‘العصرونية تاريخ عريق وحاضر يذكّر بجرائم الماضي’
25 نيسان (أبريل - أفريل)، 2016
رغداء زيدان ـ خاص السورية نت
عندما قال العلامة أبو سعد شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون (ت 585هـ/1189م):
يا سائلي كيف حالي بعد فرقته….. حاشاك مما بقلبي من تنائيكا
قد أقسم الدمع لا يجفو الجفون أسى ….. والنوم لا زارها حتى ألاقيكا
ما كان يدري أن هذه الأبيات ستكون مناسبة لرثاء سوق في أعرق الأماكن في دمشق القديمة، وهو سوق “العصرونية” الذي سمي بذلك الاسم نسبة إلى المدرسة التي أنشأها الملك العادل نور الدين الزنكي، وقد فوض أمر التدريس بها والنظر في أوقافها لقاضي القضاة الإمام شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون، فعُرفت به ونسبت إليه.
واليوم وفي عصر نظام الاستبداد، الذي رفع شعار “الأسد أو نحرق البلد” حصد حريق ضخم المكان بجماله وماله وجلاله السبت الماضي آخذاً معه ليس فقط البضائع والأموال، بل أيضاً ماضٍ عريق وذكريات وشواهد تغص بها قلوب الدمشقيين خاصة والسوريين عموماً.
يصف المؤرخ د. جوزيف أبو زيتون المكان قبل حرقه قائلاً: “سحر المكان العتيق وموقعه وسط أماكن أثرية وتاريخية يدفعك للمرور عبر أزقته، إذ يحده من الجنوب سوق الحميدية ومن الشمال امتداد شارع الكلاسة والمناخلية ومن الغرب قلعة دمشق ومن الشرق الجامع الأموي وباب البريد حتى تقاطع المكتبة الظاهرية، وكثيراً ما يتسوق المار من هناك وأحياناً يتفرج على السلع والمكان التاريخي حيث توجد أيضاً المدرسة العادلية التي أنشأتها زهرة خاتون بنت السلطان الملك العادل الأيوبي، وهذا المكان أشبه بسوبر ماركت كبير وسط دمشق القديمة”.
وبحسب المؤرخ قتيبة الشهابي فقد كانت هناك سوق مجاورة للعصرونية اسمها سوق القلعة (نسبة لقلعة دمشق) وكانت مغطاة بسقف من الخشب، بيد أن هذه السوق تَهدّمت مع الكثير من البيوت المجاورة والمشيدات الأثرية إبان الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين عام 1925 نتيجة لقصف مدفعي فرنسي دمر المكان.
بعد ذلك أعيد تنظيم السوقين معاً في سوق واحدة مكشوفة حافظت على اسم العصرونية.
وفي سنة 1945 تَعرّضت السوق من جديد للقذائف الفرنسية أثناء قصف قلعة دمشق، وتخرب الكثير من محلاتها.
وفي عام 1984 هُدم جزء من الجانب الغربي للسوق بقصد كشف جدار “قلعة دمشق” الشرقي بأكمله.
توسعت السوق كثيراً، ووصل عدد محالها إلى نحو 400 محل، تبيع الأدوات المنزلية والقرطاسية ولعب الأطفال، وغيرها، بأسعار شعبية رمزية.
معالم أثرية
في العصرونية كثير من المباني الأثرية، أشهرها “المدرسة العصرونية” التي بنيت سنة 575 هجرية، التي كان يدرس فيها العالم ابن أبي عصرون، وقد تحولت المدرسة إلى محلات ومكتبات في أحدها قبر ابن عصرون نفسه في مكان صغير مربع لا يتجاوز طوله المترين دون سقف وضعت فوقه مخلفات الدكان حتى طمرت شاهدة القبر.
ومن الأماكن الأثرية في “العصرونية”، “دار الحديث النورية” التي بناها السلطان نور الدين الشهيد وهي أول دار للحديث الشريف بنيت في منتصف الطريق الواصل بين باب البريد والقلعة سنة 566هـ، وتعاني من الإهمال والخراب.
وهناك أيضاً “دار الحديث الأشرفية الجوانية” التي كانت داراً للأمير صلاح الدين قايماز، وبناها الملك الأشرف موسى سنة 630 هجرية.
أقام فيها بدر الدين الحسيني (محدث الشام الأكبر) وتحول قسمها الأرضي إلى مصلى لتجار العصرونية وذلك في عام 1409 هـ.
أما “المدرسة العادلية الصغرى” فأوقفتها بابا خاتون بنت أسد الدين شيركوه على ابنة عمها زهرة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر، وبنيت سنة 618 هجرية.
كانت حتى سنوات قريبة مصلى، ولكن أُغلقت وجعلت مأوى لطلاب العلم وبعد عام 1409هجرية أغلقت تماماً.
وفي السوق كذلك الجدار الشرقي لقلعة دمشق التي شيدت في العهد السلجوقي وقام الملك العادل أبو بكر بهدمها سنة 559 ه، وبناء قلعة أكثر حداثة منها. وفي الباب الرئيس لها كتابة أيوبية تعود إلى أيام الملك العادل.
كما يوجد مبنى “البناء الإمبراطوري العثماني” الذي شيد سنة 1895م في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وتبدو اللوحة الحجرية التي تعلو الواجهة وتحمل توقيع السلطان عبد الحميد الثاني (الطغراء العثمانية أو الطرة) وتحتها تاريخ سنة البناء 1313هجرية.
أول سوق بورصة
شهدت “العصرونية” تأسيس أول سوق للبورصة في دمشق. ففي جزء من السوق سُمي سوق “البورص”، كان يربط العصرونية بسوق الحميدية. ضم محلات صغيرة لصرّافي العملة الأجنبية وبائعي الذهب في دمشق.
لكن تلك المحلات تحولت لبيع مستلزمات المرأة من عطور وأدوات زينة وماكياج وغيرها، بعدما كان في أربعينات وخمسينات القرن المنصرم يشهد، وبشكل يومي، تجمُّع تجار دمشق لمعرفة حركة البورصة العالمية والمحلية.
وفي صباح السبت الماضي 23 إبريل/ نيسان أتى حريق ضخم على أكثر من 80 محلاً في السوق، والذي أرجعت وسائل إعلام النظام أسبابه إلى ماس كهربائي، دون أن تفتح حتى الآن تحقيقاً في الحادث، ودون أن تبين حتى الآن حجم الخسائر المادية والتاريخية في السوق القديمة.
وقد رفع ناشطون هاشتاغ #الأسد_نيرون_دمشق، محملين بذلك النظام وأعوانه من الإيرانيين مسؤولية هذا الحريق، ومذكرين الأسد وأعوانه بقول الشاعر: “نيرون مات ولم تمت روما بعينها تقاتل”.