خمس مراحل للتدخل الأمريكي في ليبيا


ناشيونال انتراست –

تخطط الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيون للتدخل من جديد في ليبيا، هذا المرة تحت راية التصدي لخطر تنظيم الدولة. هذا الحماس لدخول ليبيا سيمر على خمس مراحل، أصبحت مألوفة منذ نهاية الحرب الباردة.

هذه المراحل تثبت عجز الولايات المتحدة الأمريكية على قبول العالم كما هو، وليس كما يريده صنّاع السياسة. فبدون تضخيم هذه المشاكل لن تستطيع الولايات المتحدة تجاوز سلسلة إخفاقاتها في الشرق الأوسط.

المرحلة الأولى: الغضب والحرمان

منذ نهاية الحرب الباردة، كانت كل التدخلات العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة قرارات اختيارية وليست أمرا واجبا. حتى أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لم تكن تستحق مثل ذلك التدخل في أفغانستان، ولكن الغضب هو من قادها للحرب.

بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر انتشر الشعور بالغضب، لما تولد من  شعور بالألم. أغلب تلك المشاعر كانت فلسفية، فكلما حدث عمل إرهابي خارج أمريكا تأذت مشاعر النخبة المتابعة للسياسة الخارجية لأمريكا ومشاعر الشعب الأمريكي.

حتى عاصفة الصحراء كانون الثاني/ يناير 1991 كانت حرب غضب، بشهادة الكثيرين، فقد كانت ملامح الغضب بادية على وجه الرئيس بوش وهو يشرح قراره دخول الحرب، فذكر ضرورة “إقامة نظام عالمي جديد” تنتصر فيه “قواعد القانون” على “قانون الغاب”.

وقد اقتطف بوش تصريحا للملازم الأول والجنرال “والتر بومر” فقال “هناك في هذا العالم ما يستحق القتال لأجله، فعالم يُسمح فيه بأن تقوده الوحشية والهمجية ليس بالذي نريد العيش فيه”.

وهو نفس الخطاب الذي قاله أوباما للشعب الأمريكي حول محفزات أول تدخل في ليبيا، معلنا انطلاق العملية فقال “نعلم… إذا انتظرنا يوما آخر فإن بنغازي، وهي مدينة بحجم تشارلوت، قد تعيش مجزرة سيتردد صداها في المنطقة وقد تصيب ضمير الوعي العالمي في المقتل”

المرحلة الثانية: توقف النقاشات والتوجه السريع نحو استخدام القوة

بعد الغضب تقوم الولايات المتحدة بتوجيه المناظرات نحو ضرورة التدخل العسكري، ولا مفر منه. فالبيت الأبيض يسيطر على النقاشات بفضل قدرة  المؤسسة الرئاسية على صناعة الأخبار، بالإضافة إلى خوف المعارضون من الوقوف في وجه الرأي العام.

في أغلب الحالات يقوم أنصار التدخل العسكري بشكل دائم بقمع النقاش العقلاني عبر اختلاق روايات مكذوبة عن التهديد الخارجي ما يزيد من حالة الغضب الشعبي.

ومازال الكثير من الأمريكيين يتذكرون دموع الطفلة الكويتية وهي تروي أمام الكونغرس كيف قام الجيش العراقي بوضع الأطفال الرضع خارج الحاضنات خلال غزو العراق للكويت، ولكن تبين في ما بعد أن القصة مختلقة. ورغم ذلك تم تكرارها بشكل لا يعد ولا يحصى ما زاد في صعوبة فتح نقاشات عقلانية وموضوعية حول التدخل العسكري.

في المقابل وبفضل الاعتماد على المشاعر الخدّاعة والنقاشات الغير متوازنة نجد بعض الصبر في النظام السياسي الأمريكي في عملية البحث المُطرد لاستكشاف مقاربات جديدة.

