الأسد والمرحلة الانتقالية في نظر الأمريكان والروس


 

على الرغم من نفي الجانب الروسي أن تكون محادثات كيري في موسكو قد تطرقت إلى مصير الأسد أو إلى ترتيبات المرحلة الانتقالية، مع اقتراب موعد استئناف مفاوضات جنيف، فقد بدا واضحًا أنّ التركيز بعد الاتفاق في تثبيت الهدنة والاستمرار على تسديد الضربات لتنظيم الدولة كان منصبًّا على مصير الأسد الذي تذرّع الروس بأنّ إزاحته ستكون صعبةً بسبب معارضة إيران واحتمال تفكك النظام برحيله.

وفي وقت غدا فيه الجانب الأميركي أقلّ تشبثًا بمطلب رحيل الأسد خلال المرحلة الانتقالية، مع استمرار تمسّك موسكو وطهران به، اقترح الروس أن يتمّ الإبقاء على الأسد، وحتى السماح له بالترشح للانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية المرحلة الانتقالية، في مقابل تعديل الدستور وتحويل نظام الحكم في سورية من النظام الرئاسي المعمول به حاليًا إلى النظام البرلماني، على نحوٍ يصبح فيه الرئيس منتخبًا من البرلمان بدلًا من الشعب ويتمتع بصلاحيات بروتوكولية، في حين تحصل الحكومة التي سيجري تشكيلها على السلطات الحالية التي يحظى بها رئيس الجمهورية، بما في ذلك سيطرتها على الجيش والأمن. ويبدو أنّ الروس والأميركيين اتفقوا على أن يكون التركيز خلال المرحلة المقبلة في تعديل الدستور أو إعادة كتابته بدلًا من التركيز في موضوع الحكم/ الحكومة الانتقالية والبحث في مستقبل الأسد، وأن يتمّ الانتهاء من ذلك في موعد أقصاه أربعة أشهر، أو كما قال كيري إنّ الدستور الجديد يجب أن يكون جاهزًا بحلول شهر أغسطس المقبل.

المشكلة في هذا الطرح الذي اقترحه الروس خلال زيارة كيري لموسكو، والذي باشر الأميركيون الترويج له في عواصم عربية وإقليمية عديدة، بدعم من دول عربية مهتمة بعدم تحقيق الثورة السورية أدنى أهدافها؛ بما في ذلك إزاحة الأسد، أنّ أيّ حكومة في سورية - مهما كان عنوانها أو اسمها أو تشكيلتها أو صلاحياتها - لن تستطيع أن تمارس مهمّاتها مادام الأسد موجودًا، حتى لو كان ذلك بصفة رمزية في الحكم أو داخل سورية؛ لأنّ سيطرته على الجيش والأجهزة الأمنية ليست سيطرةً قانونيةً أو دستوريةً تتأتى من كونه رئيسًا للجمهورية وقائدًا عامًا للجيش والقوات المسلحة فحسب، بل لأنها تتعدى ذلك إلى السيطرة الفعلية. فالجيش الذي قاتل شعبه والأجهزة الأمنية التي أذاقته ألوان العذاب هي من صُنع يد نظام الأسد وبرعايته على امتداد نصف قرن. ومن ثمّ، فهي تأتمر بأمره، ويصعب تصوّر تلقيها أوامر من غيره في ظلّ وجوده واستمراره. وتُعدّ حالة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح مثالًا واضحًا دالًّا على طبيعة العلاقة الزبائنية والولاءات الشخصية التي تربط الرئيس أو الزعيم بالأجهزة الأمنية والعسكرية في النُظم الاستبدادية. إنّ أيّ تغيير في الدستور في ظلّ وجود الديكتاتور هو "تغيير على الورق"؛ لأنّ سلطة الديكتاتور لا تنبع من الورق أو الصياغات أو حتى من الدستور نفسه.

