أوروبا والإسلام والعلمانية الراديكالية

17 أبريل، 2016

استبدلت أوروبا في مرحلة ما بعد التنوير القيّم المسيحية بقيّم أخرى علمانية

جيوبوليتكال فيوتشرز –

أسافر هذا الأسبوع إلى أوروبا، أذهب إلى مكان يواجه تدفق كبير من اللاجئين المسلمين وفي الوقت نفسه يعاني من أعمال إرهابية من قِبل مسلمين. من هذا المنظور، يبدو هذا كقصة قديمة. لقد غزا المسلمون أوروبا في القرن الثامن، واستولوا على إسبانيا وفرنسا. غزا المسلمون أيضًا الجنوب الشرقي لأوروبا، وتوغلوا حتى وصلوا إلى فيينا في القرن السابع عشر. على الجانب الآخر، غزت أوروبا أراضي المسلمين أثناء الحروب الصليبية في القرون الثاني عشر والثالث عشر. وعاود الأوروبيون اجتياح العالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتزامن كل هذا مع هجمات أقل وتحركات سكّانية كذلك.

بهذا المعنى، استمر الصراع لأكثر من ألف سنة، مع نزاع لا نهاية له، وتحركات رئيسية في بعض الأحيان. لقد كان صراعًا بين ديانتين، كل دين يرى قواعده التأسيسية في العهد القديم، مع توسّع من خلال تجليات جديدة ومتناقضة بشكل أو بآخر. كل دين لديه الكثير من الأتباع، ويسيطر على أراضي شاسعة. في الصراع بين المسيحيين والمسلمين، خسر كل طرف في بعض الأوقات، وفاز في أوقات أخرى، ولكن لم يستطع أي طرف هزيمة الآخر بشكل حاسم.

يبدو هذا كمرحلة ثانوية وليس صراعًا في حرب مستمرة. ولكنَّ هذا الفصل مختلف بشكل أساسي. لقد كانت كل الصراعات السابقة بين المسيحيين والمسلمين. لكنَّ الصراع الحالي ليس كذلك. منذ الحرب العالمية الثانية، أعادت أوروبا تعريف نفسها. كان مسيحية في السابق، والآن أصبحت علمانية رسميًا، وبالتالي فهذا صراع بين التديّن الإسلامي والعلمانية الأوروبية. وهذا يجعل ديناميكيات الصراع مختلفة.

تبنت أوروبا مبادئ التنوير الفرنسية، التي ترى أنَّ الدين هو مسألة خاصة تمامًا يجب ألّا تصبح جزءًا من الحياة العامة ومن ثمّ لا يمكن لوم الآخرين على ما يفعلونه في الحياة العامة. نقد فكرة أنَّ الإسلام والمهاجرين والإرهاب هم الشيء نفسه متجذر في فهم معقَّد للمسؤولية العامة والخاصة، والجماعية والفردية القائمة على أساس تعقيدات التنوير الأوروبي.

لقد أصبحت أوروبا غارقة في العلمانية، أكثر من الولايات المتحدة. وهذا ليس مفاجأة في ظلّ أنَّ أوروبا كانت مركز التنوير في العالم. لذا، كانت أوروبا قارة مسيحية في السابق، حتى أصبحت المسيحية مسألة خاصة، يُنظر إليها على أنها نظام واحد من الاعتقاد السائد بين الكثير، مع مجال عام محايد في جميع هذه المسائل.

مثل هذا الحياد مستحيل بطبيعة الحال؛ فالحياة العامة مستحيلة من دون بعض المبادئ الأخلاقية المشتركة. الحياة العامة الأوروبية مليئة بهذه المبادئ المستمدة عادة من موضوعات الثورة الفرنسية، مثل الحريّة والمساواة والإخاء، وحق المواطنين في العيش كما يشاؤون، والتعامل على قدم المساواة في ظلّ القانون وبإخوة، مع عدم إقصاء أحد. وهذه بطبيعة الحال قيّم معقَّدة وأكثر إثارة للاهتمام في الأشياء التي تستبعدها من تلك التي تتضمنها. إنّها تستبعد أي ذكر لله عمومًا، والمسيح على وجه الخصوص. وبعبارة أخرى، في تحييد المجال العام، تظهر جميع الأديان متساوية وتحترم قيّم الحياة العامة.

الأديان هي حركات سياسية كذلك، لأنّه في إعادة تشكيل الأشياء الخاصة مثل الضمير والواجب، يجب أن تُعيد تشكيل الطريقة التي يتصرف بها “الدينيّ” في الحياة العامة. المعتقدات المسيحية الخاصة – أو معتقدات أي دين آخر – تتطلب في نهاية المطاف عمل عام وتمكين قيادة دينية لتقديم مطالب سياسية. ولذا، فإنَّ مطلب اليوم بوقف الإجهاض مستمد من عقيدة مسيحية خاصة لا يمكن احتوائها ببساطة كقيمة خاصة؛ لأنَّ اعتقاد ذلك يتطلب عمل سياسي.

