حسام عبدالرحيم قاضٍ صامت يسعى للهرب من “لعنة الكرسي”

18 أبريل، 2016

على العكس من كثير من زملاء جيله الذين جذبتهم أضواء السياسة وإبداء الآراء على شاشات الفضائيات، وأفردت لهم الصحف والمواقع الإخبارية مساحات واسعة للإدلاء بآرائهم القانونية والسياسية، احتفظ المستشار حسام عبدالرحيم وزير العدل الجديد بمسافة آمنة بينه وبين الأضواء طوال 50 عاما هي عمر مسيرته في السلك القضائي.

لا يتحدث إلا من على منصة القاضي داخل المحاكم، ولا يتكلم إلا بالقانون، حتى عندما وصل الإخوان إلى الحكم في مصر، وكان كبار القضاة يدافعون عن استقلالهم باستماتة ضد محاولات الرئيس المعزول محمد مرسي التدخل في شؤون القضاء وفرض الوصاية على المحاكم من خلال إعلانه الدستوري عام 2012، فضّل هو أن يظل قاضيًا مستقلًا، مهمته الفصل في القضايا والحكم فيها، تاركًا الساحة السياسية والمعارك الكلامية لآخرين دأبوا على التناحر والتشابك في بعض الأمور السياسية.

لم يكن هدوء ورزانة القاضي حسام عبدالرحيم، الذي يعتلي الآن كرسي وزير العدل المصري، يعني بالنسبة إليه سوى رسالة إلى زملائه بأن عمل القاضي، يجب أن يقتصر على قاعة المحكمة، لأن إقحام النفس في أمور دنيوية لا يتفق مع “رجل العدالة”، وعواقبها ستكون وخيمة، إما عليه وعلى تاريخه، وإما على نزاهته ونظرة الناس إليه عندما يتفوه بعبارات لا تتفق مع ما عهدوه من القضاة، أو يسير في طريق لم ترسمه له موازين العدالة.

تلك هي الرسالة التي لم يفهمها الوزيران السابقان، اللذان جلسا على الكرسي قبله (محفوظ صابر والزند) فتحققت نبوءته وحلّ سوء الخاتمة على كليهما، بسبب زلات لسانهما، وانخراطهما في أمور تجاوزت حدود منصبيهما.

هو ثالث وزير للعدل خلال عام واحد، الأول كان القاضي محفوظ صابر، الذي أجبر على تقديم استقالته بسبب تصريحه بأن ابن عامل النظافة لا يصلح أن يعمل في السلك القضائي، والثاني كان القاضي أحمد الزند الذي أقيل من منصبه يوم 14 مارس الماضي، بعدما أخذته الحماسة ليهدد بحبس كل من يخالف القانون حتى لو كان النبي محمد دون اعتبار لحساسية التشبيه.

غير أن هذا القاضي الهادئ الذي يعي جيدًا “معنى وقيمة ومردود كل كلمة تخرج من لسانه”، وأنه يجلس على كرسي ملعون، وطارد للوزراء، بدأ منصبه بعبارة مغايرة حصّنته نسبيًا عند الجمهور الذي ثار على عنصرية سابقيه، وقال في بادئ عمله إن “القضاة ضمير الشعب”، ليبدو أنه أدرك الدرس جيدًا، وأنه لا ملاذ أمامه إلا التمسك بالمبادئ القضائية التي تربى عليها، وأن يرسم لنفسه طريقًا مغايرًا يخالف الطريق الذي سار عليه أسلافه.

عبد الرحيم ثالث وزير للعدل خلال عام واحد، الأول كان القاضي محفوظ صابر، الذي أجبر على تقديم استقالته بسبب تصريحه بأن ابن عامل النظافة لا يصلح أن يعمل في السلك القضائي، والثاني كان القاضي أحمد الزند الذي أقيل من منصبه يوم 14 مارس الماضي، بعدما أخذته الحماسة ليهدد بحبس كل من يخالف القانون حتى لو كان النبي محمد

ولأنه يعلم أن المهمة لن تكون سهلة، وأن “الأعين لن تغيب عن رقابته”، وسهام التصيّد لن تتوانى عن مطاردته، ظل متمسكًا بإيمانه أن الابتعاد عن الأضواء أحد السبل المثلى في العبور إلى بر الأمان، خاصة وأن سابقيْه رحلا بطريقة مهينة، بعدما خرجا إلى الأضواء التي لا يسلم منها إلا القليل، ليصبح أحد الوزراء القلائل في الحكومة الجديدة الذي لم يخرج إلى الإعلام، وفضّل أن يتمسك بتاريخ الصمت المعهود عنه، ويكون شخصية غامضة حتى اللحظة الأخيرة.

