من التهميش إلى التطرف.. شمال شرق سورية نموذجاً
21 أبريل، 2016
عانت منطقة شمال شرق سورية من تهميش متعمد، طوال حقبتي النظام الأسدي، وقبيل الثورة السورية، أطلق الإقليم أوضح إنذار حول اقتراب لحظة الانفجار الكبير، إذ نزح نحو مليون شخص عن ديارهم وقراهم، ليقطنوا في مخيمات بائسة على تخوم المدن الداخلية، بسبب الافتقار إلى أساسيات العيش، الناجم بالرجة الأولى عن انعدام التنمية، والمترافق مع زيادة سكانية ملحوظة.
وبموجب دراسات اقتصادية عديدة، فقد عانى سكان المنطقة من الوضع الأسوأ في البلاد، حيث لم يستفد هؤلاء من ثرواتها الزراعية التي نهبت عبر آلية “رأسمالية الدولة”، ولم ينلها من ثرواتها النفطية أي نصيب، وبدا أنهم معتمون في حياتهم وعيشهم على الطبيعة بكل ما للكلمة من معنى، بحيث أنهم اضطروا للنزوح ما إن اكتسحت المنطقة موجة الجفاف في العقد الأول من الألفية الثالثة.
تضم المنطقة الشمالية الشرقية في سورية من الناحية الإدارية محافظات دير الزور والرقة والحسكة، لكنها تعتبر من النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية جزءاً مما يعرف تاريخياً بالجزيرة الفراتية أو إقليم آقور، الذي يشمل إضافة للجزء السوري أجزاءً من العراق وتركيا والملفت للنظر أن حدود سيطرة تنظيم الدولة في سورية والعراق اليوم تكاد تتطابق مع حدود هذا المجال الجغرافي والديمغرافي والثقافي المتعين بإقليم آقور التاريخي، فيما فشل في الثبات في المناطق الأخرى، مثل إدلب وحلب اللتين تم طرده منهما في مطلع سنة 2014.
إن معالجة مشكلة توطن التطرف في هذه المنطقة يجب أن تتم عبر دراسة معمقة ومتخصصة لبنيتها الاجتماعية، وتحديد العناصر والجوانب المؤثرة فيها، خاصة الثقافة الاجتماعية السائدة، وهي النزعة العشائرية المنافسة والمناهضة للأيديولوجيات المتشددة كما لابد من الاستفادة من تجارب المناطق المشابهة والدروس التي يمكن استقاؤها منها، خاصة تجربة العراق المجاور حيث النسيج الاجتماعي المطابق والظروف المماثلة وعلى رأس تلك الدروس أن القضاء على الجماعات المتطرفة أو تقنين وجودها ومحاصرته؛ لن يكتب له النجاح دون تحالف حقيقي ومستمر مع المجتمعات المحلية كما تمر المعالجة باستعادة قدرة السوريين عموماً، وأبناء المنطقة خصوصاً، على ممارسة حقوقهم السياسية.
كما يجب أن تولى عملية التنمية أقصى الأهمية، فانعدام فرص العيش الكريم، مع انتشار الأمية والجهل، وغياب العدالة الاجتماعية، هو المزيج الذي سيبقى قابلاً للانفجار مع أول شرارة، وسرعان ما ستنبثق الموجة الأكثر تشدداً وتطوراً من العنف الأيديولوجي الديني، من خلال الحرب غير الفعالة على تنظيم الدولة، كما تطورت الأخيرة من تنظيم القاعدة في العراق، الذي ظن الكثيرون أنه تم القضاء عليه بالضربات العسكرية الشاملة، قبل أن يظهر مجدداً أشد قوة وتماسكاً، من تضاعيف البنى الاجتماعية المنكوبة، وأنقاض المدن والبلدات المدمرة.