يصادف هذا العمل ليس مجرد الواجب الأخلاقي للحياد العام، ولكن هيكل كامل من القيّم المستمدة من عصر التنوير. من هذا المنظور، تصبح قيّم التنوير أكثر تطرفًا من القيم الدينية؛ فهي لا تعترض فقط على الأجندة السياسية الدينية، ولكن تطالب بألّا يعبّر “الدينيّ” عن إرادتهم السياسية. من ناحية أخرى، جميع الأديان متساوية، ولكن يجب أن تكون جميعها سياسية، بما في ذلك المسيحية، التي كانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة العامة في أوروبا.

إنَّ موقف أوروبا المعقَّد تجاه الدين هو جزء من تعقيد لموقفها الأخير تجاه هجرة المسلمين. غازل العالم الإسلامي مع العلمانية في القرن العشرين، ولكن في النهاية، ظلت المنطقة دينية، وعززت موقفها الإسلامي. الإسلام مثل المسيحية التقليدية، هي حركة سياسية يبدو فيها تمييز عصر التنوير بين الحياة العامة والخاصة غريبًا ويبدو التمييز بين الفرد ومجتمع المؤمنين معقّدًا. مستوى العنف والبُعد العسكري ليس كما كان في الماضي. ولكن هذه المواجهة بين ما يمكن أن أسميه العلمانية الراديكالية والإسلام هي في نواح كثيرة أكثر تعقيدًا.

من وجهة نظر علمانية، لا يوجد شيء يتعارض بين أوروبا والمسلمين طالما أنهم يقبلوا التمييز بين الحياة العامة والخاصة، وبين معتقداتهم الخاصة والمشاركة في المجتمع. بالنسبة للمسلمين، تبدو تلك الفروق غريبة وغير سائغة. وبالنسبة للعلمانيين، العالَم الخاص ليس مجرد عالَم الدين، ولكن عالَم المتعة؛ إذ أنَّ مذهب المتعة هو جزء من العلمانية. يرى المسلمون أنَّ الحياة الخاصة هي عالّم من الانضباط الشخصي بعيًدا عن المتعة، ويجب أن يتجلى هذا الانضباط في الحياة العامة أيضًا.

لقد كان هناك تماثل بين المسيحية والإسلام؛ إذ رأى كل دين الحياة العامة والخاصة كجوانب مختلفة لنفس الوجود، وأنَّ كل متعة هي المشكلة يتعيّن حلّها وليس خيارًا ليتم اعتماده. العلمانية الحديثة إنجيلية في الاعتقاد بأن الأفكار العلمانية لحقوق الإنسان يجب احترامها في جميع أنحاء العالم. وهنا يحدث اندماج بين المسيحية والإسلام والعلمانية. كل دين في نضال من أجل أرواح الآخرين.

مفهوم المساواة – بين المؤمنين وغير المؤمنين، وبين الرجال والنساء، وبين المثليين والغيّريين – يقع في صميم العلمانية السياسية. تحظر العلمانية أو تسعى لحظر أي خطاب علني يرفض هذه المبادئ، على أساس أنه خطاب ضار لا يحميه التعديل الأول للدستور. الأهم من ذلك، يرى العلمانيون استخدام القوة كأمر مقبول لإنهاء الظلم الذي يعرّف بأنه انتهاك للحرية والمساواة. ومن هذا المنطلق، تبدو العلمانية إنجيلية. ولكن هناك أيضًا اختلاف كبير. لا يوجد صراع بين المسيحية التقليدية والإسلام في عقيدتهم الإنجيلية، فلا يمكن أن تكون العلمانية صريحة ضد حاجتها إلى تهميش أولئك الذين لا يوافقون على هذا الاختلاف.

العلمانية هي دين غر قليل الخبرة، لم تتعلم تولي السلطة السياسية بحنكة. وهذا يضعها في موقف دفاعي فكري ضد الإسلام بطريقة مختلفة عن المسيحية؛ فالمسيحية فهمت الإسلام بطريقة لم تستطع العلمانية تحقيقها. لقد كان المسلمون والمسيحيون أعداء على مدار قرون عدة. العلمانية تحترم الإسلام لكنها تنتهك قيّمه الخاصة. وفي محاربة عدو معقَّد، فمن الأفضل أن يكون هناك معتقدات متسقة بشكل قوي.

عندما أذهب إلى أوروبا، أتكلم مع عدد كبير من العلمانيين، وكثير منهم يحتقر الحساسية المناهضة للعلمانية من اليمين الأوروبي، وكراهية الأجانب والقمع. ولذا، يجب على العلمانيين أن يجدوا طريقة للتعامل مع الإسلام الذي يشارك هذه الصفات بشكل غير قابل للاعتذار مع اليمين. ومع ذلك، لا يريد هؤلاء أن يُنظر لهم باعتبارهم معادين للأجانب وقمعيين. لا يوجد حل بسيط للمشكلة السياسية في قلب أوروبا. أوروبا علمانية. والعلمانية لديها العديد من الفضائل، ليس من بينها تحديد العدو. لم تعالج العلمانية حتى الآن على تناقضاتها. وأتوقع أنها لن تكون قادرة على إقناع العلمانيين بهذه التناقضات.