول العالم: ففي حين تقدم رئيس وزراء إحدى الدول الأوروبية باستقالته، اتجهت بلدانٌ أخرى إلى فتح تحقيقات في القضايا التي كشفت عنها هذه التسريبات، بينما ذهبت دول أُخرى إلى اللجوء إلى نظرية المؤامرة للهروب من فخ التسريبات، أما الدول العربية، فكان التجاهل السمة المميزة.

وثائق بنما تجبر رئيس وزراء أيسلندا على الاستقالة

فيما يُمكن وصفه بـ«أكبر تأثير» أحدثته الوثائق في دولة ما حتى الآن، هو تقديم رئيس الوزراء الأيسلندي سيجموندور جونلوجسون استقالته من منصبه، على وقع التسريبات. وكشفت الوثائق امتلاك «جونلوجسون» مع زوجته شركة «وينتريز» المسجلة في الخارج، لتوجه إليه تهمة إخفاء ملايين الدولارات في أصول عائلية.

كما اندلعت احتجاجات أمام البرلمان الأيسلندي؛ تُطالب رئيس الوزراء بتقديم استقالته. وهو ما رفضه «جونجلوجسون» يوم الاثنين الماضي، قبل أن يضطر بعدها بيومٍ واحد إلى تقديم استقالته إثر تزايد الضغوط عليه.

فتح باب التحقيق في عديد من دول العالم

اتجهت العديد من دول العالم إلى التحقيق في وثائق بنما، رغم تورط عددٍ من المسئولين الحاليين في قضايا الفساد التي كشفت عنها الوثائق. نبدأ ببنما، التي أعلن قضاؤها، الاثنين الماضي، الرابع من أبريل (حزيران) 2016، فتح تحقيق في الوقائع التي كشفتها الوثائق. وذهبت النيابة العامة البنمية، إلى وصف المعلومات الواردة في الوثائق بأنها «على درجة غير مسبوقة من التعقيد واتساع النطاق».

من جانبه وصف الرئيس الفرنسي، «فرنسوا أولاند»،الكشف عن وثائق بنما بـ«الأنباء الطيبة»؛ إذ رأى فيها أولاند فرصة لتعزيز عائدات الضرائب المحصلة ممن يمارسون ما وصفه بـ«الاحتيال». وعلى هامش لقائه بإحدى الشركات في باريس الاثنين الماضي، تقدّم أولاند بالشكر لمن عمل على كشف تلك الوثائق، مُؤكدًا على أنّه «مع ظهور المعلومات ستنطلق التحقيقات وتُفتح قضايا وتُجرى محاكمات».

لم تتوقف التحقيقات في وثائق بنما عند هذا الحد؛ إذ بدأت التحقيقات حولها في العديد من الدول الأخرى، من أبرزها إسبانيا، والنمسا، وهولندا، وأستراليا، ونيوزلاندا. كما توسعت التحقيقات في عددٍ آخر من الدول، التي اتهم مسئولون تنفيذيون بها في قضايا كشفتها الوثائق، مثل أوكرانيا الذي تحدثت الوثائق عن فساد رئيسها! إذ قال رئيس جهاز الخدمة المالية بها، روما «نصيروف»، الثلاثاء الماضي، إن جهازه «سيفحص وثائق مرتبطة بأصول الرئيس «بيترو بوروشينكو» في الخارج تم نشرها بعد تسريب هائل في المعلومات».

كذلك كان الأمر في باكستان، التي أعلن رئيس وزرائها، «نواز  شريف»، في خطاب متلفز الثلاثاء الماضي، تشكيل لجنة للتحقيق فيما وصفه بـ«المزاعم» المستندة على وثائق بنما، والتي تتهم أفرادًا من عائلته بامتلاك شركات خارج البلاد للتهرب الضريبي، وإخفاء ممتلكاتها وأصولها. مع ذلك، أصر شريف، على أنّ تلك «المزاعم قديمة، ويتم تكرارها بين الحين والآخر»، نافيًا، مبدئيًا، أن تشتمل على أية مخالفات قانونية.

