‘من المنامة إلى هيروشيما: جون كيري عرّاب السلام الوهمي’
12 أبريل، 2016
“أدعو إلى عالم خال من الأسلحة النووية”، هكذا اختار وزير الخارجية الأميركي جون كيري وصف زيارته الأخيرة إلى مدينة هيروشيما اليابانية، لعله يخرج مع باقي فريق باراك أوباما من البيت الأبيض بأكثر ما يمكن من علامات الإعجاب.
تصريح كهذا يمكن أن يطرح من حوله العديد من التساؤلات، لعل أهمها “كيف لوزير خارجية الولايات المتحدة التي وقعت اتفاقا نوويا مع إيران يسمح فعلا بتهديد الأمن والسلم الدوليين، باعتراف السياسيين وحجج الخبراء، أن يدعو ـ بعد ذلك ـ إلى عالم خال من الأسلحة النووية.
ألا يعرف جون كيري، أم هو يتجاهل، أن إيران الآن تفكر في مرحلة ما بعد الجيوش التقليدية، بعد أن حققت استراتيجيا مشروعها في بنية تحتية نووية موجهة للحرب. ألا يمكن أن يكون تصريح كيري هذا مواصلة لسياسة بيع الأوهام لمستهلكيها في سياق إنهاء أشهر السلطة المتبقية بأخف الأضرار، خاصة إذا ما تمت مقاربتها مع تصريح المرشد الأعلى الذي قال إن “مستقبل إيران ليس في المفاوضات بل في الصواريخ”، وأيضا مع تجارب إطلاق صواريخ باليستية، التي قامت بها طهران مؤخرا، وأوباما أول المدركين أن مثل هذه الصواريخ يمكن أن تحمل رؤوسا نووية. وقد قالت دوائر غربية إن هذه التجارب تشكل انتهاكا لالتزامات إيران بما جاء في الاتفاق النووي.
لا فرق بين معتدل ومتشدّد
سعت الولايات المتحدة الأميركية بكل قوتها الدبلوماسية إلى إبقاء رؤوس الإيرانيين فوق الماء عند المفاوضات الماراثونية التي احتضنتها سويسرا حول البرنامج النووي الإيراني. وقد نجح الإيرانيون فعلا في كسب تلك النقطة بعد أن تم الاتفاق حول تجميد قصير المدى لبرنامج طهران النووي مقابل تخفيض للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، بينما تعمل البلدان الموقعة على اتفاق آخر طويل الأجل.
جاء هذا الاتفاق ليحقق انفراجة في أزمة مستمرة لعدة سنوات بين إيران وبلدان غربية حول برنامجها النووي المثير للجدل، وهو الاتفاق الرسمي الأول بين إيران والولايات المتحدة منذ 34 عاما، وقد اعتبره مراقبون “إنجازا فريدا للدبلوماسية الإيرانية ونظيرتها الأميركية، رغم بقاء رموز النظام الإيراني على الوتيرة ذاتها في الشعارات المعادية لأميركا”.
لكن، وإذا كانت إدارة أوباما، وعدد من المؤيدين في بعض الدوائر الأوروبية المستفيدة اقتصاديا من الاتفاق النووي مع إيران، ترى فيه صفقة جيّدة، فإن العدد الأكبر لا يراه كذلك، ومازال هذا الاتفاق مثار جدل داخل الكونغرس الأميركي الذي يعتزم إطلاق تحقيق بشأن تنازلات أميركية سرية لإيران.
ونقلت صحيفة “واشنطن فري بيكون” الإلكترونية عن النائب الجمهوري مايك بومبيو من كانساس، المرشح ليكون ضمن فريق التحقيق، قوله “الفجوة بين وعودهم (مسؤولين في إدارة أوباما، من بينهم وزير الخارجية جون كيري)، حول صفقة إيران النووية والحقائق المفزعة التي نراها اليوم آخذة في التوسع، نحن نحاول أن نحدد ما إذا كان هذا الأمر عملية احتيال مقصودة من طرف الإدارة أو مستوى جديدا من الإذعان المقلق للمطالب الإيرانية”.
ولا فرق بين معتدل ومتشدّد في هذا السياق، وفق ماثيو مكلنيس، الخبير المتخصص في الاستراتيجية الإيرانية، بمعهد المشروع الأميركي. ويقول مكلنيس في دراسة حديثة له “حتى القوى المعتدلة تؤمن بأهمية برنامج الصواريخ الإيراني كعنصر أساسي في استرايجية الدفاع، لإدراكها أيضا أن البلاد تفتقر لجيش تقليدي قوي”.
