26 سنة على انتهاء الحرب اللبنانية ومصير آلاف المفقودين يبقى غامضاً
14 أبريل، 2016
بعد 26 سنة على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لا يزال مصير آلاف المفقودين غامضاً. وبرغم أن حل هذه القضية هو شرط أساسي لبناء سلم أهلي متين في لبنان، فإن الدولة تتعاطى معها بخفّة.
ليست الدولة وحدها مَن يتعاطى بخفة مع هذا الملف. عمل الجمعيات “المتخصصة” به لا يخلو أيضاً من الخفّة. وليس أدل على ذلك من أن اللبنانيين حتى الآن لا يمتلكون تقديراً معقولاً لعدد المفقودين خلال حربهم الأهلية. فالرقم المتداول هو 17 ألف. ولكن لا يوجد أي معطى جدّي يمكن الانطلاق منه للحديث حتى عن ثلث هذا العدد.
مفقودون ومصير مجهول
بُعيد انتهاء الحرب الأهلية، كان فهم السلطة اللبنانية لبناء السلم في مرحلة ما بعد الحرب قصير النظر، واقتصر على إعادة الإعمار وإعادة المهجرين إلى قراهم. قضايا كثيرة بقيت عالقة لتمنع اللبنانيين من تجاوز إرث الحرب الثقيل، ومنها قضية مصير آلاف المفقودين.
في ظل التقصير الفاضح، يمكن تجميع ملامح سياسة رسمية (أو لا سياسة) من خلال تصريحات المسؤولين اللبنانيين، سياسة تقوم على ثلاثة مرتكزات: أولاً، رفض الاعتراف بوجود محتجزين لدى الميليشيات اللبنانية التي تقاتلت خلال الحرب. فبعد إنجاز آخر عملية تبادل مخطوفين في لبنان، في 18 يوليو 1991، بين القوات اللبنانية وحزب الله، قال وزير الدفاع ميشال المر إنه “لم يعد هناك أي محتجز لدى أي حزب، والذين سلموا اليوم هم آخر المحتجزين”؛ ثانياً، رفض الاعتراف بإمكان وجود مفقودين أحياء داخل لبنان. ففي 31 ديسمبر 1995 قال رئيس مجلس النواب نبيه بري لأهالي المخطوفين في الداخل: “كل شيء يتعلق بالخطف الداخلي في لبنان، إذا لم يظهر المخطوف، فمعنى ذلك أنه استشهد”.
وفي العام نفسه أصدر مجلس النواب القانون رقم 434/ 95 تحت عنوان “الأصول الواجب اتباعها لإثبات وفاة المفقودين” الذي يتوفّى المفقودين دون ربط الوفاة بوجوب قيام الدولة بالتحقّق منها؛ ثالثاً، اعتبار الحديث عن مخفيين قسراً في سوريا محاولة لإعادة لبنان إلى الحرب الأهلية. فعلى سبيل المثال، اعتبر رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري، في 11 يناير 2000، “أن الادعاء بوجود عدد كبير من المسجونين في سوريا سيفتح دفاتر الحرب الأهلية كلها”.
ويمكن اعتبار أن أول خطوة رسمية شبه جدية للتعاطي مع قضية المفقودين كانت إصدار مجلس الوزراء اللبناني، في 21 يناير 2000، قراراً رقمه 10/2000 تشكلت بموجبه “لجنة التحقيق للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين”. اللجنة جمعت إفادات ذوي مفقودين وأصدرت تقريرها في 25 يوليو من العام نفسه، وجاء فيه أن عدد المخطوفين والمفقودين هو 2046 شخصاً. وخلصت اللجنة إلى “أن جميع المفقودين والمخطوفين الذين مر على ظروف اختفائهم مدة أربع سنوات وما فوق ولم يعثر على جثثهم، هم في حكم المتوفين”.
لم تُرضِ خلاصة التقرير المهتمين بالقضية. لذلك، عاد مجلس الوزراء، في 20 ديسمبر 2000، ليشكل هيئة لتلقي مراجعات ذوي المفقودين والمخطوفين. أنهت الهيئة عملها في 7 يونيو 2002، وإلى الآن لم يصدر تقريرها. لكنها تلقت معلومات مكنتها من تسجيل 702 حالة فقدان. وبعد مقارنة الأسماء التي سجلتها اللجنتان الرسميتان، تبيّن أن عدد المفقودين المسجلين في كلتيهما بلغ 2312 موزعين بين سوريا وإسرائيل والداخل اللبناني.
تحرّك الملف بعد الانسحاب السوري
بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، تحرك ملف المفقودين في شقه المرتبط بسوريا، أي المعتقلين داخل السجون السورية. وفي مايو، بعد حوالى شهر من الانسحاب، تشكلت لجنة لبنانية سورية مشتركة لم تحقق أي نجاح. وأفاد الوزير السابق جان أوغاسابيان، أواخر العام 2011، أن لبنان سلّم إلى السوريين لائحة بأسماء 615 شخصاً يُعتقد أنهم في سوريا، وأن السوريين نفوا احتجاز أي منهم. ولكن النفي السوري تصدّع بعد نجاح يعقوب شمعون، وهو معتقل لبناني منذ 27 عاماً، برشوة بعض المسؤولين عن السجن الموجود فيه والفرار إلى لبنان في منتصف العام 2012.