جرت العادة أن يكون شخص الرئيس البروتوكولي (الشرفي) رمزًا لوحدة الوطن والشعب، وأن تتأتى رمزيته من إنجازات أدّاها لوطنه الذي يفخر به ويوكل إليه مهمّة تمثيله. فهل يمكن أن يكون الأسد رمزًا لوحدة سورية؟ إنّ القول بإمكان ذلك يكون في حال عَدّ كلّ من الروس والأميركيين أنّ سقوط أكثر من مليون سوري بين قتيل وجريح ومفقود، وتشريد نصف السوريين، وتدمير البنية التحتية للبلد وتحويلها إلى ساحة تعيث فيها كلّ ميلشيات الأرض فسادًا، إنجازات يستحقّ الأسد أن يُكافأ عليها بمنصب "رئيس شرفيّ".

تنظيم "الدولة الإسلامية" يسيطر على عقل إدارة أوباما

يبدو واضحًا أنّ فكرة القضاء على تنظيم الدولة تكاد تستحوذ استحواذًا مطلقًا على تفكير إدارة الرئيس أوباما واهتمامها بما يجري في سورية وعموم الإقليم.

من هذا الباب، وعلى الرغم من امتعاضها الناجم عن وقع المفاجأة، وجدت الولايات المتحدة في التدخل العسكري الروسي في سورية فرصةً للدفع في اتجاه ضمّ موسكو إلى جهد حربها ضدّ تنظيم الدولة.

وفي سبيل إقناعها بتغيير مقاربتها في اتجاه القضاء على تنظيم الدولة، بدلًا من استهداف المعارضة السورية، كانت واشنطن مستعدةً للذهاب مع موسكو إلى أبعد حدّ ممكن، بما في ذلك القبول ببعض عناصر الموقف الروسي بشأن مصير بشار الأسد. ومن هذا المنطلق، وافقت واشنطن على الانخراط في المسار السياسي الذي اقترحته موسكو بالتوازي مع تدخلها العسكري في سورية. فشاركت في مسيرة فيينا التي بدأت رباعية (روسيا - الولايات المتحدة – تركيا - السعودية) قبل أن تتوسع لتشمل 17 دولةً، من ضمنها إيران، في إطار ما أصبح يُعرف بـ "مجموعة دعم سورية"، لتعود بعد ذلك وتصبح ثنائيةً في ظل توجّه موسكو وواشنطن نحو التوصّل إلى تفاهمات مشتركة بينهما حول القضية السورية.

أسفر مسار فيينا عن التوصّل إلى اتفاقٍ روسي - أميركي في المبدأ عُرف بـ "اتفاق فيينا" وذلك في 14 نوفمبر 2015، وقدّم خريطة طريق لحلّ القضية السورية جرى تضمينها في قرارٍ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حمل الرقم 2254 بتاريخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، ونصّ على وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة شاملة ذات طابع غير طائفي، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات خلال 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة. ثم تمكّن الروس والأميركيون في 11 فبراير 2016 من التوصل إلى اتفاقٍ لوقف "العمليات العدائية" في سورية على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، بدأ تنفيذه في 27 شباط/ فبراير 2016 بعد تذليل آخر العقبات أمامه خلال اتصال هاتفي بين الرئيسين بوتين وأوباما في 22 فبراير 2016.

وعلى الرغم من الخروقات الكبيرة، وخصوصًا في الفترة الأخيرة، فإنّ الروس والأميركيين ظلّوا متمسكين باتفاق وقف إطلاق النار، بل إنّ الأميركيين صاروا يصرون على هذا الاتفاق أكثر من أيّ وقت مضى، بعد أن تبينت لهم فوائده لاستراتيجيتهم الخاصة بالقضاء على التنظيم، وذلك على الرغم من معارضة النظام السوري الذي أراد، مع حصوله على شحنة قوّة بعد التدخل الروسي، أن يواصل القتال، كما قال رئيسه، حتى يستعيد كلّ الأراضي التي فقدها، وعلى الرغم من تحفّظ المعارضة التي وجدت أنّ وقف العمليات القتالية قبل انطلاق المرحلة الانتقالية يُضعف موقفَها ويُفقدها أدوات الضغط التي يمكن أن تدفع النظام لتقديم تنازلات.

