طارق أوبرو مغربي فرنسي أقام في أحزمة الفقر والسجون بحثا عن النور


استطاع إمام مسجد مدينة بوردو في فرنسا، أن يقتحم النص الفلسفي بعدما وسّع مداركه في الفكر الديني الإسلامي. ساهم في معالجة المشكل الاجتماعي للجالية المسلمة بفرنسا بالنص الديني، بعدما غلّب الفكرة المقاصدية، واعتبر أن النص الديني أشمل وأوسع من جدران المسجد أو سجادة المحراب ودرجات المنبر. فاقترب كثيرا من معاناة المهمشين والمساجين والمرضى من بني جلدته.

المفكر طارق أوبرو ابن مدينة تارودانت في المغرب رحل رفقة عائلته في العام 1979 إلى مدينة بوردو وهو في التاسعة عشرة من عمره. كان أبوه مديرا لمدرسة، وأمه أستاذة لمادة اللغة الفرنسية. تابع دراسته في كلية الطب ثم تحول لدراسة البيولوجيا فنال ديبلوما في الصيدلة الصناعية.

كان توقفه عاما كاملا عن دراسة الطب نتيجة تحولات وجدانية وشعور عميق جعله يمتحن تعاطفه وتديّنه لمدة تسع سنوات مع المهمشين والفئات الضعيفة. قال عن تلك الإرهاصات “غمرتني موجة عارمة من الإيمان والانفتاح الروحي لم أفهمها إطلاقا. ووجدت نفسي متشبثا بسلوك ديني قويّ والتزام أخلاقي شديد. ولم يكن لذلك أيّ علاقة بما كان يحدث للشبان الآخرين في مثل سني”.

كتابه «المهنة، إمام» الصادر في العام 2009 عبارة عن حوارات أجراها معه كل من سيدريك بايلوك وميخائيل بريفو. والكتاب كشف عن السيرة الذاتية لأوبرو والمسارات الفكرية والأكاديمية التي قطعها الإمام منذ سنوات الثمانيات من القرن العشرين، داخل مجتمع لائكي له حساسية خاصة لكل ما يمت بصلة للإسلام.

عن تجربته يروي أوبرو أنه، وقبل أن يتولى الإمامة في جامع بوردو الكبير، أمَّ المسلمين بالصلاة في الأقبية تحت الأرض، وفي مرائب السيارات. وأنه سكن رفقة زوجته في مساكن رفقة الجرذان والحشرات الزاحفة، من دون مراحيض ولا حمام حينا من الزمن، دون أن يتقاضى سوى أجر بسيط بالكاد كان يدبّر به حاجيات أسرته.

كان واعيا بالأدوار التي كان يقوم بها في توجيه ومشاركة أبناء الجالية المسلمة. فاعترف أن العلوم الإنسانية كانت المورد المهم في معالجة مشاكل هؤلاء الذين لن تفدهم فتاوى معيارية وقوالب جامدة.

يعتبر أوبرو إماما مجتهدا جمع بين العقلية العلمية المكتشفة والمنقّبة عن الحقيقة، وبين المتدين الذي كوّن نفسه بنفسه ونجح في ذلك إلى أبعد حد، وقاتل لأجل صورة ناصعة للإسلام كدين منفتح على كافة الثقافات والحضارات. لم يكتف بالنهل من منبع الفكر الإسلامي، بل كان حريصا على مزاوجة تكوينه بنصوص فلاسفة الفكر الحداثي. قارئ نهم ومتحدث مرن وواقعي منفتح.

لقد نجح إمام المسجد الكبير ببوردو، على ما يبدو، في مسعاه التوجيهي. وما كان له ذلك لولا إتقانه لغة تواصل حقيقية زاوجت بين ما هو ديني وعلمي. لقد استخدم البعد الإبستيمولوجي في الفيزياء المتعلقة بتغيرات المادة والمنهجية. فاستطاع بواسطتها نشل مغني الراب عبدالمالك، من ضياعه وأسلم عنانه للإسلام الصوفي.

إتقانه لغة تواصل حقيقية زاوجت بين ما هو ديني وعلمي يساهم في نجاحه، فقد استخدم أوبرو البعد الإبستيمولوجي في الفيزياء المتعلقة بتغيرات المادة والمنهجية. فاستطاع بواسطتها نشل مغني الراب عبدالمالك من ضياعه وأسلم عنانه للإسلام الصوفي

وكان أوبرو في ذات الوقت ملتزما مع كل الشباب المهمشين، فخصص لهم مناوبة تشاورية كل جمعة بعد الصلاة.