كاميرون لن يعيش في جلباب أبيه.. وأمريكا تراقب بحذر!

من ناحية أخرى، تحدثت الوثائق عن تورط «أيان كاميرون»، والد رئيس وزراء بريطانيا، «ديفيد كاميرون»، في تهرب ضريبي، منذ 30 عامًا. وبحسب الوثائق، طلب كاميرون الأب، من شركة موساك فونسيكا للمحاماة البنمية، حماية استثماراته المالية منذ 2006. ومن جانبه، لم ينف رئيس الوزراء البريطاني، الاتهامات الموجهة لوالده، على العكس من نظيره الباكستاني.

لكن، في المقابل، نفى كاميرون أن يكون هو شخصيًا، أو  زوجته، أو أحد من أبنائه، يملكون أي أموال غير مُصرح بها للضرائب.  وقال المتحدث باسم «كاميرون»، يوم الأربعاء الماضي، إن رئيس الوزراء وأسرته «لم ولن ينتفعوا بأي أموال في الخارج». وللآن، لم تعلن المملكة المتحدة عن فتح أي تحقيقات خاصة بالوثائق، في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط الشعبية للكشف عن حقيقة الاتهامات الموجهة لوالد كاميرون.

من ناحية أخرى، أفادت الولايات المتحدة الأمريكية، على لسان وزير العدل، أنها تدرس المعلومات التي أوردتها الوثائق، والتي تظل بعيدة، حتى الآن، عن توجيه أية اتهامات لمسئولين أمريكيين. بينما رفض المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، «جوش إرنيست» التعليق المُباشر على الوثائق أو ما ورد فيها، عندما سئل لأربع مرات مُنفصلة، عنها، خلال مؤتمر صحفي عقده الاثنين الماضي، ليؤكد بشكل عام، على مناصرة بلاده للشفافية ومحارتها للفساد. ولفت الثلاثاء الماضيإلى أنه لا يرى أي مخاوف على الاقتصاد العالمي من وثائق بنما.

روسيا: بوتين هو الهدف الرئيس من الوثائق.. والصين تُقيد النشر!

كشفت وثائق بنما عن أن مساعديْن للرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، هرّبوا أموالًا  تزيد عن ملياري دولار، من خلال مصارف وشركات وهمية؛ كي يكسبوا نفوذًا خفيًا لدى وسائل الإعلام، وشركات صناعة السيارات في روسيا.

وأدانت روسيا الوثائق على لسان الناطق باسم الكرملين، «ديمتري بيسكوف»، الذي قال للصحافيين، الاثنين الماضي: إن«بوتين، وروسيا وبلادنا واستقرارنا والانتخابات المقبلة، هي الهدف الرئيس من قضية الوثائق»، بُغية «زعزعة الوضع الروسي»، على حد تعبيره. كما وصف الرجل، الوثائقَ بـ«التلاعبات، التي تستهدف التأثير على الرأي العام العالمي؛ لصرف انتباه المجتمع الدولي عن النجاحات العسكرية التي تحققها روسيا في سوريا».

أما الصين، فقد أوردت وثائق بنما أسماء ما لا يقل عن سبعة من أقارب مسئولين حاليين أو  سابقين، لهم صلة بالحسابات البنكية السرية. ورفضت الصين التعليق على الوثائق، كما فرضت قيودًا حول الحديث عما ورد في الوثائق، عبر حجب نتائج البحث عنها على الإنترنت، وتسويد شاشات التلفاز.

شركات وشخصيات ينفون اتهامات الفساد

نفى عدد من الشخصيات البارزة والهيئات،الذين جاء ذكرهم في الوثائق، تورطهم في أية قضايا تتعلق بالفساد، وعلى رأس هؤلاء شركة موساك فونسيكا نفسها، التي تسربت منها الوثائق.  وقال الشريك المؤسس للشركة، رامون فونسيكا،إن شركته تعرضت لقرصنة إلكترونية، مُتقدمًا بشكوى للنائب العام على إثر ذلك.  وخلال مقابلة مع وكالة أنباء رويترز، الثلاثاء الماضي، نفى فونسيكا أن تكون شركته قد انتهكت القانون، واصفًا التقارير التي تحدثت عن عمليات تهرب ضريبي تورطت فيها الشركة بـ«المزاعم غير الدقيقة».

