مصر لم تعد تعتبر إسرائيل عدوا


محمد جمال –

“الدرس انتهى لموا الكراريس. بالدم اللي على ورقهم سال. في قصر الأمم المتحدة. مسابقة لرسوم الأطفال. إيه رأيك في البقع الحمرا. يا ضمير العالم يا عزيزي دي لطفلة مصرية سمرا. كانت من أشطر تلاميذي”.

بهذه الكلمات وثق الشاعر الراحل صلاح جاهين واحدة من مذابح الاحتلال الاسرائيلي، ولحنها سيد مكاوي، وتغنت بها المطربة شادية، هي مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة، بقرية بحر البقر في مركز الحسينية بمحافظة الشرقية، والتي مر عليها 46 عاما دون عقاب القتلة.

 في التاسعة والثلث صباح 8 إبريل 1970 قامت الطائرات الفانتوم الإسرائيلية بقصف المدرسة بـ 5 قنابل وصاروخين، فأسفر هذا القصف عن استشهاد 31 طفلا وطفلة، وإصابة 50 طفلا بإصابات بالغة من 150 تلميذا بالمدرسة.

وجاء هذا القصف ضمن تصعيد الغارات الإسرائيلية على مصر لإرغامها على إنهاء حرب الاستنزاف وقبول مبادرة روجرز.

وبرر الاحتلال القصف بمزاعم أنها قصفت “أهدافا عسكرية”، ولم تقاضيهم مصر أو تتقدم أي محكمة أو هيئة دولية لمحاكمة القتلة حتى الان.

هل أسرت مصر الطيار الاسرائيلي؟

وقد ذكرت صحف مصرية أن الطيار الإسرائيلي الذي ارتكب تلك المجزرة الوحشية، اسرته مصر أثناء حرب أكتوبر 73، وأنه اعترف أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير هي التي أصدرت الأوامر بقصف المدرسة التي كانت تتكون من 3 فصول.

وقال أن قرار جولدا مائير، عاون في تنفيذه جاسوس مصري جندته إسرائيل، يدعي “سيد العطري”، حسب اعترافات الطيار، قام بوضع جهاز توجيه بجوار المدرسة لطائرة الفانتوم الإسرائيلية فكانت هدفا سهلا.

لماذا لم تدفع اسرائيل ثمن المجزرة؟

وحاول النائب السابق بالبرلمان المصري توفيق عكاشة تبرير لقاؤه السفير الاسرائيلي فبراير الماضي بأنه “يخدم مصر بما فعله”، مؤكدا أن اتفق معه على ثلاثة أمور هي: حل مشكلة النهضة عبر وساطة اسرائيلية مع اثيوبيا، وإسقاط ملياري دولار تعويض قضت به محكمة التعويضات لشركة الغاز الاسرائيلية على مصر بسبب وقفا تصدير الغاز لها عقب ثورة 25 يناير.

وكذلك “دفع اسرائيل تعويضات لمصر عن قصفها مدرسة بحر البقر في حرب الاستنزاف في ستينات القرن الماضي وبناء 10 مدارس بدلا منها.

ووعده السفير الاسرائيلي بالرد عليه بعد نقل الطلبات الي رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو، ولكنه لم يرد، وأسقط البرلمان المصري عضوية عكاشة، لأسباب عديدة عنوانها لقاؤه السفير الاسرائيلي.

ويقول الخبير واستاذ القانون الدولي د. السيد أبو الخير أن سبب عدم دفع اسرائيل تعويضات يرجع لأنها “لو دفعت تكون اعترفت رسميا بارتكابها المجزرة ويترتب عليه محاكمتها”

ويضيف: “دفع تعويضات هو بمثابة اعتراف بالجريمة، لذلك ترفض الحديث عن اعتبار ما حدث في بحر البقر جريمة”.

ولكن “أبو الخير” يقول إن “جريمة بحر البقر لا تسقط بالتقادم ويمكن الآن محاكمة اسرائيل عليها ولكن للآسف من بيده تحريك الدعوى الجنائية ضدها قادة السلطة الحالية في مصر الذين يقيمون علاقات جيدة مع الاحتلال”.

ويؤكد الخبير المصري: “هي جريمة دولية يمكن للقضاء الدولى الفصل فيها حال طلبت مصر ذلك”.

ولكنه يري أن ذلك “لا يؤثر على التكييف القانوني لما حدث في بحر البقر وهي جريمة حرب، ويمكن للقضاء المصري التعرض والفصل فيها، ولكن الأمر بيد النائب العام، أي السلطة الحالية”.