ومع تصاعد المواجهات العسكرية في المنطقة، وسيطرة الثوار على معظم حقول النفط في دير الزور على وجه التحديد، لجأ المقاتلون إلى تمويل عملياتهم العسكرية من خلال استخراج النفط وتكريره وبيعه، وهي نقطة تحول أدت إلى نتائج وخيمة وعكس المتوخاة إذ تحول بعض قادة الفصائل إلى أمراء حرب لا يكترثون لأهداف الثورة بقدر ما يهتمون بجمع الثروات الطائلة التي تفجرت بين أيديهم فجأة، ولا يقيمون وزناً كبيراً لحاضنتهم الشعبية التي كانوا يعتمدون عليها في بداية الثورة، بعد أن أصبحوا بسيطرتهم على الموارد النفطية المعيلين لتلك المجتمعات، وأصحاب السلطات فيها وبدأت التجاوزات التي تدفعها النزعة الانتهازية، وأخذ التنافس على آبار النفط منحى صراع وانقسام اجتماعي سياسي حاد، إذ تنافست عليه القبائل الكبيرة، التي استعان بعضها بتنظيم جبهة النصرة لحماية مكتسباته، فقامت قبائل أخرى بالانضواء تحت جناح تنظيم الدولة لاستعادة ما تعتقد أنه من حقها ليؤول الأمر في النهاية إلى انتزاع كافة تلك الآبار من أيدي الأطراف كافة، وهيمنة التنظيم عليها بالمطلق، وليحتكر إنتاجه وتوزيعه وبيعه، مغذياً بذلك آلة حربه الضخمة، التي استثمرت قبل كل شيء في تحطيم جميع الفصائل العسكرية المحلية، وإخضاع المجتمعات القبلية وإلحاقها بها عبر ربطها بها اقتصادياً.
لقد فشلت نخب المنطقة المتواضعة الإمكانيات في إنشاء إدارة مدنية فاعلة، وعجزت كيانات المعارضة عن رفدهم بالمشورة السياسية والعون الإداري لإبقاء الأحداث في السياق العام للثورة كما لم يتم التفكير جدياً باستغلال الموارد والثروات الضخمة في المنطقة لدعم العمل الثوري الوطني ودعم استقلاله وتفشت النزعة الانتهازية بين الثوار، مما مهد الطريق لتغلغل التنظيمات المتطرفة، التي استغلت النزاعات البينية لترسخ كيانها، ولتستقطب المتضررين الناقمين من كافة الأطراف وتجندهم. ثم جاء الهجوم الدولي الجوي، الذي لا يميز بطبيعة الحال بين الفرقاء المحليين ليقضي على ما تبقى من بنية تحتية وإمكانيات، وليصبح السكان كافة، وخاصة الشبان منهم، بين خيارين لا ثالث لهما، إما الانضواء تحت جناح تنظيم الدولة لتأمين ضروريات حياتهم، بما يعنيه ذلك من خطر وشيك باعتبارهم أعضاء في تنظيم إرهابي مستهدف ومحارب عالمياً، أو سلوك سبيل الهجرة، بما يعنيه ذلك أيضاً من ضياع على صعيد المصائر الفردية وعلى صعيد المنطقة التي غادرها ما تبقى من الفئة الشابة، وأصحاب المهارات على ندوتهم.
فرص ضائعة
فوتت قوى المعارضة السورية فرصة اتخاذ منطقة الشمال الشرقي قاعدة، لعملها للتخلص من النظام، لتصبح بدل ذلك ملاذاً لأخطر أعداء الثورة، كما تفوت اليوم الجهات الدولية المحاربة للإرهاب فرصاً مهمة تنطوي عليها تلك المنطقة، بسبب نهجها القاصر المعتمد على السير بقدم واحد، هي العمل العسكري غير المدعوم بأية معطيات أو بدائل سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، مما يعزز على نحو مباشر مكاسب التنظيمات المتطرفة في المجتمع، ويرشح حضورها الفكري والعقائدي
وتتمثل فرصة محاربي الإرهاب على العموم في السكان المحليين الذين يجهد المتشددون لاستقطابهم بكافة السبل، كالإغراء والتخويف والتعليم والدعاية، لكنهم لم يحظوا بقبول كاف، بسبب الرفض الأصلي في البيئة الاجتماعية العشائرية للتشدد الديني، فهذه البيئة بطبيعتها غير متدينة، وتعترف بالآخر، وتعطي أولوية قصوى لروابط القربى والدم التي تقف سداً في وجه أية أيديولوجية مجردة تريد إلغاء شبكة العلاقات والمصالح القبلية سواء أكانت دينية أو دنيوية.
