هُم الظاهرة الأبرز التي ميّزت المسرح السياسي المصري بعد الثورة مباشرة عام 2011 بدخولهم عالم السياسة بشكل مباشر لأول مرة، أولًا عبر ظهورهم الواضح خلال استفتاء مارس 2011، ثم تشكيل حزب النور عن طريق الدعوة السلفية وهي الشبكة السلفية الأكبر في مصر، ليحصل على أكثر من رُبع أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية لعام 2012، وأخيرًا عبر حملة حازم صلاح أبو إسماعيل التي تجلت فيها ربما قوة الشارع السلفي سياسيًا أكثر من أي وقت آخر قبلها أو بعدها خلال السنوات الخمس للثورة، بيد أنه بعد رئاسة محمد مُرسي والانقلاب الذي تلاها يبدو أن صوتهم قد خفت، فأين ذهب السلفيون إذن؟ ولماذا لم نرهم على الساحة المصرية بقوة بعد الانقلاب رُغم دعم حزب النور الرسمي للنظام الحالي؟

السلفيون متمردون!

قد تبدو تلك الكلمة مُضحكة للكثيرين ممن تعودوا الإشارة إلى السلفيين كـ”أقصى يمين” الشارع السياسي بل والاجتماعي أيضًا، ولكن الشارع السلفي في الحقيقة يبدو متمردًا جدًا مقارنة بالقواعد الجماهيرية للإخوان المسلمين والقواعد المسيحية للكنيسة المصرية والقواعد المصرية المحافظة سياسيًا ممن تقبلوا الثورة على مضض واعتمدت عليهم أحزاب فلول نظام مبارك، ولكن ما الدليل على ذلك إذن؟

في بادئ الأمر بدا أن الشارع السلفي سيثير المتاعب باتباعه الأعمى لقياداته كما جرى في استفتاء مارس 2011 وفي الانتخابات البرلمانية عام 2012 التي حصل فيها حزب النور على حوالي 7.5 مليون صوت، لكن هذا “التوافق” في المصالح مع القيادات سرعان ما تبدد جزئيًا حين حلت معركة الانتخابات الرئاسية، والتي قرر أثناءها الشارع السلفي بمرونة وذاتية وقليل من ترتيب الصفوف العشوائي إن جاز القول، الوقوف خلف حازم صلاح أبو إسماعيل بقوة دون أن يحصل على تأييد من أي فصيل إسلامي ضخم بشكل واضح.

كانت ظاهرة أبو إسماعيل قوية في الحقيقة لا سيما وأن الرجل، والمتوقع وصوله بسهولة لجولة الإعادة على أقل تقدير حال استمر ترشحه لنهاية السباق، لم يتمتع بدعم مالي ضخم على غرار مرشحي النظام القديم كأحمد شفيق وعمرو موسى، ولم يقف وراءه تنظيم ثقيل بحجم الإخوان المسلمين، حيث ابتعدت عن تأييده تمامًا الدعوة السلفية، غير أن ذلك لم يؤثر على فرصه نهائيًا في كسب تأييد الشارع السلفي في إشارة واضحة على “تمرد” السلفيين وخطأ انطباع خضوعهم للسمع والطاعة كفصيل اجتماعي.

لنقارن ذلك بالقواعد الشعبية للإخوان المسلمين، والتي اصطف معظمها خلف ترشيح محمد مُرسي منذ الجولة الأولى في انصياع كامل لرغبة قيادة الجماعة، رُغم علامات الاستفهام على قدراته والكاريزما الخاصة به، مقابل شريحة ضئيلة من الإخوان قررت تأييد عبد المنعم أبو الفتوح، أضف لذلك أن الاسم الثقيل لأبو الفتوح بتاريخه الطويل مع الجماعة لم يكن كافيًا لزعزعة القواعد الإخوانية، في حين كان ظهور حازم أبو إسماعيل والأقل شهرة في الشارع الإسلامي قبلًا كافيًا بتحريك الشارع السلفي والذي وجد فيه تجسيدًا حقيقيًا لأفكاره السياسية، ولم يقبل بدعم أبو الفتوح البعيد عن أفكاره كما قرر حزب النور على المستوى الرسمي، ولم يكن ليقبل على الأرجح أيضًا أي اختيار سلفي محافظ سياسيًا من جانب حزب النور في مقابل جاذبية أبو إسماعيل.