ثم، في 16 مارس 2014، نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” بالتنسيق مع موقع “وثائق دمشق” التابع لمركز مسارات، وثائق قيل إنها مراسلات سرية مسرّبة من دوائر النظام الرسمية. مدير مركز مسارات، لؤي المقداد، لفت إلى أن هذه الوثائق تؤكد وجود معتقلين في سجون الأسد لم تعترف دمشق باعتقالهم لديها، ولم ترد أسماؤهم على اللوائح اللبنانية – السورية المشتركة. الصحيفة نشرت أربع وثائق تشير إلى مصير 4 معتقلين لبنانيين في السجون السورية (سليم سلامة، وقزحيا شهوان، وعبد الناصر المصري، ورائف فرج) نفّذت بحق ثلاثة منهم أحكام إعدام فيما قضى الرابع تحت التعذيب. كذلك، نشرت ملخصاً لمذكرة شاملة حول ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية، أعدها مكتب الأمن القومي السوري، يظهر فيها تعمّد المكتب التهرب من كشف أي حقائق حول مئات المعتقلين اللبنانيين في سجونه. وبرغم ذلك لم يُحرّك الملف بشكل جدي.
محاولات مدنية ورسمية
أمام تهرب السلطة من التصدّي للملف، جرت محاولات عدّة من المجتمع المدني لحث السلطة على تغيير نهجها السلبي. هكذا، توصل بعض الناشطين إلى صياغة مسودة “قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً”، في فبراير 2012. في أسبابها الموجبة اعتبرت المسودّة أن حقوق ذوي المفقودين، وعلى رأسها حقهم في المعرفة، “يتم على أساس مبادئ العدالة الترميمية”، وطالبت بإنشاء مؤسسة مستقلة تعنى بتحديد مصير المفقودين والمخفيين قسراً.
هذا النشاط دفع وزير العدل السابق شكيب قرطباوي إلى التحرك، في محاولة اعتبر البعض أن هدفها الالتفاف على تشريع قانون شامل، وإعداد مشروع مرسوم إنشاء “الهيئة الوطنية المستقلة للمخفيين قسراً”. ولكن هذا المرسوم تعاطى مع الملف كملف تقني ولم يعر اهتماماً للمفاهيم الحديثة حول بناء السلم الأهلي بعد الحروب الأهلية.
وبعد الانتهاء من وضعه أحال الوزير المرسوم إلى مجلس شورى الدولة، فكان رأي الأخير أن إنشاء هيئة كتلك المقترحة “يستوجب تدخل السلطة التشريعية” لأنها “تتعلق بموضوع وطني يرتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية والسلم الأهلي من خلال طي صفحة الماضي، وله انعكاسات وتداعيات على الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي”.
بعد مطالعة مجلس الشورى، فرّغ وزير العدل المشروع من مضمونه (ألغى منه إنشاء بنك البصمات الجينية لأن تجميع معلومات خاصة عن المواطنين يستوجب قانوناً) واكتفى بالمطالبة بإنشاء هيئة “تخضع لوصاية وزارة العدل”، وهي معايير لا توافق عليها المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، وعلى رأسها اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ثم في 3 أكتوبر 2012 عرض المرسوم على مجلس الوزراء وأُقرّ مبدأ تشكيل الهيئة مع تكليف لجنة وزارية ببلورة صيغة يمكن الاتفاق عليها، لكن من دون تحديد مهلة إلزامية.
وأخيراً في 16 أبريل 2014، عقد النائبان غسان مخيبر وزياد القادري مؤتمراً صحافياً مشتركاً، وأعلنا تقديمهما اقتراح قانون عن المفقودين والمخفيين قسراً وهو ليس سوى مسودة “قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً”.
وفي ظل عدم تبني خطوات رسمية، وحدها اللجنة الدولية للصليب الأحمر مَن يقوم بخطوات جدية. فقد أنشأت عام 2012 فريقاً لجمع معلومات عن المفقودين من خلال التواصل مع عائلاتهم. كما تسعى حالياً للتوصل إلى تفاهم مع السلطات اللبنانية من أجل جمع عينات من الحمض النووي لأقارب المفقودين للمساعدة في تحديد هويات أي رفات قد يتم العثور عليه لاحقاً.
المشكلة في لبنان حالياً هي أنه إذا تم نبش مقبرة جماعية ما، لن يمكن تحديد هوية الرفات الموجود فيها وقد حصل ذلك في إحدى الحالات. هذا يعني أن هناك ضرورة لوضع خطة متكاملة والعمل وفق منهجية علمية لتحقيق تقدّم. وهذا لن يتم من دون إنشاء مؤسسة مستقلة تتابع هذا الملف بالتعاون مع المنظمات الدولية الخبيرة وتقوم بأنشطة موازية ضرورية لتنقية الذاكرة، وتعزيز المصالحة الوطنية. فمسألة المفقودين ليست مسألة تقنية.