إن السياسات المدمرة للقوى الكبرى في تعاملها مع قضايا الشرق الأوسط عموماً، ومناطق سيطرة تنظيم الدولة خصوصاً، المتمثلة في الحرب على الإرهاب بصيغتها الأحادية الحالية، توفر ما يمكن وصفه بالتغذية الراجعة لهذا التنظيم وأشباهه عن طريق هذه الحرب بالذات وستستمر في تعزيز قوته مادامت لا تبنى علي رؤية سياسية واجتماعية موضوعية وواقعية، تتوازى أو تسبق المعالجتين العسكرية والأمنية، التي قد تقتل عدداً كبيراً من حملة الأيديولوجيا الجهادية، لكن الفكرة بحد ذاتها تنتصر، وتحصد المزيد من التأييد، خاصة عندما يكون القتل مجانياً وغير مبرر.
ولعل من المفيد أن نسوق هنا المثال المعبر الآتي، أدت الغارات الجوية العشوائية للطائرات الروسية في المنطقة الشرقية، في شهري يناير وفبراير المنصرمين إلى استشهاد 390 مدنياً، وثقتهم الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالأسماء، منهم 247 في دير الزور، و97 في الرقة، و46 في الحسكة، وبينهم 64 طفلاً، و51 امرأة. وفي تلك الفترة ذاتها شهدت بلدات المنطقة وقراها مقتل العشرات من أبنائها في معارك تنظيم الدولة، ويعتقد أن نسبة كبيرة منهم قتلوا كانتحاريين، وهي ظاهرة كانت نادرة الحدوث، وتكاد تكون حكراً على متشددين أجانب يهاجرون إلى مناطق سيطرة التنظيم بهدف القيام بهذه العمليات.
لقد أتاح تهميش تلك المنطقة في حقبة النظام الأسدي للتنظيمات المتطرفة سهولة في التغلغل والسيطرة على السكان الأميين والفقراء، وجعلهم نوعاً من الجيش الرديف لغايات مصلحية لكن طريقة تعاطي المجتمع الدولي مع قضية الإرهاب، تدفعهم تدريجياً لاعتناق أيديولوجيا التنظيم بقناعة وإيمان عميقين، وهو غاية ما يطمح إليه قادة الجماعات المتطرفة ومنظروها، الذين لن يتورعوا عن تعريض السكان لمزيد من الأخطار الخارجية، مع الضغط والتضييق الداخلي، حتى تفرز المنطقة أكبر قدر من الناقمين الحاقدين على كل شيء، الذين لا يجدون أية فرصة للخلاص من وضعهم المأساوي، سوى ما تقدمه لهم عقيدة الجهاد والموت استشهاداً.
منطقة شمال شرق سورية هي بيئة معقدة إثنياً ودينياً، يسكنها عرب وأكراد وأرمن وإيزيديون وآشوريون وسريان، ومتصلة جغرافياً وسكانياً مع غرب العراق وشماله، المتفجرين أيضاً، ومع جنوب تركيا المضطرب بدوره. وتبدو المشكلة عامة في هذا الإقليم الواحد تاريخياً بسبب تعدد طبقاته الحضارية وتنوعه الثقافي وتحتاج مشاكله المعقدة إلى جهود أبنائه المتنورين بالدرجة الأولى، وإلى دعم دول الإقليم ذات الصلة وتكاتفها مع القوى العالمية الفاعلة والمتأثرة بمشكلات المنطقة مثل الدول التي تعد مقاصد الهجرة والنزوح. دون تعاون هذه الأطراف كافة؛ لن تتوقف المنطقة عن كونها بؤرة صراعات متعددة وغير منتهية ومع سريان مفاعيل العولمة هناك، فإن نزاعاتها لن تبقى محدودة في الزمان والمكان، ولن تكون السيطرة على العنف في مراحل لاحقة ممكنة ومتاحة كما هي اليوم وعاجلاً أو آجلاً، سيكون على العالم أن يواجه تطوراً جديداً للعنف الأيديولوجي، سيتجاوز تنظيم الدولة، أو يوصف بـ”ما بعد داعش”، كما تطور الأخير من تنظيم القاعدة في العراق، الذي ظن الكثيرون أنه تم القضاء عليه بالضربات العسكرية الشاملة، قبل أن ينبثق أشد قوة وتماسكاً، من تضاعيف البنى الاجتماعية المحطمة، وأنقاض المدن والبلدات المخربة.