وُلدت “بنما” من رحم الغطرسة الأمريكية وتحالف “وول ستريت”


كيف أصبحت بنما ملجأ المتهربين من دفع الضرائب؟ من المهم هنا الرجوع إلى قصة ولادتها كدولة مستقلة. ففي عام 1903، وافقت كولومبيا وبسبب الغطرسة الأمريكية على التخلي عن الجزء الغربي منها. وعليه، فقد ولدت “بنما” نتيجة لجهود مصالح طبقات رجال الأعمال والمال في “وول ستريت”.

يقول “إد فوليامي” في صحيفة “أوبزيرفر” البريطانية إن “بنما” أُنشئت تحديدا لخدمة مصالح رجال الأعمال وأثرياء العالم. وقد تأسس البلد بداية القرن العشرين من أجل مصالح أنانية تجارية. وأشار “فوليامي” إلى ما كتبه كين سيلفرستين في موقع “فايس” قبل عامين وجاء فيه: “في عام 1903، قامت إدارة الرئيس تيودور روزفلت بإنشاء البلد بعدما أجبرت حكومة كولومبيا على التخلي عن إقليم “بنما”.

وقد تحرك روزفلت نيابة عن عدد من المصارف التي كان من بينها “جي بي مورغان أند كو”، والذي عين بمثابة “الوكيل المالي” المسؤول عن إدارة 10 ملايين دولار خصصتها الولايات المتحدة لمساعدة الأمة الوليدة”. ويعلق الكاتب أن السبب وراء الخطوة الأمريكية هو السيطرة على قناة بنما التي تربط بين المحيطين، وبالتالي التحكم بالتجارة الدولية التي تمر منها.

ويرى الكاتب هنا أن النخبة البنمية اكتشفت منذ البداية أن مستقبلها يكمن في التعامل مع الأثرياء وليس البقاء كجزء من أمريكا اللاتينية. فقد كانت الأموال التي تدفعها شركة سكك الحديد البنمية إلى الخزينة الكولومبية أضعاف ما كان يحصل عليه الإقليم من العاصمة الكولومبية بوغوتا.

وكان من المتوقع انفصال الإقليم لتوقيع الولايات المتحدة عام 1902 على اتفاقية لإنشاء قناة عكست كما كتب مؤرخ البلاد ديفيد بوشنل موقف المفاوض الكولومبي الضعيف. وفي ذلك الوقت كانت كولومبيا تعيش ما أطلق عليها “حرب الألف يوم” بين الليبراليين والمحافظين. وكان إقليم بنما ساحة المراحل الأخيرة من المعركة.

وقد راقب المعاهدة “الثوار البنماويون”، والذين كانت تقودهم الشركة الفرنسية التي تقف وراء مشروع القناة وبتواطؤ مع الولايات المتحدة. ولم يكن لدى كولومبيا حيلة لمنع الثورة لأن شروط المعاهدة منعت القوات الكولومبية من الإنزال وقمع الثورة أو إعاقة حركة التجارة في القناة.

وعليه، فالصلة بين روزفلت وجي بي مورغان كانت وراء تحول بنما إلى مركز مالي -ملجأ آمن للتهرب الضريبي وغسيل الأموال- وكذلك كممر للسفن حيث تداخلت الممارسات هذه مع بداية تسجيل بنما للسفن الأجنبية كي تنقل النفط لشركة “ستاندرد أويل” وذلك من أجل تجنب الشركة العقوبات الضريبية في الولايات المتحدة.

وتطور على هامش ناقلات النفط التابعة لستاندرد أويل متاهة من نظام الإعفاء الضريبي، خاصة فيما يتعلق بتسجيل السفن وبمساعدة من “وول ستريت”. وظلت بنما مركزاً للمتهربين من الضرائب حتى بعد تقييد الولايات المتحدة القوانين لمكافحتها. وذكر نيكولاس ساكسون في كتابه “جزر الكنز” كيف اشتكى وزير الخزانة الأمريكي هنري مورغينثاو إلى فرانكلين دي روزفلت عن الأوضاع الخطيرة التي تستدعي إجراءات قوية وأشار تحديداً إلى جزر البهاما وبنما.

ولكن بنما تحولت ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي إلى مركز للتهرب الضريبي. وزادت الأرصدة المصرفية من رقم متواضع في السبعينيات إلى 50 مليار دولار في الثمانينيات من القرن الماضي.

وفي عام 1977 وقعت معاهدتان: منحت الأولى منهما الجيش الأمريكي حق الدفاع عن القناة. وقضت الثانية بتسليم بنما سيادة القناة بحلول عام 1999. إلا أن الخطة ارتدت بآثار عكسية عندما سيطر “مانويل نورييغا” على السلطة في عام 1983 واعتقد أن ثروة بنما مناسبة لشبكات تهريب المخدرات المرتبطة بعراب المخدرات بابلو إيسكوبار، مع أن نورييغا استفاد ولسنين من دعم المخابرات الأمريكية “سي آي إيه” له. وعندها قررت واشنطن عام 1989 التحرك كما فعلت قبل ثمانية عقود وأعادت الجزيرة إلى النخبة المصرفية السابقة.

وفي ظل التداعيات الأخيرة كانت بنما قبل انفجار الأزمة الحالية من الدول الأكثر نمواً في أمريكيا اللاتينية، فوق 6%. وتنتظر في شهر يونيو افتتاح مشروع طموح لمضاعفة قدرات القناة، بحيث تعبد الطريق أمامها كي تنضم إلى دول العالم الأول.

وكل الأخبار الجيدة تبخرت عندما حصل صحافيان ألمانيان على 11.5 مليون وثيقة من شركة المحاماة البنمية “موساك فونسيكا، ولهذا فتحا الباب أمام عاصفة دولية.