لم يقف في وظيفته على استنساخ ما قاله الأوّلون. بل استطاع أن يؤصل بعدا تأويليا للتعاطي مع النصوص الدينية، ورفض أيضا أيّ محاكاة مذهبية، ولم ينهج طريق التفسيرية الحديثة. الشيء الذي جعله متحررا من أيّ قيود تحدّ من قدراته النقاشية مع أيّ نمط فكري.

كانت نظرية أبي حامد الغزالي “التوفيق بين الشريعة والتصوف”، مطلبا أساسيا في منظومة الإمام أوبرو الفكرية، كون الفتوى ومجالاتها في نظره يجب أن تنهل من التجربة الصوفية. فاعتبر أن القرآن لا يحمل مذهبا فقهيا تمّت صياغته بصورة قبلية، ولكنه يشمل براديغم (منظور كلي) لا يعلن عن ذاته وإنما يفهم حدسا. ولربما هذا هو معنى كلمة (فقه) في القرآن.

وارتباطا بهذا الفهم لم ينف أوبرو أن الظرفية الحالية تنمّي الحاجة لإسلام منفتح على قيم الجمهورية الفرنسية والديمقراطية، على أساس قاعدة فكرية سليمة، وتفعيلا لأطروحته حول “شريعة الأقلية” و”أصول الفقه”.

يقول أوبرو في حق خطابات الأئمة إننا «ننتمي إلى جيل من المسلمين يلبس اليوم نظارات مقلوبة»، لأنهم في نظره لا يعيرون أيّ أهمية لإعادة النظر في بنائهم الروحي والأخلاقي والأكاديمي، ما يجعلهم في غفلة من التغيرات الطارئة على مجتمعاتهم، لأنهم مرتبطون أكثر بماضٍ يمدحونه بنوع من التفاهة.

وعيه الكبير وتوسعه في التأمل في قضايا المسلمين عامة والجالية بديار المهجر، قاداه إلى أن القرآن يعرض علينا قيما كونية مثل العدالة والمساواة واحترام كرامة الإنسان، وفي موازاة هذه القيم العليا نجد أن النصوص المقدسة (الحديث والسنة) قد عملت في الوقت نفسه على ترجمة القيم في أحكام حسب ما تسمح به حدود الثقافة والذهنيات في زمن تنزّل القرآن.

وفي خضم ما تعرفه الجغرافيا العالمية من عولمة كارثية للإرهاب والتطرف، قال أوبرو إنه يجب أن يكون الحوار، في المناخ الحالي المتوتر، جزءاً من استراتيجية جغرافية سياسية، يمكن أن نسميها استراتيجية جيوثيولوجية، يمكنها أن تساعد عل بناء التفاهم بين الأمم وأن تساهم بالسلام داخل المجتمعات وبين الشعوب.

مضيفا، بشكل جريء، أنه في زماننا هذا وداخل سياقنا سيكون من الخطأ أن نأخذ الصيغ التشريعية التي كانت مرتبطة بأزمنة مختلفة، وعلينا أن نأخذ عوضا عن ذلك روح القيم الكونية ونصوغها في أحكام عملية جديدة تعبّر عن تلك القيم نفسها لكن في سياقنا الحالي.

أما نظريته في حوار الأديان فتهدف إلى منع التوترات التي يمكن أن تهدد المجتمعات الدينية. والمهم عنده ألا تحوّل الديانات عالميتها إلى السلطوية، التي تُفشِل القيم الروحانية التي تدافع عنها.

اعترف أوبرو أنه سيظل هناك أناس ضد الديانات موجودين على الدوام، ويعتقدون أن رجال الدين متخلفون. وبالفعل يوجد بين رجال الدين من هم كذلك، لا شك في هذا، غير أن الحال لا يعدو أن يكون موجودا في الميادين الأخرى، موضحا أن التعاليم الإسلامية في مكانها، لكنّ القوانين تتطور؛ مما يحتّم على الفقهاء في الغرب بذل مجهود أكبر من أجل إنتاج شريعة تتلاءم مع العلمانية في فرنسا.

يشجع أوبرو المسلمين الغربيين على التعامل مع تجربة الكاثوليك في علاقتهم مع العلمانية، قائلا إن “هناك أشياء كثيرة يمكن أن نتعلّمها منهم، منها كيف أعادوا النظر في عقيدتهم والتزامهم الاجتماعي، وانخراطهم في قضايا المجتمع ومناقشاته. وإن الدخول في حوار مع الكاثوليكيين صار من أحسن الوسائل للولوج إلى العلمانية، دون البدء من نقطة الصفر بالنسبة إلى المسلمين، ودون خلخلة التوازن العام للعلمانية”.