خلق السلفيون مرشحهم الخاص إذن، والذي أقصي لأسباب عديدة قانونية وسياسية وغيرها، ولم يلتزموا بقرار حزب النور دعم أبو الفتوح، ثم جاءت جولة الإعادة والتي اتجهت فيها أصواتهم بشكل واضح كجزء من عموم الشارع الإسلامي إلى محمد مرسي، ليعودوا للوفاق مجددًا مع الموقف الرسمي للدعوة السلفية، قبل أن يحدث ربما الطلاق الأكبر بينهم وبين قياداتهم إبان الانقلاب العسكري في يوليو 2013، حيث بدا واضحًا حضور العنصر السلفي في اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، وهو ما تأكد بعدم تجاوز الأصوات التي حصل عليها حزب النور في انتخابات برلمان 2015 نصف مليون صوت، أي أقل من 10% مما حصلوا عليه بدعم الشارع السلفي في 2012.

إسلاميون أولًا

يلفت الانتباه بقوة في القواعد الشعبية السلفية انحيازها الواضح لصالح معسكر الإخوان المسلمين بعد الانقلاب، والشواهد كثيرة على ذلك بدءًا من ابتعادهم تمامًا عن الخطاب الرسمي لحزب النور كما ذكرنا، وحتى تواجدهم في ساحات رابعة العدوية والنهضة أثناء اعتصامات الإخوان المسلمين ضد الانقلاب عام 2013، وهو ما يشي لنا بسمة مميزة في الحقيقة للشارع السلفي: إدراكه بأنه جزء أساسي وراسخ من الحركة الإسلامية، وأنه لا ينفصل أبدًا في مصالحه الاجتماعية والسياسية عن عموم الحركة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها، حتى لو اختلف معها في مسائل جوهرية كمفهوم الدولة الإسلامية وماهية تطبيق الشريعة والعلاقات مع الشيعة (و/أو إيران) وغير ذلك من مسائل أثيرت خلال رئاسة محمد مُرسي.

باحتشاد معظمهم خلف خطاب “رابعة” إن جاز القول، فإن جماهير السلفيين تكون قد أدركت، بشكل واعٍ أو غير واع، مركزية الإخوان المسلمين في الحركة الإسلامية المصرية والمستمرة منذ أكثر من ثمانين عامًا، وتكون قد أثبتت، على عكس ما يُشاع عنها، أنها أكثر مرونة في التحرك على الساحة السياسية (الإسلامية على الأقل) وأكثر قبولًا للاصطفاف خلف لاعبين سياسيين غير سلفيين بالضرورة، فالشارع السلفي يتسم بشكل عام بمواقف أكثر مرونة من نظيره الإخواني رُغم أيديولوجيته الأكثر تشددًا كنتيجة لسيولة الحركة السلفية التي لا تخضع بالكامل لتنظيم واحد.

لماذا إذن؟ لأن السلفية في نهاية المطاف مدرسة فكرية واسعة ومتعددة الاتجاهات ونمط حياة ذي قواعد اجتماعية بسيطة، في حين تُعَد جماعة الإخوان المسلمين بالتعريف تنظيمًا سياسيًا أكثر صلابة، وفي حين أن “الإخواني” هو بالضرورة شخص انضم كعضو للتنظيم أو أيده بشكل واضح كخيار سياسي، فإن تعريف السلفي أكثر تركيبية، وقد يقتصر على كونه خيارًا اجتماعيًا، فهو يتراوح من الالتزام التنظيمي بالدعوة السلفية، وهو أمر ليس بشائع لا سيما وأن الدعوة نفسها ليست تنظيمًا سياسيًا صلبًا، وحتى مجرد إطلاق اللحية وارتداء النقاب أو تبني خطاب الدعاة السلفيين.