ويلفت الباحث الأميركي النظر إلى أن قدرات إيران الردعية المتوفرة “محدودة، وهي تشمل الصواريخ الباليستية والقدرة على شن عمليات إرهابية وحروب غير متماثلة عبر مجموعة من الوكلاء مثل حزب الله اللبناني، وقدرات أخرى غير تقليدية كتطوير قدراتها في مجال الحرب الإلكترونية، ودون توفر تلك القدرات للرد، فإن إيران ستشعر بأنها مكشوفة استراتيجيا”.
من هنا، ينضمّ مكلنيس إلى الأصوات التي تحذّر من أن إيران ستستمرّ في خرق الاتفاق مع الولايات المتحدة ولن توقّف إطلاق الصواريخ الباليستية. بل إنه مع مرور الوقت وتواصل التهديد من المرجح أن تصبح الأمور أسوأ، وليس أفضل. ولأن الوضع تغيّر لم يعد بإمكان الولايات المتحدة والقوى الغربية التعامل مع الصواريخ الإيرانية كالسابق.
التساهل الأميركي مع الإيرانيين في ما يخص ملفا خطيرا يتعلق بسلامة منطقة الشرق الأوسط، يضع إدارة أوباما برمتها أمام تساؤلات من الصعب أن يتجاوزها بتصريحات غير مقنعة بل وتبدو أقرب إلى “المزاح” مثل التي صرح بها، السبت، جون كيري في زيارته لمتحف هيروشيما الذي يؤرخ الأضرار الضخمة الناجمة عن الهجوم النووي الأميركي على اليابان سنة 1945، والتي لم يعتذر عنها رسميا مثلما تطالب اليابان، بل عبر عن “تأثره الشخصي وحزنه الشديد لما وقع في اليابان أواخر الحرب العالمية الثانية”.
كذبة السلام
جون كيري، عرّاب الاتفاق النووي مع نظيره الإيراني جواد ظريف، وقد رشّحا من أجله لنيل جائزة نوبل للسلام، دعا في تصريحه إلى عالم خال من الأسلحة النووية، لكن هذا لا يدفع نحو الطمأنة بقدر ما يرفع مستوى القلق من السلوك الدبلوماسي الأميركي في الفترة الأخيرة، فالمطالبة بعالم آمن في الغالب لا تصدر عن دولة عظمى فتحت المجال أمام دولة كإيران لتطوير قدراتها النووية في ذات الحين الذي لم تحترم فيه الولايات المتحدة حتى نصوص الاتفاقيات المتعلقة بالحفاظ على البيئة العالمية والعمل في ظل المجتمع الدولي على إنقاذ المناخ العالمي من الهلاك، دون نسيان ما حدث للعراق قبيل غزوه والذي تعرض إلى حملة إعلامية مكثفة ضد نظامه بعد اتهامه بمحاولة الحصول على أسلحة نووية وفي الأخير لم يجد مفتشو الأمم المتحدة أو قوات التحالف المحتلة أي أثر لسلاح الدمار الشامل، وهذا باعتراف عناصر بارزة في فريق حكم جورج بوش الابن بعد الغزو.
من خلال هذا السجال بين ما يروج له جون كيري من إرادة وهمية للبيت الأبيض في العمل على تخليص الإنسانية من السلاح النووي وبين ما هو موجود بالفعل داخل الدول المعنية بالقضية النووية، يلمس متابعون نوعا من السلوك المريب للأميركيين في المنطقة العربية بل ويدق البعض ناقوس الخطر من أن تسلم واشنطن أمن المنطقة العربية إلى طهران، ردا لجميل السكوت عن احتلال العراق سنة 2003. وهذا ما يدفع للحديث عن خطر انكشاف دول الخليج استراتيجيا أمام المطامع الإيرانية.
في زيارته الأسبوع الماضي إلى العاصمة البحرينية، المنامة، كان حديث جون كيري مركزا على ما يسميه “حث إيران على العمل من أجل السلام في الشرق الأوسط” والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يزعزع الأمن والاستقرار، لكنه لم يرغب في تحميل الجانب الإيراني كل المسؤولية، رغم أن جون كيري سبق وقال “إيران تُأجج النزاعات ولا نثق بما تقوله”؛ فقرر توجيه رسالة مبطنة للبحرينيين تقول إنه “على السلطات أن تعتمد نظاما سياسيا يشمل الجميع”، والقصد من ذلك الإشارة إلى الاضطرابات التي يقودها بعض الشيعة البحرينيين الممولين من قبل المشروع الإيراني.