بالمقابل يري خبير القانون الدولي د. أحمد رفعت أن تلك الدعاوي أمام المحاكم المصرية “ليس لها أي مردود وعديم الفائدة”، وأنها “ليست أكثر من أنها تعد تذكيرا بالانتهاكات الإسرائيلية”

ويضيف “رفعت” أن “مثل هذه الدعاوي لابد أن تعرض أمام المحاكم الدولية، ومصر ليست عضوة في المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي لن تقبل لها أي دعاوي قضائية”.

وتابع: “حتى لو وصل الأمر إلى مجلس الأمن، فإن الفيتو الأمريكي سيحول دون تحويلها إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي جرى إنشائها بعد وقوع المجزرة”.

قضايا مؤجلة

وروي أحد شهود هذه المجزرة ويدعى “أحمد الدميرى”، وكان من مصابي هذه المجزرة، حين كان طالبا بالمدرسة وقت الحادث، لصحف مصرية، ما حدث له ولزملائه، مؤكدا أنه “يستيقظ يوميا مفزوعا بسبب ما شاهده فيها، حيث فقد فيها أصدقائه، وخرج منها بعاهة مستديمة.

ورفع “الدميري” قضية تعويض ضد دولة الاحتلال؛ بسبب ما حدث له، ولكنها لا تزال في الأدراج، فمن نجا من تلك المذبحة يعاني من عاهات وأزمات نفسية وإهدار لحقوقه المادية والمعنوية.

واتهم الأهالي والمصابون نظام مبارك السابق بإزالة المكان الحقيقي للمدرسة، والاكتفاء بنصب تذكاري وبناء مدرسة أخرى بنفس الاسم على أطراف القرية، وتحويل مكان المدرسة الحقيقي إلى مبان ومنازل ليتم بيعها للمواطنين.

كما أغلق نظام مبارك قاعة في متحف الزعيم أحمد عرابي بالشرقية كانت تحتوي على ملابس الأطفال الشهداء وكراساتهم ومقتنياتهم الخاصة، وعليها آثار الدماء إرضاءً لإسرائيل.

وعقب سقوط حكم مبارك، رفع أهالي الضحايا دعوى قضائية في أكتوبر عام 2013، بعد مرور 43 عاما على الجريمة، لمطالبة إسرائيل بتعويض أسر شهداء ومصابي المجزرة مادياً ومعنوياً، بما لا يقل عن التعويضات التي حصلت عليها إسرائيل عما يسمى بـ “الهولوكوست” من ألمانيا.

وجاء في الدعوي أن إسرائيل حصلت على مليارات الدولارات من ألمانيا، فيما يعرف بتعويضات الهولوكوست، وهو ما يعطي نفس الحق لضحايا حادث مدرسة بحر البقر، ولكن القضية مجمدة أمام المحاكم المصرية ولم يتم البت في التعويضات.

وبسبب العلاقات الامنية والاستخبارية العميقة بين نظام السيسي الحالي وبين حكومة الاحتلال، جرت خطوات تطبيعيه عديدة أبرزها تعيين سفير مصري جديد بعد سحبه قبل عامين وعرض كتب اسرائيلية مترجمة في معرض الكتاب، وإدارج العملة الاسرائيلية (الشيكل) لأول مرة من قبل البنك المركزي المصري.

فيتو ضد ادانة القتلة

وأحدثت الغارتان الوحشيتان رد فعل عميق لدى الرأي العام العالمي، وانكشفت لدى العالم حقيقة التخطيط العسكري الإسرائيلي الذي يستهدف المدنيين، إذ سبق هذه المجزرة أيضا عدد من الغارات في منطقتي المعادي وحلوان بالقاهرة، كما استهدفت مصنع أبو زعبل، وأخيرا قصفت مدرسة بحر البقر، ثم ادعت أن ذلك تم دون قصد.

واستخدمت أمريكا حق الفيتو 83 مرة، منها 44 مرة لحماية إسرائيل من قرارات إدانة دولية، وذلك بالرغم من بشاعة جرائمها التي شهد بها العالم كله.

وتكررت مجزرة بحر البقر في فلسطين المحتلة بمدرسة “الفاخورة” الفلسطينية بغزة عام 2009، حيث اعتاد الاحتلال على استهداف الأطفال الأبرياء لتظل أماكنهم فارغة من أجسادهم ولكنها مرتبطة بأرواحهم وأسمائهم.

وسطرت السينما المصرية أفلاما عن هذه الحادثة منها فيلم “العمر لحظة”، الذي قامت ببطولته الفنانة ماجدة، و”الصعود الي الهاوية”، كما كتب الشعراء والمؤلفون أغانٍ وقصائد جسدت الأحزان التي نتجت عن هذا الحادث.