العولمة تسير جنبا إلى جنب مع عدم المساواة
17 أبريل، 2016
انتشرت إحصائيات واستطلاعات للرأي مطلع العام الحالي حول الثروة في العالم أفادت أن 80% من سكان العالم يستحوذون على 6% فقط من ثروة العالم، وأن 1% من سكان الأرض لديهم نصف ثروات الدنيا، هذه الإحصائيات وغيرها هي ما تؤكد ظاهرة تركز الثروة بيد القلة القليلة من البشر وتزايد ثروتهم مع الوقت في حين أن الفقراء يزدادون فقرًا.
يعد هذا السؤال مثار جدل ونقاش خلال السنوات الماضية بين الاشتراكيين والرأسماليين، وقد كُتبت حوله كتب وأُجريت فيه أبحاث دامت سنوات طويلة، من أهم من بحث في هذا السؤال حديثًا هو “توماس بكيتي”، أستاذ الاقتصاد الفرنسي في مدرسة باريس للاقتصاد في كتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” المنشور في عام 2014، حيث استغرق بكيتي مع مجموعة من الاقتصاديين عشر سنوات من البحث لإنتاج الكتاب.
يدور بحث الكاتب حول تركز الثروة والدخل مع فئة قليلة من البشر في القرن التاسع عشر في أوروبا من خلال تحليل كمي ضخم من بيانات الدخل والنمو تمتد لمئة عام بأسلوب رياضي، حيث ساهمت سرعة تراكم ثروات الأفراد الخاصة في تضاؤل نمو الدخل القومي للبلاد نفسها وتركز الثروة في أيادي العائلات الغنية، وختم بكيتي كتابه بدعوة الدول للتدخل وفرض ضريبة على الثروة لمنع الزيادة السريعة لتفاوت الدخل وعدم المساواة والتي تهدد في نهاية الأمر الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
كذلك كتب “مارك بوكانان” كتاب “الذرّة الاجتماعية” لماذا يزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا؟! الصادرة ترجمته للعربية عام 2010، وفيه يفكك الكاتب سلوك الأفراد من حيث نوع التبادل الذي يقومون به وأنماطه وتوجهاته العامة في ظروف معينة، فمن خلال تفاعل الذرات مع بعضها البعض قد يحدث خلل في التفاعل بين الذرات المجتمعية وعلاقاتها سوية ً، فيبرز الصراع بين الطبقات وتظهر مظاهر العنصرية وتطغى المصالح الخاصة وأساليب العيش والسرقات في النمط العام، وتنشأ طبقات اجتماعية وتدفق جائر يتسم بحلول الثروة في أيدي القلة على حساب الأكثرية.
مقولة الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرًا، هي مقولة قديمة جديدة في آن واحد؛ إذ تتردد بين الفينة والأخرى منذ قرن من الزمان، فبعد كل أزمة مالية تخرج لتجوب العالم، وهذه المقولة هي أحد الشعارات الاشتراكية ضد الرأسمالية وتمتد جذورها إلى كارل ماركس والحتميات التي توقعها، إذ يرى أن الرأسمالية ستتوجه حتمًا إلى الانهيار وفقاً لقوانين “الحركة الاقتصادية” وقانون “ميل الربح نحو الانخفاض”، وقانون “زيادة الفقر” و”تمركز رأس المال”، فالرأسماليون الصغار يفلسون ويتم امتصاص وسائل إنتاجهم من الرأسماليين الكبار ما يؤدي إلى تقلص الطبقة الوسطى وتشكل طبقتين أقلية صغيرة من الرأسماليين الكبار وأغلبية كبيرة من البروليتاريا الفقيرة، ومن هنا يبدأ الصراع الطبقي.