ما قد يميزه عن سابقيه، أن وجوده في الحكومة الحالية، محصّن نسبيًا حتى وإن أخطأ، خاصة بعد نية البرلمان الموافقة على استمرار الحكومة، وأن رحيله عنها يستلزم موافقة أغلبية البرلمان، بعكس الحكومات السابقة التي كان رحيل الوزير فيها بيد الرئيس وحده، ما قد يعطيه نوعًا من الشجاعة، وأن يطلق العنان لنفسه للخوض في كثير من الأمور الشائكة، لكن في نفس الوقت تظل عقيدته ومبادئه التي تربى عليها، بالنسبة إليه، مكبلة ليديه، بيد أنه يؤمن بأن منصب القاضي رسالة، ولا بد أن يكون عنوان الرسالة واضحًا من كلماتها الأولى.

لذلك عندما أراد أن يبعث برسالته الأولى، عقب توليه حقيبة العدل، تخلص من رجال الوزير السابق أحمد الزند داخل الوزارة وأطاح بـ20 مستشارًا في مناصب عليا، كي يثبت أنه مناهض لكل ما يعرف بـ”مراكز القوى”، حتى وإن كان من أطاح بهم هم زملاءه في القضاء، لكنهم عملوا مع شخصية أصبحت منبوذة من الشعب، وأن الإبقاء عليهم هو استمرار لسياسة أصبحت مرفوضة من الأكثرية، ما قد يدخله في دوامة “القيل والقال” التي هو في غنى عنها.

هذه الطبيعة الصارمة التي أصبحت عنوانًا عريضًا لشخصية الرجل، ليست جديدة عليه، إذ يملك سجلاّ حافلا بالقرارات التي أصدرها حفاظًا على تقاليد القضاء واستقلاله، فهو صاحب حكم عزل نائب عام الإخوان طلعت عبدالله من القضاء نهائيًا بسبب مخالفات مالية، كما أطاح بالعشرات من القضاة الذين انحرفوا عن المسار الصحيح لمهنة العدالة، حتى وإن بدت الدوافع سياسية، لكن ظاهرها كان الحفاظ على صورة القضاة.

بعد تولّيه منصب رئيس محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلى لمدة عام واحد (2014- 2015) شهدت فترته بداية مذبحة القضاة بإحالة ما يقرب من 100 قاض إلى الصلاحية بعد ثورة 30 يونيو 2013، وما عُرف بقضيّتي “بيان رابعة العدوية”، و”قضاة من أجل مصر” وقد تم عزل 15 قاضياً منهم نهائياً منذ أيام قليلة، فيما لا يزال هناك 60 قاضيًا في قضية بيان رابعة ينتظرون الحكم النهائي في مصيرهم المهني.

من أبرز القضاة الذين أطاح بهم عبدالرحيم من منصة القضاء، المستشار حسن النجار محافظ الشرقية الأسبق في عهد محمد مرسي، والرئيس بمحكمة استئناف القاهرة، حيث أصدر قراراً برفع الحصانة القضائية عنه، لاتهامه بالمشاركة في المظاهرات المؤيدة لمرسي.

قد يعتقد البعض أن سجل الرجل حافلٌ بالعداءات، لكن شتان بين عداءاته مقارنة بسلفه أحمد الزند، الذي كان قطاع كبير من المصريين يعتبرونه عدوّا لهم، ويتعامل معهم بطبقية، أما عبدالرحيم فهو يعادي كل من يخالف الأعراف القضائية، لإيمانه بأن استقلال القاضي هو الحصانة الوحيدة لاستمراره في المهنة.