في الحقيقة لعل تلك المرونة كانت حاصلة بالفعل ولكنها لم تتضح بهذا الشكل إلا بعد الانقلاب، فعموم السلفيين ممن صوتوا بنعم في استفتاء مارس 2011 لا يمكن الجزم الآن بأن خيارهم ذلك كان انصياعًا لقياداتهم السلفية كما أشيع وقتها، إذ يُرجح حاليًا النظر له كخيار انطلاقًا من إدراكهم بالمصلحة السياسية لعموم الحركة الإسلامية ككُل، والتي اصطفت خلف هذا الخيار إيمانًا منها بضرورة رسم خارطة سياسية أولًا عبر انتخابات برلمانية تعكس الواقع الاجتماعي الذي تغيّر على مدار 60 عامًا من العُقم السياسي، قبل أن توضع أسس دستور جديد، وهي رؤية تعارضت بالطبع مع معسكر المطالبين بالدستور أولًا ممن اعتبروهم أكثر نخبوية وأكثر رفضًا للاحتكام للشارع الذي غلبت عليه الانحيازات الإسلامية.

تباعًا، ونتيجة اتباعها الواقعي للطرف الأكثر تجسيدًا لأفكارها دون قيود تنظيمية من أي نوع، كما فعلت في مارس 2011 وفي انتخابات برلمان 2012 وفي احتشادها خلف ترشيح أبو إسماعيل، وفي تصويتها لمُرسي في الإعادة، وفي تأييد معظم قواعدها للإخوان بعد الانقلاب، فإن القواعد الشعبية السلفية تبرز كفصيل منفصل وتذوب في عموم الإسلاميين حسب الظرف السياسي والخيارات المتاحة، وبالنظر للمحنة التي تمر بها الحركة الإسلامية كلها الآن، يبدو راجحًا أنها لم تتلاشى كما تشي القراءة السطحية لانتخابات 2015، ولكنها اختارت الانحياز لمعسكر الإخوان والإسلاميين في العموم اتباعًا مرة أخرى لما تعتبره أقرب لها ولمصالحها اجتماعيًا وسياسيًا.

***

لا يمكننا بأي حال أن نجزم بانطباق ذلك على الشارع السلفي كله بالطبع، فالسلفيون لربما عاد بعضهم لاعتزال السياسة كما كان موقف الدعوة السلفية في عهد مبارك، أو تبنى أفكارًا أكثر راديكالية وجهادية في وجه بطش الدولة المتزايد ليبتعد عن ساحات الاحتجاج السياسي برمتها، أو ربما خليط من كل ذلك بدرجات مختلفة، ولكن كاتب المقال يرجّح بدرجة كبيرة أنهم ذائبون حاليًا في جموع الحركة الإسلامية التي تتعرض لقمع غير مسبوق منذ ستينيات القرن المنصرم.

على أي حال، لا يسعنا أن نقوم بمسح شامل ودقيق للشارع السلفي حاليًا لمعرفة التوجهات الجديدة فيه، ولعل فتح المجال العام مجددًا وإجراء انتخابات ديمقراطية وحقيقية كتلك التي جرت عام 2012 هي الفيصل الوحيد الذي سيكشف لنا تغيرات القواعد الشعبية السلفية تجاه العمل السياسي، بدءًا من احتمالية انحياز بعضٍ منها لصالح الإخوان لا لحزب النور نتيجة موقف الأخير من الانقلاب، وهو ما قد يعزز من فرص الإخوان في أي نظام ما بعد الانقلاب، وحتى تأسيس حزب بديل مستقل قد يحرك المياه الراكدة بشكل أكبر في الحقيقة داخل الحركة الإسلامية على غرار حملة حازم صلاح أبو إسماعيل، وأخيرًا احتمالية تضاؤل كُتلة المصوتين من السلفيين أصلًا، وهو ما سيكون مؤشرًا على الأرجح بكُفرهم بالسياسة من جديد، والاتجاه إما للانكفاء الدعوي أو الساحة الجهادية أو كليهما.