‘تفكيك الأسطورة: بوتين ليس الرجل القوي الذي نعتقده’
22 أبريل، 2016
تناولت صحيفة فوكس الأميركية في تقرير نشرته مؤخرًا أسطورة قوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واصفة إياها بالوهمية، حيث استهلت الصحيفة تقريرها بالإشارة إلى لقاء الخط المباشر المارثوني الذي أجراه بوتين في الأسبوع الماضي، والذي استمر لثلاث ساعات، مشيرة إلى أن ظهور الرئيس الروسي للعامة في هذا اللقاء، وعلى الرغم من كونه مُتوقعًا ومُحضرًا له مسبقًا، إلا أنه يخدم هدفًا محددًا، وهو تعزيز الأسطورة المهيمنة، سواء في روسيا أو في الغرب، حول كون بوتين هو السيد المنفرد والمتفرد ضمن مملكته الروسية.
تشير الصحيفة إلى أن هذه الصورة المتداولة غير صحيحة، والاقتناع بها يمنح بوتين سلطة لا يستحقها، ويصعّب من مهمة التكهن أو حتى التأثير بخطوته المقبلة.
يمتلك بوتين في الواقع “القرار”، فهو صاحب الكلمة الأخيرة في جميع القضايا السياسية الرئيسية، ويمكنه ترفيع أو تكسير أي وزير، مباشرة أي حرب أو إنهائها، ولكن رغم ذلك، وإذا كنا نعتقد بأنه قادر على السيطرة على كل شيء تقوم روسيا به في الداخل والخارج، فنحن نسيء تقدير الكيفية التي تعمل بها البلاد بشكل كبير.
أولًا وقبل كل شيء، لا يستطيع بوتين ممارسة حكمه إلا في حال استطاع تهدئة، موازنة، وإرهاب النخبة القوية في روسيا، ولكنه غير قادر على الحكم أيضًا إلا من خلال هذه النخبة، وهذا الأمر كان واضحًا للجميع خلال لقاء الخط المباشر الأخير، فعندما سُئل حول المسؤولين الذين يبتزون رجال الأعمال، أدان هذه التصرفات، ولكنه اعترف قائلًا: “هذه عقليتنا، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالبيروقراطيين”.
هذا الواقع يمتد ليشمل حكم بوتين على أجزاء من روسيا نفسها، فردًا على سؤال حول التهديدات العنيفة التي صرّح بها الزعيم الشيشاني رمضان قديروف ضد شخصيات المعارضة الروسية، استخف بوتين بالفكرة قائلًا: “الناس في القوقاز متهورون، لذلك ليس من السهل على هؤلاء الناس أن يتعلموا أن يعملوا كمسؤولين حكوميين رفيعي المستوى”.
اعترف بوتين خلال المقابلة مرارًا وتكرارًا بعجزه السياسي؛ فهو بالتأكيد قادر على التدخل في حالات محددة، كموضوع إصلاح حالة الطرق في أومسك، الذي نوقش خلال المقابلة، حيث تعهد المسؤولون المحليون بإصلاح 21 طريقًا بحلول 1 مايو، ولكن بوتين لا يمكنه إصلاح البلاد بنفسه، شارعًا خلف آخر، وحقيقة أنه يلجأ إلى هذا النوع من التدخلات، التي يعالج فيها كل حالة على حدة، تبين مدى محدودية سلطته.
بعد كل شيء، بوتين ليس قويًا لأنه الرئيس، بل إنه رئيس لأنه قوي
في الماضي، استطاع بوتين تعزيز شرعيته متخذًا لقب “القيصر الجيد” من خلال معالجته مثل هذه الحالات الفردية، ولكن بعد مضي 16 عامًا، ومع ازدياد صعوبات الحياة أمام الشعب الروسي، أصبحت هذه المقاربات ضعيفة على نحو متزايد، وأضحت تؤكد على مدى فقدان بوتين لزمام القيادة، أو عدم اهتمامه بما يحصل داخليًا إلا إذا أُحرج بذكره على شاشة التلفزيون الوطني.
هذه الدينامية تنطبق أيضًا على السياسة الخارجية، والتي تعتبر تقليديًا حكرًا على رئيس الدولة؛ ففي منطقة دونباس بأوكرانيا، على سبيل المثال، تسببت الميليشيات المتمردة المحلية بخروقات وقف إطلاق النار بدون أي أوامر من موسكو، مما يؤكد محدودية سيطرة بوتين.
للحق نقول، بوتين هو زعيم قوي للغاية، فهو رئيس في نظام رئاسي مركّز، يتمتع بمجموعة واسعة من السلطات، ضمن دولة هيأتها التشريعية مطيعة ومنزوعة الأنياب، معارضتها شبه منعدمة، وتناطح فيها شعبيته عنان السماء، كما أنه استطاع إفراغ جميع المؤسسات الروسية من مضامينها، وحقيقة أنه سلّم الرئاسة في عام 2008 لرئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف، ولكنه بقي بالسلطة خلف الكواليس ليستعيد منصبه في عام 2012، تدلل على مستوى قوته الشخصية، فبعد كل شيء، بوتين ليس قويًا لأنه الرئيس، بل إنه رئيس لأنه قوي.
