سيناء التى لم تعد لنا

27 أبريل، 2016

آلاف المصريين كانوا يجلسون فى صمت مطلبق يقربون آذانهم من سماعة المذياع فى البيوت الكبيرة وعلى المقاهى، صدقوا وقت النكسة أنهم منتصرين، كان الجيش في وادٍ، بيانات اذاعة صوت العرب تهلل بالنصر وتحطم طائرات العدو، ومن أفلت من جنود مصر هائمون في الصحراء تأكلهم الغربان أحياء من شدة الجوع والعطش والضعف .. لذلك كانت الصدمة في النكسة مروعة ، من النقيض للنقيض، من نشوة النصر للهزيمة النكراء، من الحياة للموت فجأة، لكنها تمام ستكون كصدمة من يخبرك أن سيناء لم تحرر ولم ترجع (كاملة لينا) كما غنت شادية وكما اعتدنا أن نردد صغاراً .. هنا نحكي نقيض الرواية الرسمية التي تهلل للتحرير كما هللت بالنصر في النكسة، رواية السلطة

تل أبيب المتورطة، هل بدأت إسرائيل الحرب ؟

غلق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائلية، إجلاء قوات حفظ السلام الدولية في سيناء، حشد القوات المسلحة المصرية في سيناء. كانت هذه هى الأسباب الثلاثة الرئيسية لاندلاع حرب 67

ولعل هذه الأسباب تعطينا فكرة جيدة عن موقف مصر وقتها، وسيادتها الكاملة على الأرض، و حدودها الفعلية .. أدت هذه الأسباب مجتمعة للحرب، هزيمة نكراء، شهداء كُثُر، أسرى ومفقودون كُثُر، أسلحة ومعدات تدمرت، ملايين ضاعت.

لكن الغريب أن اسرائيل لم تكن تريد كل ذلك ، بل ربما كانت تكرهه! لماذا؟

لم يكن في وسع اسرائيل التحكم والسيطرة في كل هذه المساحة من الأرض ، لقد تضخمت مساحتها فجأة دون زيادة في عدد السكان وهي دولة مهددة من كل جيرانها ، تكلفة السيطرة على هذه المساحة من الأرض ضخمة جدا ، والأنسب أن تنفق في الداخل على الزراعة والتجارة والبحث العلمي ، ولكن لم يكن هناك مفر من الحرب أمامها بعد غلق مضيق تيران وحصارها بحريا وحشد قوات للهجوم عليها ، وفي الداخل الإسرائيلي تجري الخلافات بين من لا يتصور التخلي عن سيناء أبدا مهما كانت تكلفة احتلالها وبين من يرى أن تحييد الجانب المصري من هذه الحرب مع العرب يقوي الجيش الاسرائيلي على باقي الجبهات ويقلل ميزانيات الدفاع لأشياء اخرى أهم ، بالقطع مع مراعاه قهر الطرف المصري وانصياعه وخوفه.

في الداخل المصري بعد النكسة أزاح عبد الناصر صديقه المشير عبد الحكيم عامر واعتبره كبش الفداء لهذه النكسة ، وظل عبد الناصر في الحكم حتى وفاته سنة ١٩٧٠ ، وتولى السادات الرئاسة ، وبعد مبادرة روجرز لوقف اطلاق النار كان بقاء السادات في الحكم دون حرب أمرا غير مأمون العواقب ، المظاهرات في الشوارع تغلي طلبا للثأر ، الجنود الذين خسروا دون قتال ، شعارات القومية المرفوعة في كل مكان كانت تحتم المعركة .

الحرب من أجل التفاوض، كيف أراد السادات تحرير سيناء؟

أتى السادات بسعد الدين الشاذلي من قيادة منطقة البحر الأحمر وأسند اليه مهمة رئاسة آركان القوات المسلحة لأسباب ليس المجال لذكرها ، ويهمنا الآن معرفة خطة التحرير وفلسفتها .

وضع سعد الشاذلي خطته الهجومية على أساس عسكري وتفاوضي سياسي وليس على تصور لأي فكرة سلام مع كيان صهيوني غاصب ، وضعها أيضا على أساس الامكانيات المتاحة للدولة المصرية والمساعدات العربية والاسلامية ودعم الاتحاد السوفيتي الحليف الأكبر لمصر وقتها.