تمثّل موقف الولايات المتحدة من الهدنة بأنها تفسح المجال أمام وقف القتال بين النظام والمعارضة وتوجّه جهد الطرفين نحو القضاء على تنظيم الدولة، وذلك بمعزل عن المسار السياسي وعن إمكان تحقيق تقدّم في مفاوضات جنيف لحلّ الأزمة السورية. فخلال الأسابيع الستة الماضية من الهدنة تمكّنت قوات النظام التي سعت مع حلفائها لتحقيق انتصارات ذات قيمة معنوية تساعد على تأهيل رأس النظام السوري وتحويله من قاتلٍ لشعبه إلى خصمٍ عنيد لتنظيم الدولة وحليف في إطار الحرب على هذا التنظيم لاجتثاثه، من نقل جزء كبير من قواتها من الجبهات التي كانت تواجه فيها المعارضة المسلّحة، والحشد لاستعادة مدينة تدمر ذات الأهمية التاريخية والحضارية الكبيرة، كما تمكنت قوات النظام من استعادة مدينة القريتين التي تقع على مسافة تبعد نحو 85 كيلومترًا في اتجاه الجنوب الشرقي من مدينة حمص. وقد شكّلت استعادة المدينتين ضربةً كبيرةً لتنظيم الدولة لاحتوائهما ثروات باطنيةً مهمّةً، فضلًا عن أنهما تشكلان معبرًا مهمًّا بين معاقل التنظيم في شرق سورية (دير الزور) وشمالها الشرقي (الرقة) من جهة وقواعده في منطقة القلمون جنوب غرب البلاد من جهة أخرى. أمّا قوات المعارضة، فقد تمكنت - بدعم تركي - من إلحاق بعض الهزائم بتنظيم الدولة في شمال شرق حلب؛ إذ استعادت قرية الراعي الاستراتيجية على الحدود مع تركيا إلى جانب قرًى أخرى، قبل أن تفقدها مرّةً أخرى. وفي الوقت نفسه كانت فصائل المعارضة في الجنوب تخوض معارك طاحنةً ضدّ فصيلين صغيرين قريبين من تنظيم الدولة في المناطق الواقعة بين درعا والقنيطرة؛ هما لواء شهداء اليرموك وحركة المثنى الإسلامية.

وهكذا بدت الاستراتيجية الأميركية كأنها تُحقق نتائج إيجابية على الأرض في ضوء توقّف القوات الجوية الروسية عن استهداف فصائل المعارضة المسلّحة، وتركيزٍ أكثر لقوات النظام في مواجهة تنظيم الدولة. وقد دعت هذه النتائج كيري لزيارة موسكو للمرة الثانية خلال شهر لتثبيت الهدنة الهشة بين النظام والمعارضة.

ليس بالإمكان تخيّل الأسد، أو أيّ ديكتاتور آخر يسيطر بالقوة والولاءات غير الوطنية على أنواعها، رئيسًا فخريًّا بلا صلاحيات، كما أنه يصعب تحريك المرحلة الانتقالية إلى الأمام مادام يحتفظ بصلاحياته؛ ذلك أنّ هذا الأمر يقتضي مغادرته. هذا فضلًا عن القضية الأخلاقية المتعلقة بالجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها ونظامه.

 لا وجود لحلّ سياسي في سورية ولا استقرار فيها مادام بشار الأسد موجودًا في الحكم بأية صيغة كانتْ؛ لأنّ بقاءه واستمراره يعنيان أنّ سبب الأزمة مازال موجودًا، ومن ثمّ سيجد السوريون مبررًا قويًّا لمواصلة القتال حتى يغيب الأسد أو يجري تغييبه، ولا شكّ في أنّ استمرار الاقتتال بين السوريين يعنيان أنّ تنظيم الدولة (أو ما يشبهه) لن يجد متسعًا للبقاء فحسب، بل للتمدد أيضًا.