فالرفض الأمريكي لتلك الأنظمة المجرمة والشريرة تجعل الدبلوماسية العالمية صعبة جدا. فتأتي العقوبات الدولية، من جهة لتدل، على الاستنكار، ومن جهة أخرى، وسيلة فعالة وبطيئة لإحراز تقدم مُرضي لنظام سياسي يبحث عن سُبل لخلق الغضب.

وقد جذبت حرب 2003 في العراق الأنظار نحو القمع الذي عرفاه المناقشات العقلانية، ورغم الشكوك الكبيرة حول أسلحة الدمار الشامل والعلاقة المحتملة بين صدّام حسين والقاعدة وأحداث 11 أيلول/ سبتمبر، إلا أن مناقشات غزو العراق كانت قليلة. حتى أن هيئة تحرير صحيفة نيويورك تايمز اعتذرت في ما بعد لعدم فسح المجال بشكل حيادي وجدي لمعارضي التدخل الأمريكي في العراق بالحديث في الموضوع.

ولكن يبقى أفضل مثال لتأثير الغضب على المناقشات هي مناقشات غزو أفغانستان، فقد أطلقت إدارة بوش عملية “دعم الحرية” يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2001 بعد أقل من شهر من أحداث 9 أيلول/ سبتمبر.

فأرسلت بشكل سريع قواتها لإسقاط الحكومة الأفغانية، حتى أن الآراء المخالفة لا تكاد تجدها في الولايات المتحدة الأمريكية. فالرغبة الشديدة في القضاء على تنظيم القاعدة يمكن تفهمه من وجهة نظر عاطفية. ولكن كشف الدهر بأن هذا التدخل كان مُكلفا وأتى بنتائج عكسية على السياسة الأمريكية في المدى البعيد.

أما بالنسبة للحالة الليبية، فبالكاد مرّت ثلاث أسابيع عن تصريح وزيرة الخارجية هلاري كلينتون بأن الولايات المتحدة قد تتدخل عسكريا، وإعلام أوباما للشعب الأمريكي بأن الولايات المتحدة التحقت بمبادرة  فرض منطقة حظر جوي في ليبيا.

لم يكن الوقت كافيا لفتح مناظرات حول الحكمة من التدخل الأمريكي أو حتى عن آليته، رغم ذلك انتقد الكثيرون قرار أوباما. وفي ما بعد بدأ الناتو علمياته، حتى قبل النقاش في الموضوع، بفرض منطقة حظر جوي لمساندة الثوار على الإطاحة بالقذافي. تغير النظام بالطبع ولكن قاد هذا إلى نشوب حرب أهلية سمحت ببروز تنظيم الدولة في المشهد الليبي.

المرحلة الثالثة: إعلان النصر قبل أوانه

بنفس الأسلوب الذي تحدثت فيه عن محفزات التدخل العسكري تعلن الولايات المتحدة الأمريكية نصرها مستندةً على العواطف لا على الحسابات الإستراتيجية. ومن ينسى خطاب بوش الدرامي على ظهر حاملة الطائرات “يو إس إس أبراهام لنكولن” وهو يقول “لقد تمت المهمة بنجاح” فقط بعد ستة أسابيع من بداية الغزو.

فقد كان صدام حسين، الهدف الذي جيّش شعور الغضب في حرب الخليج الأولى، فقد خلع من منصبه وأسقط تمثاله في بغداد. ولكن من المؤكد أن تصريح بوش سابق لأوانه، فالحرب الحقيقية في العراق انطلقت وقتها.

وعندما وصل أوباما للبيت الأبيض ضاعف إعلان النصر، فقال للشعب الأمريكي “سيغادر آخر جندي أمريكي العراق وهو فخور بنجاحه… هكذا سينتهي التدخل الأمريكي في العراق”.

اتبعت إدارة أوباما نفس الأسلوب مع ليبيا، في آب/ أغسطس 2011 وبعد إسقاط الثوار لنظام القذافي، نعتت مسئولون أمريكيين التدخل بالمثالي، وتفاخر أوباما بهذا فقال “بدون أن نضطر لإرسال جندي واحد على الأرض نجحنا في تحقيق هدفنا”.