لم يكن في الامكان استعادة سيناء دفعة واحدة ، وكذلك لم يكن في الامكان الوصول للممرات والمضايق في نصف سيناء ، كان تقدير الموقف وقتها هو امكانية القيام بعملية هجومية لتحرير من عشرة الى خمسة عشر كيلو متر على خط القناة ، واذا انتصرنا في هذه المعركة فإما أن نجبر العدو على الإنسحاب لحدود أراضي ٦٧ كلها وبسيادة تامة على أراضينا أو نجبره على إطالة مدة الحرب وهو أمر شاق عسير جدا عليه ويكاد يكون مستحيلا بسبب الشلل الذي يصيب اسرائيل في الحروب لاستدعاء الاحتياط من عامة الشعب ، فتتوقف الحياة الاقتصادية تماما .

واذا استمرت الحرب فنقوم بعمل وقفة تعبوية وتدريب جديد للقوات ، لعملية هجومية اخرى نحرر فيها جزء آخر من الأرض بالقتال حتى خط المضايق ، ثم عملية اخرى لاستعادة باقي سيناء ، ولكن كل هذه اختيارات اذا استطاع العدو الصمود في حرب مفتوحة ، وهو الأمر الذي كان من المستحيل أن يحدث لأسباب علمية واستراتيجية كثيرة ، ولكن كانت طبيعة الفريق سعد الشاذلي دائما هي تحضير كل الخيارات البديلة.

أما الموقف بالنسبة للرئيس السادات فكان يريد فقط عشر سنتيمترات في سيناء ليقوم بالتفاوض على الباقي ، وحتى الان ليس هناك مشكلة في محاولة استعادة الارض بالمفاوضات الا في التخلي عن السيادة والسلام مع العدو.

السادات الذى فرط فى الأرض، منفردا

نبتعد مرة اخرى عن خوض تفاصيل الحرب وتضييع السادات للنصر وتسببه في الثغرة وعزله للشاذلي والقادة الكبار، فحتى ذلك الحين لم يكن يتصور مخلوق أن يذهب حاكم مصر ليعترف بالكيان الصهيوني مقابل سلام منفرد.

وعندما فرط السادات في الأرض والدماء لم يحاسبه أحد ولم يوافقه أحد ، وتوالت الاستقالات من كبار الدبلوماسيين والعسكريين الذين رفضوا ما أفضت إليه المفاوضات، ومن هذه النماذج:

1- استقالة اسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري عام ١٩٧٧ اعتراضا على زيارة السادات لاسرائيل قائلا ” أعتقد أن هذا سيضر بالأمن القومي المصري ويضر علاقتنا بالدول العربية الاخرى ، وسيدمر قيادتنا للعالم العربي ” وهو ما حدث بالفعل.

2- استقالة محمد ابراهيم كامل وزير الخارجية – الذى عينه السادات خلفا لإمساعيل فهمي-  لاعتراضه على اتفاقية كامب ديفيد وتسميته لها ب ” مذبحة التنازلات ” .. وقد أصدر كتابه الشهير ” السلام الضائع في كامب ديفيد ” وانتقد فيه كل اتفاقات كامب ديفيد لأنها لم تُشِر بصراحة إلى انسحاب اسرائيل من قطاع غزة والضفة الغربية ولعدم تضمنيها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

3- استقالة سعد الدين الشاذلي _ مهندس العبور وواضع ومنفذ خطة الحرب والتحرير _ من منصبه كسفير لمصر في البرتغال وقتها واللجوء الى البرتغال كمنفى اختياري ليهاجم نظام السادات ويتهمه بالتفريط في الأرض والسيادة والسلاح والتصالح مع العدو .. أصدر سعد مجلة الجبهة الوطنية في الجزائر ليحث الشعوب للثورة على الحكام والشعب المصري تحديدا للثورة على السادات ، واتهمه النظام وقتها بمهاجمة مصر بعينها وليس النظام كالعادة ، فرح الشاذلي في مقتل السادات وصرح بأن من قتله واحد من أشجع ضباط الجيش المصري ، وأن المعارضة كلها قتلت السادات.

4-استقالة محمود نور الدين .. ضابط المخابرات العامة المصري الذي ترك عمله لصدمته في اتفاقية كامب ديفيد .. أسس جريدة ” ٢٣ يوليو ” في لندن لنقد لسياسات السادات ، ثم توقفت لأسباب مادية .. عاد سنة ٨٣ الى مصر واتخذ طريقه الى الكفاح المسلح الذي مثل أعنف رد فعل شعبي على اتفاقية كامب ديفيد .. أسس تنظيم ” ثورة مصر ” الذي كان هدفه الرئيسي ” تصفية الجواسيس والكوادر العاملين تحت غطاء دبلوماسي ، ولكن بصورة غير رسمية حتى لا يسبب مشاكل لمصر .. وكان نور الدين يرفض اغتيال أي مصري مهما كان موقفه السياسي وكان يقول ” لن نوجه الرصاص لصدر أي مصري ، صدور الصهاينة أولى “*.