وفي السياق ذاته، ووفقا لصحيفة “واشنطن بوست”، لم يكن النظام المالي الذي ولد في مرحلة ما قبل عصر الإنترنت قادراً على التغير وإن حاول فقد كان تغيره بطيئاً.

ويقول التقرير إن قادة بنما عبروا عن غضبهم من الفضيحة، ودافعوا في الوقت نفسه عن الصناعة التي كانت مسئولة عن التحولات الهائلة التي مرت بها هذه الدولة وتدر عليها دخلاً سنوياً بقيمة 500 مليون دولار أمريكي.

واعترف المسئولون البنماويون بمشاكل التمييز بين الشركة الحقيقية من الوهمية. ويتوقعون أن تتلاشى ممارسة شركات “أوف شور” يوما ما، وتنقل عن ألفارو أليمان هيلي، مسؤول طاقم الرئيس قوله: “أعتقد أن هذا سيترك أثره على بقية العالم”.

وتشير الصحيفة إلى أن نظام تسجيل الشركات يعود إلى عام 1927 وقد رُتب على نظام ولاية ديلاور. وكان من أجل خدمة السفن الأمريكية التي تمر عبر القناة وتسجيلها، حيث قامت في فترة حظر تناول الكحول في العقد الثاني من القرن العشرين بنقله عبر سفن تحمل العلم البنمي. وفي عهد نورييغا زادت سمعة البلاد كمكان لغسيل الأموال، حيث تلقى نسبة من أموال تجارة المخدرات.

وبحسب جاك بلام، المستشار في شبكة العدالة في الضريبة فقد “كانت بنما رائدة في نظام أوف شور المالي وكانت مركزية في ممارسات غسيل أموال المخدرات”.

وأضاف: “أصبحت شركات أوف شور في المركز الثاني للقناة من ناحية الدخل المالي”. وتشير الصحيفة إلى أن مناطق التهرب الضريبي تؤدي مهاما مختلفة، ففيرجن أيلاندز البريطانية تقوم بإنشاء الشركات أكثر من أي مكان في العالم، أما كيمان أيلاندز فتتعامل مع الحسابات المصرفية وتركز جزر سانت كيتس على الودائع الأجنبية.

وبخلاف هذه، تتميز بنما بالسرية من ناحية إنشاء الشركات والصناديق المالية. ومن الصعب تحديد حجم الصناعة المالية “أوف شور”، إلا أن الباحث في جامعة كاليفورنيا- بيركلي، غابرييل زوكمان، قدرها بما بين 6 إلى 7 تريليون دولار أمريكي، أي ما يعادل نسبة 8% من الأرصدة المالية العالمية.

وتعتبر بنما من المناطق العالمية السهلة من ناحية إنشاء الشركات، فرسوم شراء الواحدة منها لا يتجاوز الألف دولار ويشمل هذا الضريبة والرسوم. وعادة ما لا يخضع المال الأجنبي للضريبة.

ولهذا السبب، أُنشأت أكثر من 100 شركة متعددة الجنسيات “دكاكين” لها في بنما. ومن الخدمات التي تستفيد منها شركات المحاماة البنمية هي أن البلد لا يفرض ضريبة على الربح أو على البيع إلا في حالة العقارات والأراضي. كما لا تفرض الدولة فوائد على ضريبة الدخل. ولدى بنما قانون متشدد في مجال الخصوصية ويفرض عقوبات جنائية على من ينشر معلومات مالية.

ويعلق دانيال ريفز، المحقق السابق في مجال شركات أوف شور بالقول: إن بنما “وجدت فرصة لملء الفراغ في وقت بدأت فيه أماكن التهرب الضريبي بالتحرك نحو مزيد من الشفافية وتبادل المعلومات”.

مضيفا أن الجهات والأفراد الذين يبحثون عن السرية هم المجرمون والمتهربون من الضرائب. وتشير الصحيفة إلى أن شركة موساك فونيسكا التي أصبحت في قلب الجدل ليست شركة عادية، فلديها 500 موظف وشبكة من الفروع حول العالم، وحتى استقالته، كان أحد مؤسسيها، رامون فونيسكا، مستشاراً للرئيس خوان كارلوس فاريلا ويحضر اجتماعات الوزارة كل يوم ثلاثاء.

وشركة مثل موساك فونيسكا تقوم بإنشاء شركات لعدد من الأثرياء وتمثل عنواناً بريدياً لهم وتشرف على متابعة السجلات والوثائق القانونية وتفتح حسابات مصرفية وتشتري عقارات. ووفقا لوكالة أنباء أسوشيتدبرس، فالشركة تفتح كل عام حوالي 20.000 شركة أوف شور، لكنها ترفض ما بين 70-80 طلباً.

وتؤكد الشركة أنها لم تخرق القانون وأنها التزمت بالمعايير الدولية. وفي الوقت الذي أعلن فيه النائب العام البنمي عن تحقيق في تعاملات الشركة إلا أن قادة سياسيين دافعوا عنها. وهناك من عبر عن موقف من الصناعة.

فبحسب خوان جوفاني، المرشح الرئاسي السابق “في كل هذا هناك مشكلة أخلاقية”، مضيفا: “أنا لست مع الفكرة التي تقول: اصنع شركة سرية ولا أعرف ماذا سيحدث، فهذا كمن يقول: أصنع بنادق ولا أعرف كيف تستخدم”.

ورغم التقدم الذي حققته بنما في إصلاح مؤسساتها المالية خلال الأعوام السابقة والقانون الذي شرعته ويقضي بقيام شركات المحاماة بالإبلاغ عن أي عملية تحويل مالي مشبوهة، إلا أن منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، ترى أن بنما لا تزال في آخر ترتيب الدول من ناحية الشفافية.