عمل أبرو واعظا في السجون الفرنسية، ما جعله يحتك عن قرب بقضايا الأقلية المسلمة ومشاكلها. والمشكل الذي عانى منه وجدانيا، هو المفارقة التي لخّصها في قوله “هذه ديانة أقلية المجتمع لكنها ديانة الأغلبية في السجون. أليس في هذا إشارة إلى المستوى الأخلاقي لطائفة مسلمة لا تستطيع حتى أن تكون في مستوى مبادئ المعاملات الأخلاقية العادية للإسلام؟”.

لم يستسغ استدعاء مرشدين دينيين من بيئة لا تمتّ لما تعيشه الجالية في بلاد المهجر. وكان يلحّ على أن تكون فئة الوعاظ والعلماء نتاج الجالية بنفسها حتى يتسنّى لهم فهم العقلية الغربية وكل ما يحيط بأبناء الجالية. ألحّ على أن يهتم القادمون بمشاكل بلدانهم الأمّ لأنهم لا يدركون الاختلافات العميقة في البيئة الجديدة. وذهب إلى حد اتهامهم فقال “هؤلاء يهدمون جهدنا في الاندماج السلمي في الغرب، ويفرضون علينا إسلامهم العربي التبسيطي تارة والمعقّد تارة ثانية والمتجهم الأبوي تارة ثالثة. وإن ما يؤسفني هو أن يستقبلوا بالتصفيقات الحارة بيننا. وهذه ليست جريرتهم، بل هي خطيئة الذين دعوهم واستضافوهم”.

ولم يتوان في الاعتراف بصعوبة مهمته الوعظية داخل المؤسسات السجنية، ذلك أن المعتقل هناك يعيش وضعا نفسيا متوترا نتيجة ما اقترف من جرائم وافتقاره إلى الأدوات التي تعينهم على المتناقضات والتمييز بين الخطأ والصواب. وفي هذه الأجواء تنشط المجموعات التي تشجع الخطاب المتطرف.

طارق أوبرو يعتبر مفكرا مجتهدا جمع بين العقلية العلمية المكتشفة والمنقبة عن الحقيقة، وبين المتدين الذي كون نفسه بنفسه ونجح في ذلك إلى أبعد حد.

اعتبر أوبرو ان ذات المحيط الخارجي الذي ساهم في وضع أولئك وراء أسوار السجن، في حاجة هو أيضا الى خطاب متنور وبسيط يتماشى مع العقليات ومستويات الفهم واختلاف الأمزجة. وهو يرى أن الرهان في حفظ الجاليات من وساوس التطرف يحتاج الى الاعتدال في طرح قضايا تهمّ هؤلاء، أكثر من معالجة قضايا خلافية من قبيل البدعة والسنة والتكفير والجهاد.

أوبرو استغل صفته كمرشد ديني، وهي الصفة المعترف بها من طرف السلطات، فقام بزيارات لسجن غرادينيان بمنطقة لاجيروند. حيث اقترب من السجناء المسلمين وساعدهم في تخطّي مشاكلهم ونوّرهم ورفع من معنوياتهم وأجاب على أسئلتهم المحرجة أحيانا. كانت غايته الأسمى هي تعافي السجين نفسيا وفكريا حتى يخرج وهو في كامل ليقاته لمواجهة المجتمع خارج السجن.

يرى أوبرو أن آراءه الواردة في كتاب “المهنة إمام”، وغيرها من مؤلفاته ومحاضراته قد خلّفت الكثير من السجال والأخذ والرد، فهدفه الأسمى هو خلق نموذج تديّن يتآلف مع مجتمع غربي مختلف في عالم يطبعه العنف والفوضى. فلم يسلم الإمام المغربي مؤخرا من تهديدات تنظيم داعش، ولم يخفْ من تلك التهديدات، ورفض حماية المصالح الأمنية الفرنسية، قائلا إنه لا ينبغي الاستسلام للخوف، وأنّ “علينا أن نتعلم العيش مع المخاطر لمواجهة هذا الخوف الذي يسعى الإرهابيون إلى زرعه فينا”.

قد شرع إمام مسجد بوردو الكبير، فعليا في إنشاء مركز حماية الأفراد من التطرف، وهو مركز “كابري” الذي يجمع عددا من علماء النفس والخبراء والفقهاء المتخصصين، من أجل محاربة التطرف عن طريق إزالة كل ما يدعو إليه. مشيرا إلى أن مشكلة الشباب المسلم أنه لا يتوفر على ثقافة إسلامية تؤهله لمقارعة أصحاب الديانات الأخرى على أساس متين، وهو بذلك ليس قادرا على خلق مشروع ديني جديد.