هذه الاستقالات من قلب جهاز الدولة أوضحت حجم الرفض للتنازل الذى قدمه السادات فى المفاوضات، وتوضح الآن حجم التباين فى ردود الفعل من داخل جهاز الدولة على تنازل عبد الفتاج السيسى عن جزيرتى تيران وصنافير للسعودية، وكيف تم تجريف الطبقة البيروقراطية فى أجهزة الدولة المصرية.

رصاص السادات الذى أصاب الشعب قبل أن يرتد لصدره

الثلاثاء 26 فبراير 1980، السفير الإسرائيلي الياهو بن اليسار يستقبله الرئيس السادات كأول سفير لتل أبيب بعد المعاهدة، و سعد إدريس حلاوة المواطن الريفي فى قريته النائية بالقليوبية يقرر احتجاز موظفين فى الإدارة المحلية كرهائن لحين رفض أوراق اعتماد السفير، فيرسل السادات قناصا يرديه أرضا، يسمع بالقصة بر مصر، والعرب، يكتب فيه نزار قباني رثاء لمصر والعروبة، يصفق الحاضرون فى القصر الرئاسى، ويستلم اليسار مهامه فى القاهرة وخارج غرفة مكتبه علم إسرائيل يرفرف.

لم تكن هذه هى ردة الفعل الشعبية الوحيدة، فالسادات قد اضطر يوما بعد أن ضاق ذرعا بمعارضيه أن يحبسهم جميعا فى اعتقالات سبتمبر الشهيرة التى طالت حتى من لهم باع وحظوة مثل محمد حسنين هيكل، لكن المعارضة المدنية السلمية التى استطاع أن يقمعها السادات لم تكن أخف منها بين قواته نفسها، فخرج منهم من حمل الرصاص الذى قتل به حلاوة ووجهه لصدره ليسقط قتيلا فى عرض المنصة الأخير. رصاص كان يعبر عن معارضة عريضة حتى داخل الجيش وليس مجرد اختراق كما يروج له

فى منزله و قبل وفاته بعده سنوات سألت اللواء طيار ” محمد زكي عكاشة (وهو من أبطال حربي الاستنزاف وأكتوبر) عن موقفه من كامب ديفيد وقتها، فأخبرني مباشرة أنه كان ينوي قتل السادات بنفسه اذا استطاع المشاركة في العرض العسكري .. سألته ( ازاي وهتبقى أكيد منزوعة السلاح والذخيرة ) قالي : ذخيرة ايه ! أنا كنت هخش في المنصة كلها بالطيارة.

كيف عادت سيناء؟

عادت سيناء غير كاملة تنقصها ايلات ” ام الرشراش ” المصرية .. عادت بدون سيادة وبتحديد لمناطق السلاح .. عادت بنزع قيادة مصر للعالم العربي والاسلامي .. عادت بقوات مسلحة تأخذ السلاح كمعونة أمريكية ولا تستطيع به قتال اسرائيل .. عادت باعتراض جميع التيارات السياسية على الاتفاقية والقائهم في السجون .. عادت باعتراض وزارء الخارجية وكبار ضباط الجيش والمخابرات والصحفيين والفنانيين والفلاحين .

عادت واحتفل الشعب كل عام فى الخامس والعشرين من إبريل بعودتها، واعتبر السادات بطل تحريرها، كما اعتبر كل حاكم بطله والوطن كلما تقدمت به السنون واعتلاه الزعماء تضيق حدوده يوما بعد يوم، من التنازل عن السودان إلى غزة إلى سيناء، إلى تيران وصنافير اليوم، وربما حلايب وشلاتين غدا

* بالفعل استطاع تنظيم ثورة مصر اغتيال ” زيفي كيدار ” مسئول الأمن في السفارة الاسرائيلية بالقاهرة و ” ألبرت اتراكشي ” المسئول السابق للموساد في انجلترا وكان يعمل في مصر .. ثم قام باستهداف رجال المخابرات الأمريكية ، وجن جنون أجهزة الأمن المصرية والاسرائيلية والأمريكية ولم يفلحوا في التوصل الى التنظيم ، حتى أبلغ عنه أخو محمود نور الدين للسفارة الأمريكية بسبب ادمانه واحتياجه للمال ، ولكنه سجن مع أفراد التنظيم ولم يعطوه شيئا .. وتمت محاكمة محمود نور الدين مع عشرة آخرين بينهم خالد عبد الناصر بن الرئيس جمال عبد الناصر ، وحكم على نور الدين بالمؤبد ٢٥ عاما قضى منهم أحد عشر عاما في السجن وتوفى عام ١٩٩٨ كمجرم وارهابي لا يسمع به أحد.

 

27 أبريل، 2016