كما نفى كل من بنكي «إتش  س بي سي» و«كريدي سويس»، اتهامات تتعلق بمساعدة عملائهم على التهرب من الضرائب. وعلى مستوى الشخصيات الذين ذكرتهم الوثائق. فقد نفى اللاعب الأرجنتيني «ليونيل ميسي» تورطه بها. كما نفى رئيس الاتحاد الأوروبي السابق «ميشيل بلاتيني» اتهامات الفساد. وكان كل من «ميسي» و«بلاتيني»، من أشهر الشخصيات الوارد ذكرها في الوثائق، خارج عالم السياسة.

الدول العربية تتجاهل وثائق بنما

لم تخلُ وثائق بنما، من تورط عدد من كبار القادة العرب الحاليين والسابقين، أو أقاربهم،في شبهات الفساد؛ فقد تحدثت الوثائق عن العاهل السعودي الحالي، الملك «سلمان بن عبدالعزيز»، وعن رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وحاكم إمارة أبوظبي، «خليفة بن زايد آل نهيان»، وكذا عن أمير دولة قطر السابق، «حمد بن خليفة آل ثاني»، ورئيس وزرائه «حمد بن جاسم»، بالإضافة إلى رئيس السودان السابق «أحمد الميرغني»، ورئيس وزراء الأردن الأسبق «علي أبو راغب»، فضلًا عن «رامي» و«حافظ مخلوف»: نجلي خال رئيس سوريا الحالي «بشار الأسد»، و«علاء مبارك» نجل، الرئيس المخلوع «محمد حسني مبارك».

وعلى الرغم من الضجة العالمية حول الوثائق، وارتباط شُبهات الفساد عربيًا بأموال تُقدر بعشرات ملايين الدولارات. فقد كان تجاهل الوثائق سيد الموقف الرسمي العربي. فحتى مثول التقرير للنشر، لم ينفِ العرب الاتهامات رسميًا، ولم تعلن أية دولة عربية استعدادها لبدء التحقيقات في وثائق بنما!

وعن أسباب التجاهل العربي للحديث عن الوثائق، ربط الصحافي والباحث المصري مصطفى عبده، في تعليق لـ«ساسة بوست»، بين الإعلام العربي وتبعيته للدولة. ويرى عبده، أن لكل قناة اتجاه يُحدده موليها، سواءً كانوا رجال أعمال أو تنظيمات أو دولٍ وحكومات، لذا «فالكل حاول في البداية، تجاهل الحديث عن الوثائق، لأنها تدينه»، على حد تعبير عبده. مع هذا، أجبر الزخم العالمي الذي أُثير حول الوثائق، وسائل الإعلام العربية للحديث عنها، «لكن باستغلالها ضد الخصوم».

ودلل عبده على ذلك، بقناتي العربية والجزيرة، اللتين استخدمتا الوثائق للتدليل على أنّ نظام بشار الأسد «فاسد»، بالرغم من أن بشار نفسه لم يُذكر باسمه، وإنما مُقربين منه وعائلته، «مُتناسين أن رؤساءهم أنفسهم، مذكورين بالاسم في الوثائق. هذه السياسة موجودة دائمًا في الإعلام العربي»، كما يقول مصطفى عبده.

توقع الصحافي المصري، اضطرار بعض الدول العربية للدفاع عن نفسها، إمّا عبر سياسيين أو مجالس نيابية عربية، ستشكك أو تنفي أو أن تصف الاتهامات الواردة فيها على أنّها «مُؤامرة من قبل الأعداء»، وأن بعض الأفراد قد يضرون لإصدار بيانات رد على الوثائق.