ولكن كما أثبت في لقائه المباشر، لا يمتلك بوتين جميع الأجوبة، فكلما كان يؤكد على دوره الخاص كزعيم مهيمن، كلما أصبحت مبادراته، التي يتبجح بالقيام بها، أصغر نطاقًا وأكثر انتهازية، وهذا يقودنا إلى أمر مهم آخر، وهو أن عملية صنع القرار في الكرملين يمكن أن تكون قصيرة النظر وتعسفية على عكس ما تشير إليه أسطورة بوتين؛ فروسيا ليست دائمًا دولة ديكتاتورية مركزية صارمة، بل في بعض الأحيان تكون عملية صنع القرار سوقًا لأفكار القلة الحاكمة، المسؤولين، المعلقين، وجماعات المصالح، الذين يتنافسون باستمرار لتمرير أفكارهم لبوتين من خلال الصحافة، مراكز البحوث، التقارير، والصلات الشخصية.
من الناحية النظرية يمكن أن يُعد هذا النوع من أنواع صنع القرار شكلًا من أشكال التعددية، ولكن في واقع الأمر هذا النظام يعطي السياسات التي تُلفت نظر ومخيلة بوتين فرصة للنجاح أكثر من غيرها، بغض النظر عن المزايا الحقيقية التي تقدمها، وبالنظر إلى أن المناقشات الحقيقية حول السياسة تجري خلف الأبواب الموصدة وداخل دائرة صغيرة جدًا من أقرب المقربين لبوتين، فهذا يعني أيضًا بأن هذه السياسات نادرًا ما تحصل على دراسة متأنية ومهنية.
على سبيل المثال، أعلن بوتين هذا الشهر بشكل مفاجئ عن تشكيل قوة أمنية جديدة، الحرس الوطني، من وحدات الأمن التي تعمل تحت إمرة وزارة الداخلية، ويبدو أنه فعل ذلك دون استشارة الوزير أو خبرائه، الذين يجلسون الآن متسائلين عن الآثار العملية الواضحة التي ستخلفها هذه الحركة التي لم تخضغ للدراسة.
إذن، كلما صدّقنا مفهوم إستراتيجية بوتين الجريئة، واقتنعنا بأنه يتصرف ككبار محترفي لعبة الشطرنج في الوقت الذي يتعثر فيه أوباما بلعبة الداما، كلما منحنا بوتين قوة أكبر وجرّدنا أنفسنا من القوة.
علينا أن نكون صادقين وواقعيين، فبوتين كثيرًا ما استفاد من وضعه الصعب وسخرّه بشكل جيد للغاية، ولكن هذا لا يعني بأنه نجح على الدوام في مغامراته؛ فتدخله في أوكرانيا استحال إلى حالة فوضوية ومأزق مكلف، كما أنه كان محظوظًا لخروجه محتفظًا بماء وجهه في مغامرته السورية، ولكن وبشكل خاص في الشؤون الخارجية، الصورة العامة والسمعة تلعبان دورًا كبيرًا، ونحن سلّمنا بوتين ميزة هائلة بتقبّلنا للأسطورة التي حاكها حول نفسه.
لا يمكننا إنكار أننا نعوز الوسيلة لاختراق الدائرة الصغيرة حول بوتين المسؤولة عن اتخاذ قرارات الدولة، ولكن مع ذلك، ومن خلال فهمنا للوسائل العشوائية التي تطرح فيها النخب أفكار السياسات على بوتين، ومراقبة القنوات العامة التي تُطرح فيها الأفكار، يمكننا ربما أن نستخلص فكرة مسبقة عما يجري مناقشته خلف الأبواب المغلقة؛ فعلى سبيل المثال، الخطة التي وُضعت من قِبل أشخاص يعملون مع رجل الأعمال المرتبط بالكرملين، كونستانتين مالوفيف، في أوائل عام 2014، كانت في جوهرها مخططًا لما أضحى فيما بعد الحرب في أوكرانيا، كما تبين بأن توبيخ موسكو لبشار الأسد في فبراير لتصريحه بأنه سيستمر بالقتال حتى تحقيق النصر العسكري الشامل في سوريا،كان بشيرًا لقيام روسيا بسحب قواتها بشكل جزئي من سوريا في الشهر المقبل.
كلما صدّقنا مفهوم إستراتيجية بوتين الجريئة، واقتنعنا بأنه يتصرف ككبار محترفي لعبة الشطرنج في الوقت الذي يتعثر فيه أوباما بلعبة الداما، كلما منحنا بوتين قوة أكبر وجرّدنا أنفسنا من القوة
محاولة فهم جميع القرائن والدلائل الصغيرة، مع جميع المحاولات العلنية والسرية للضغط على الكرملين، هو، بلا شك، عمل شاق للغاية، فلا عجب أننا نميل بدلًا من ذلك إلى تصديق بوتين للدرجة التي يقدم بها نفسه كسيد منفرد بالسياسة الروسية، ولكن هذا يتركنا عرضة للتموضع الخاطئ في كل مرة.
سابقًا وفي العهد السوفييتي، امتلك الغرب جيوشًا من العلماء والمحللين المختصين بما يسمى بـ”الكرملينولوجي”، وهي فنون غامضة من محاولات التنبؤ بالتحولات في السياسة السوفييتية من خلال القرائن القادمة من الترتيب الذي كان يجلس فيه المسؤولون في المسيرات، أو من خلال قراءة ما بين السطور في افتتاحيات برافدا، صحيفة الحزب الشيوعي، ولكن اليوم، تقلّصت صفوف الممارسين المهرة لهذه الفنون، ولم يعد يوجد بديل ليحل محلهم، وبدلًا من ذلك، نجلس لنشاهد ونتعجب من أحدث طلة لبوتين مفتول العضلات، مفوتين علينا فرصة فهم السياسة التي تقبع خلف هذا المشهد.