يبقى كيري، من خلال هذه التصريحات، محافظا على مستوى غير مقنع في ما يسميه “جهود بلاده في دعم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط”، فكلما تم توجيه انتقاد للاتفاق النووي الأميركي الإيراني، إلا ودافع كيري عن ذلك بالقول إن “الوضع دائما تحت السيطرة”، وإن “الاتفاق النووي الإيراني كان هدفه الوحيد منع إيران من الحصول على السلاح النووي”، ليردف مباشرة حديثا مطولا عن الأوضاع السياسية والاضطراب في الشرق الأوسط، بشكل يوحي أن الإدارة الأميركية تدافع فعلا عن تعاظم القوة الإيرانية في المنطقة لحسابات تخصها مع روسيا حسب بعض المراقبين، أو لحسابات تخص أميركا مع المنطقة العربية التي يقول البعض إنها بدأت في التخلي عنها. وما يزيد الأمر تعقيدا أن تصريحات مضادة صادرة عن مسؤولين كبار في النظام الإيراني تدعو الولايات المتحدة إلى رفع يدها عن الشرق الأوسط والتخلي عما تصفه بـ”الوصاية” التي تطبع سياستها الخارجية.
الربط بين تصريح جون كيري في هيروشيما، والذي تشبّه فيه وزير الخارجية ببائع الكلام، وبين السلوك الدبلوماسي الأميركي المتعلق بالخليج العربي والشرق الأوسط عموما، يفضي إلى الاعتراف بأن على السياسة الدفاعية لدول إقليمية، مثل المملكة العربية السعودية، أن تتطور -وهي تعمل على ذلك-، وعلى دول المنطقة العمل على تغيير طريقة تفكيرها في الدفاع عن أمنها الاستراتيجي والحصول على القدرات المؤهلة لدفع أي خطر أو تهديد، سواء عسكري أو نووي أو طائفي أو سياسي.
وهم التفوق الإيراني على حساب المنطقة العربية يقوم داخل الوعي النظامي على مرتكزين أساسيين، أولهما أن نظام المرشد الأعلى في ذاته يسعى لأن يكون القوة الأولى والمهيمنة على مستوى المجال المحيط بإيران سواء من جهة الجنوب أي باكستان والهند وغيرهما، أو من جهة الغرب أي شرق الوطن العربي (وربما بأكمله) وشمالا أي في داخل المجال التركي، وهذا تفكير ملتصق بعقيدة كل السياسيين الإيرانيين سواء من المحافظين أو الإصلاحيين. أما المرتكز الثاني في هذه السردية الأيديولوجية الإيرانية للتفوق فهو القوة العسكرية الرادعة التي من خلالها تريد إيران تنفيذ ما تفكر فيه، وهي القوة النووية.
في موازين القوى الجيوسياسية الدولية، وعبر التاريخ، على الطرف الذي يريد التعامل مع هذا النوع من الأخطار الذي تمثله إيران (سواء عسكريا أو أيديولوجيا) أن يمتلك الوسائل نفسها للدفاع عن مجاله.
فالمطلوب من القوى العربية الكبرى اليوم هو امتلاك وسائل الردع التي تفوق وسائل إيران قوة، ولكن من نفس الطبيعة. إذ لا يمكن أن تواجه التخريب الإيراني بضمانات دولية هشة مثل تلك التي تمثلها الولايات المتحدة اليوم.
إن الحديث عن استراتيجية عربية للدفاع الاستراتيجي يعد محورا جاذبا للتفكير في الفترة الحالية وفي كل الفترات القادمة، وهو الأمر الذي يرى العديد من المتابعين أنه المهمة العربية الكبرى القادمة، خاصة بعد انكشاف تناقض تصريحات الأميركيين مع الواقع في الحديث عن عالم خال من الأسلحة النووية في الحين الذي تتعاظم فيه قدرات إيران وكوريا الشمالية في هذا المجال. فعندما يريد الأميركيون بيع الوهم، على العرب ألا يكونوا من مستهلكيه بأي شكل من الأشكال.