قد يمثل ذلك بالنسبة إليه جملة من التحديات التي تفرضها عليه شخصيته، خاصة أن صرامته قد تدخله في دوامة الصراع مع القضاة الذين كان الزند يسترضيهم بشتى الطرق، من خلال مزايا مالية واجتماعية لم يعتادوا عليها من قبل، الأمر الذي كان يثير حفيظة المصريين ضد الزند، أما عبدالرحيم فظهر منذ الوهلة الأولى أنه لا يعول على استرضاء القضاة في الاستمرار في مهمته وتحصين وجوده داخل الوزارة.

الخيط الواصل بين الزند وعبدالرحيم أن كليهما لا يستطيع إخفاء عدائه لجماعة الإخوان، فقط تختلف بينهما طريقة التعبير عن هذا العداء، فالزند كان يتحدث بعبارات تحمل تهديدًا ووعيدًا لكل إخواني في مصر، حتى وإن لم يرتكب خطأ، وطالب بقتل 10 آلاف إخواني مقابل كل شهيد من الجيش أو الشرطة، ما تسبب في اتهام النظام المصري بأنه “قمعي” يسعى للتخلص من الإخوان بسيف القضاء، وتردد أن ذلك كان أحد أسباب الإطاحة به من المنصب.

أما عبدالرحيم فكانت كل أحكامه على القضاة المنتمين للإخوان شرسة، شريطة أن يعلنوا عن ولائهم، أو يرتكبوا أفعالا تؤكد ذلك، مثل عزل القضاة الذين شاركوا في اعتصام الإخوان ضد عزل محمد مرسي بعد ثورة 30 يونيو، وإلغاء تعيينات النيابة العامة عام 2013 لانتماء عدد من المقبولين وأقاربهم لجماعة الإخوان.

عبدالرحيم ليس من المحسوبين على جبهة محددة داخل الوسط القضائي، كما عرف عنه أنه قليل الأصدقاء وسريع الغضب، ما يعزز قوته وانفراده بالقرارات دون تأثير من أيّ تيار قضائي، بعكس كثير من الوزراء السابقين الذين كانوا ضمن تيار استقلال القضاء.

لذلك يظل وجهه يفتقد الكثير من الملامح التي تساعد الناس على فهم شخصيته وتوجهاته بسهولة، حتى القضاة أنفسهم قد يجدون صعوبة في فهم هذا الرجل الغامض، الذي لم يعرف عنه من قبل إلا شخصيته وهو على منصة المحكمة، وهجره لكل ما دون ذلك.

الوزير الجديد يبعث برسالته الأولى عقب توليه حقيبة العدل، من خلال إطاحته بـ20 مستشارا من رجال الوزير السابق أحمد الزند ليثبت أنه مناهض لكل ما يعرف بـ(مراكز القوى)، حتى وإن كان من أطاح بهم زملاءه في القضاء

هذه الظاهرة ربما لم تكن موجودة من قبل، حيث أن الوزراء الخمسة الذين شغلوا المنصب منذ ثورة 25 يناير 2011، كانت لهم توجهات بشكل أو بآخر، ما أعطى بعض القضاة مساحة واسعة للعب أدوار سياسية وهو ما ساهم في اهتزاز صورتهم نسبيًا أمام الرأي العام المحلي والدولي، ودفع بعض الدول لاتهام القضاء المصري بأنه مسيّس، ما حدا بالنظام المصري جاهدًا لمحوها لكنه لم ينجح بالشكل الأمثل، وظلّت آثارها متراكمة إلى الآن، وظهرت في تقرير البرلمان الأوروبي حول مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، حيث تطرق إلى أن الأحكام المصرية مسيسة.

لأجل ذلك، تظل أحد أهم التحديات التي تواجه عبدالرحيم في منصبه الجديد، إزالة هذه الصورة بشكل نهائي، والتأكيد على استقلال القضاء وإبعاد القضاة عن لعب أيّ أدوار سياسة، سواء بإجراءات قد تطال رموزا قضائية، أو بقرارات تحجّم دور التيارات والجبهات المتداخلة وأصحاب الكلمة المسموعة داخل السلك القضائي.