ووصفته كلينتون بالعملية النموذجية “للقوة الذكية” في التدخل العسكري. في تشرين الأول/ أكتوبر عندما قبض الثوار على القذافي قالت كلينتون حرفيا لقد “جئنا رصدناه ومات” وهذا ما وقع في العراق، ولكن كانت هناك بعض الدلالات على أن النصر السريع في ليبيا يخفي أمورا أخرى.

المرحلة الرابعة: الاضطراب ونقص الانتباه والفقدان الذاكرة

بعد إعلان النصر، تمحى لوائح السياسة الأمريكية، ويسمح للرئيس بتجاهل مشكل التدخل العسكري وبالمرور لمشاكل ملحة أخرى، بدون تصريحات رئاسية أو حديث عن إجراءات عسكرية، تنسى القنوات التلفزية الموضوع وتضع الصحف تلك الأخبار في الصفحات الأخيرة.

فأخبار ما يحدث بعد الإطاحة بطاغية بالكاد يتم تداولها، وربما أخبار قتله أكثر أهمية، فيظهر الرئيس في الإعلام ليتحدث عن بطولاته. ولكن بعد مرور أسبوع واحد تتلاشى الروابط بين التدخل الأمريكي ونتائجه، وبعد مرور بضعة أشهر يصبح بالكاد أن يتذكر عامة الشعب الأمريكي أن تدخلا عسكريا أمريكيا وقع في مكان ما من العالم.

ولكن ما لا يمكن فهمه كيف للقيادات السياسية نسيان التدخل العسكري بسرعة، عندما أعلن بوش نصره في العراق كانت القوات الأمريكية غارقة في أفغانستان، وعندما أعلنت إدارة أوباما نصرها في ليبيا مازالت القوات الأمريكية في أفغانستان، وحتى العراق كانت ومازالت تغلي رغم انسحاب القوات الأمريكية.

يبدو أن هناك تفسير واحد منطقي لهذا الوضع وهو أن الأمريكان يغضبون أولا، يفكرون في أقل وقت ممكن ثم يتخذون قرارات سريعة، من بعد يولد الاضطراب ونقص الانتباه، وهما دافعين للتحرك السريع من حالة طارئة إلى أخرى. في مثل هذه الظروف سيكون من المفاجئ أن نجد في أمريكا غُرفا للتفكير التاريخي وتعلم الدروس.

المرحلة الخامسة: كرر…. بلا نهاية

مهما كان السبب فالمزج بين الغضب وفقدان الذاكرة يمهد الطريق لتكرار نفس الخطأ مرارا وتكرارا. إدارة أوباما تتحدث عن تدخل عسكري في ليبيا اليوم كأنها لم تتعلم الدرس من التدخل السابق.

عندما يناقش البنتاغون خطط للقيام بضربات جوية، كأنه لم يتعلم شيء من الدرس الليبي الحديث أو من الأربعة عشر سنة من الحرب الفاشلة ضد الإرهاب. لماذا تستخدم الإدارات الأمريكية نفس المخطط، للقضاء على فوضى اليوم، وهو نفس المخطط الذي صنع الفوضى سنة 2011؟

فالغضب ردة فعل بشرية مأتاها الشعور بالألم. وبالنسبة للكثيرين، فرغبة أمريكا بمواجهة شرور العالم هو عمل نبيل يقوم به شعب استثنائي. ولكن مواصلة رفض قبول العالم كما هو أمر لا مفر منه في العلاقات الدولية، لكنه يمنع التقييم الحقيقي للتكاليف والمكاسب اللازمة في السياسات الخارجية.

يمكن تفهم التدخل الأمريكي لإزالة الحكومات القمعية المارقة، ولكنها أيضا سببت الكثير من المشاكل أكثر بكثير من الحلول التي جلبتها وبتكاليف مرتفعة. فإذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية الخروج من الدوامة، فيجب عليها النهوض وقبول أنها لن تغيّر العالم من خلال التدخلات العسكرية.