إلا أن هذا الصراع لم يحدث في الدول الرأسمالية قبل ثمانينات القرن الماضي بل ازدهر اقتصادها وتحسنت أحوال معيشة الفقراء؛ فالأجور زادت ونظام التعليم تحسن وكذلك الرعاية الاجتماعية والصحية والخدمات العامة، كما أن نظام الضرائب تقدمي بمعنى أن الضرائب تزداد بازدياد الدخل وتم إدخال الدعم الحكومي للفقراء، أما بعد الثمانينات بدأ التوازن يختل من خلال ازدياد غنى الأغنياء وفقر الفقراء، وهي المرحلة التي شهدت انهيار نظام بريتون وودز وبدء نظام التعويم وتزايد المعروض النقدي وظهور التضخم بشكل كبير وارتفاع معدلات البطالة.
لم يكن ذلك بسبب انخفاض الدخل ، إنما بسبب اتساع الفجوة بين سرعة ازدياد دخل الأغنياء وبطئه بالنسبة للفقراء، وهذا ما أنتج الخلل في التوازن؛ ففي حين كانت الطبقتان تسيران باطراد متوازن نسبيًا، أصبحت عدم المساواة في الدخل والثروة أوضح من السابق، بسبب تزايد معدل دخل الأغنياء مع بقاء معدل دخل الفقراء على حاله ، فالرأسماليون يقرون أن ثروة الأغنياء تزداد بمعدل أكبر من ثروة الفقراء بسبب العولمة.
حصلت تعديلات من قِبل الدول الرأسمالية على أنظمة الرفاه والرعاية الاجتماعية أدت إلى تراجع مستويات الدعم الحكومي وتراجع نظام الضرائب التقدمي، كما ركزت القوانين الجديدة على متطلبات الاقتصاد العولمي من التقنية والتكنولوجيا والذكاء الصناعي والمعرفة أكثر من اليد العاملة المتواضعة، وصار لدى أصحاب الدخل العالي إمكانية أكبر للحصول على الثروة مثل شراء منازل أكثر رفاهية والاستفادة من زيادة أسعار الأصول بسبب التضخم المالي الذي شهدته هذه المرحلة، على عكس الفقير الذي بقي دخله مثلما هو وإن كان يزداد فإن التضخم كان يقلص من قيمته الحقيقية، لذا عمليًا كانت ثروته في تناقص، وبقي في مستوى معيشة متواضعة.
بات النقد موجه أكثر نحو العولمة الرأسمالية التي تثبت كل يوم أنها تبني ثروة الأغنياء على حساب الفقراء؛ ففي أمريكا خرجت مظاهرات ترفع شعار “احتلو وول ستريت” رمز الثراء الفاحش للرأسماليين، وأصبح اليسار يوجه نقده ضد العولمة الرأسمالية، على أنها مطالبة الرأسمال بحرية مطلقة على حساب أي اعتبار مجتمعي آخر، وخلفت العديد من الأزمات المالية العالمية لأنها فقدت التنمية المتناغمة، وأصبحت بسبب شراهتها لرأس المال معادية لكل ما هو اجتماعي، إذ أصبح مصير الأفراد والعمال يخضع لتقلبات وتحولات اقتصادية لا يتحكمون بها، وبات انعدام الأمان الاقتصادي سمة المشهد العام للرأسمالية من مرونة الشغل والهشاشة والبطالة وانخفاض المداخيل الاجتماعية والتقشف، فمن خلال هذه المفاهيم كلها يستغل الرأسماليون تحميل العمال العبء المالي الناجم عن الأزمات، بينما همّ الرأسمالي الأوحد هو الحفاظ على معدلات ربح مرتفعة لمراكمة الثروة.
ويزيد من ينتقد العولمة بقولهم أنهم ضدها لأنها تنظم عملية استحواذ هائلة على الثروة التي ينتجها العمال عبر العالم، وتستهدف تحويل كل شيء إلى سلعة فيسعى الرأسمالي المعلوم إلى تحويل قطاعات التعليم والصحة وغيرها من خدمات اجتماعية إلى ميادين لتوسيع ثروته، فحين تصبح الصحة سلعة سيعالج الرأسمالي البشر بحسب الدخل وليس بخطورة المرض، فضلاً أن العولمة الرأسمالية تحّول المنافسة بين الرساميل إلى حروب بين الشعوب لإقصاء بلدان وشعوب بأكملها باللجوء إلى القوة كوسيلة لضبط الثروة العالمية لصالحهم.