لكن شخصيته العنيفة التي استمدها من منصبه كـ”قاضي القضاة”، وما عرف عنه من أحكام استهدفت بالأساس الحفاظ على هيبة القضاء، توحي بأنه لن يتردد في أن يتخذ هذا أو ذاك، ما قد يعجّل بصدامات مبكرة مع عدد من القضاة الذين يرون أنه جاء لتحجيم أدوارهم التي جعلت منهم مراكز قوة داخل السلك القضائي.

يؤمن بأن القضاة مثل باقي البشر، ليسوا فوق القانون أو أعلى من المواطنين في شيء، ما يمكن تفسيره بأنهم غير محصّنين من العقاب في حال الخطأ، وهي رسالة كانت غائبة، ربما عن كل من سبقوه في المنصب.

صحيح أنها تركت انطباعًا إيجابيًا وغير معهود عند جموع الشعب، لكنها على النقيض قد تترك انطباعًا أكثر سلبية عند القضاة أنفسهم، خاصة بعدما ظهر أمامهم أنه جاء للمنصب لضبط إيقاع تعاملهم مع مناصبهم، ووضع كل منهم في المكانة التي يستحقها لإزالة الانطباع الذي يردّده البعض عن وجود محسوبية داخل العمل القضائي.

وحتى يتفادى الصدام المبكر مع القضاة، لم يغب عنه الحذر من تجاهلهم، وأفصح عن نيته “لتحقيق مطالبهم”، عندما كان يفنّد تحركاته المقبلة داخل الوزارة، ورؤيته لإجراء التعديلات التشريعية المطلوبة، في سبيل تحقيق العدالة الناجزة التي ينشدها المواطنون، خاصة أنه يؤمن بأن التأخر في إصدار الأحكام يؤثر سلبًا على القضاة والمتقاضين، في ظل وجود قضايا ممتدة منذ عدة سنوات لم تنته بعد، ما يجعل البعض يفقد الأمل في “أن الانتصار سيكون من خلال العدالة”.

وفقا لعبارة “العدل أسمى القيم الإنسانية، ولا سبيل لتحقيقه إلا بقضاء قويّ، يلوذ به الناس جميعا متساوين، لا فرق بين قويّ وضعيف، أو بين غني وفقير”، أعلى الرجل من قيمة المساواة ووضع القضاء أداة في يد المواطن ترد له حقه ولا تهدره أو تنتقص منه. وحتى مع بلوغه كرسي الوزارة، يظل عبدالرحيم متمسكًا بكل مبادئ “استقلال القضاء” خاصة أن الوضع تبدل، وبعدما كان ينادي بهذا المبدأ، أصبح مسؤولًا عن تحقيقه، ما دفعه لوضعه ضمن مقدمة التحديات التي تواجه عمله خلال الفترة المقبلة، لأجل أن يتمكن من تحقيق باقي الأهداف الخاصة بتطوير منظومة العدالة في البلاد، ما يوحي بأن انحراف القاضي عن الاستقلالية، عقبة كبيرة أمام تحقيق أهداف الدولة من العدالة.

كان لافتًا هذا الخروج الاستثنائي لعبدالرحيم من دائرة “القاضي المستقل” إلى “القاضي السياسي”، خاصة أنه مضطر في منصبه أن يغيّر من أفكاره ومبادئه لتتماشي مع الوضع الجديد، خاصة بعدما تحدث عن نيته النظر في التشريعات الخاصة بالاستثمار في مصر، واتخاذ الإجراءات القانونية والتشريعية التي من شأنها جذب المزيد من الاستثمارات، وخلق بيئة تشريعية تحفز المستثمرين على ضخ المزيد من الاستثمارات داخل الاقتصاد المصري.

بخلاف ذلك، تنتظره مجموعة من التحديات الصعبة، أهمها الملف الخاص بقضايا الفساد، وقضايا التحكيم الدولي المقامة من مصر أو ضدها، والقضايا المتعلقة بقيادات جماعة الإخوان المسلمين والتي تستحوذ على قدر كبير من اهتمام المجتمع الدولي، وأصبح عبدالرحيم مطالبًا أمام الداخل والخارج بأن يظهر القضاء المصري في ثوب أبيض نزيه، ويمحو عنه أيّ بقع سوداء.