الإله لم يمت


تايم –

بالنسبة للمسلم، فإنَّ سؤال: “هل الإله ميت؟” يطرح سؤالًا آخر: “إذا كان الإله ميتًا، إذن، كيف مازلت على قيد الحياة؟”

الغلاف المثير لمجلة تايم عام 1966 بعنوان “هل مات الإله؟” كان ولا يزال مسألة إثنية لها فرضيات ليبرالية بروتستانتية مسيحية غربية عن التاريخ واللاهوت. لكنَّ قصة الإله من منظور الإسلام تروي قصة مختلفة تمامًا في العصر الحديث.

بالرغم من كل ما مرّ به العالم مسلم، من الاستعمار إلى الطائفية العنفيّة، لا يوجد أي دليل على أنَّ المسلمين يتخلون بشكل جماعي عن الإيمان بالله أو أنّهم يفرون من المساجد. بل على العكس تمامًا، لقد شهدت العقود القليلة الماضية إحياء التديّن بين المجتمعات المسلمة المعلمنة سابقًا، وبين الدول الشيوعية السابقة التي حاولت طمس الإسلام. رأى العديد من المفكرين في الغرب أن السبب في العودة إلى المنهجية المتمركزة حول الإله يرجع إلى غياب الديمقراطية وحرية التفكير بشكل نقدي في مسألة الإيمان، ولكني أجادل بأنَّ الإسلام، كدين وحضارة، هو في الواقع ترياق لبعض المشاكل اللاهوتية التي طرحها عدد مجلة تايم قبل 50 عامًا.

وبادئ ذي بدء، تصوّر المسلمين عن الإله يدحض ما يراه إنسان العصر الحديث أنّه أمر غير قابل للتصديق حول الإلهيّ. الإله في الإسلام هو إله غير مصوّر في شكل بشرى ولا يحمل صفات بشرية؛ إذ جاء في القرآن الكريم: “ليس كمثله شيء” (سورة الشورى). وثمة قول شائع بين فقهاء المسلمين: “العجز عن دركِ الإدراك إدراك والبحث عن ذاته كفر وإشراك.” تبدأ الشهادتان في الإسلام بنفي “لا إله”، قبل التأكيد، “إلّا الله”. قضى الفقهاء المسلمون معظم، إن لم يكن جُلّ أوقاتهم حول مسألة نفي وجود إله آخر قبل التأكيد على مسألة مَن هو الله. في الدين الإسلامي، يُعرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وليس من خلال خصائص مادية ملموسة. الله ليس، ولا يمكن أن يكون محصورًا في حدود الزمان والمكان أو الجنس.  

الله في الإسلام هو رب رحيم رؤوف، ولكنّه أيضًا منتقم جبار، رب جميل وعظيم. معرفة الله تُشعرك بالسكينة بقدر ما هي مؤثرة على النفس. تتكشف الذات الإلهية بطرق مختلفة لأسباب وحكمة تتجاوز معرفتنا البشرية. وعلى هذا النحو، فإنَّ المسلمين لا يتوقعون أن يتجلى الله في ألطف الطرق؛ فالمعاناة ليست لغزًا لاهوتيًا بقدر ما هي حقيقة لها غاية واحدة وهي معرفة الله بشكل أعمق.

الإنسان في الإسلام مستخلف، عهد الله إليه بعمارة الأرض، فلا يوجد تدين سلبي طمعًا في رحمة وفضل الله. دائمًا ما يأمر الله بالعمل والكفاح والصلاة بانتظام، ورعاية الفقراء، واجتناب المحرمات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك. تتم معرفة الله، إذن، من خلال العبودية والخضوع الطوعي.

وغالبًا ما يكون هناك مغالاة في التوقع الشائع عن معرفة الله، وهذه المغالاة هي التي تقود الكثيرين إلى الشعور بخيبة أمل عندما لا تتم لهم معرفة الله والتجارة الرابحة معه. الإسلام لا يعد بالمعجزات؛ بل يسمح للمرء أن يرى المعجزات التي تحدث من حولنا.

الإله لم يمت، لكنَّ قدرتنا على إدراك وجود إله ماتت؛ وذلك بسبب انحرافات الحداثة. في إحدى الآيات القرآنية، يقول الله: ” يا أيّها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟” يقول المفسرون إنَّ كرم الله هو ما أبعدنا عنه.

التأثر بالتقدم والاكتشافات العلمية قد تكون أحد انحرافات إنسان العصر الحديث، ولكنه ليس الانحراف الوحيد. لا يقع الله والعلم في مسار تصادمي. القرآن، في الواقع، يحث قرائه للبحث عن آيات الله في الآفاق وفي النفس (سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم “سورة فصلت”)، وإلى التفكير في الغرض من الحياة من خلال التفكر في السماوات والأرض (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض “سورة آل العمران”). لقد أنتجت الحضارة الإسلامية مجموعة من أعظم العلماء والاكتشافات العلمية الهامة، ولم يتعرض العلماء للاضطهاد أو الإهانة بسبب اكتشافاتهم المتعلقة بالكون. فكرة أنَّ العلم يحلّ محلّ الدين هي، بطريقة أو بأخرى، سوء فهم لطبيعة العلم والدين. إنَّ غاية الدين هو التفكير “لماذا”، وليس “ما” و “كيف”.

الإصرار على أنَّ المنهج العلمي هو الوسيلة الوحيدة لمقاربة جميع المعارف يُعدّ رجعية بقدر ما هو أصولية دينية. إذا قال الصوفي للعالِم أن يعمل في مختبره وهو يردد أسماء الله بدلًا من إجراء التجارب العلمية لتحديد صحة فرضية معينة، فإن حينها سنسخر من الصوفي ونصفه بأنّه أحمق. ومع ذلك، العلماء غالبًا ما يصرّون على أن البحث الصوفي عن الله يفعل ذلك باستخدام منهجية لا تهدف إلى الوصول لحقائق ميتافيزيقية.

أحد أسماء الله التي يتضرع بها المسلمون في معظم الأحيان هي اسم الله “الحي”. وقع هذا الاسم على النفس والتراتيل المتناغمة تجلب الابتهاج إلى القلب؛ إذ يرى الصوفي الله في هذه التراتيل أكثر وضوحًا مما يرى نفسه. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “ونحن أرقب إليه من حبل الوريد (سورة ق)”. ولذا، فإنَّ إثبات وجود المرء لذاته، بمعزل عن الله، هو أكثر إرباكًا للمؤمن من إثبات وجود الله. بالنسبة للمسلم، فإنَّ سؤال: “هل الإله ميت؟” يطرح سؤالًا آخر: “إذا كان الإله ميتًا، إذن، كيف مازلت على قيد الحياة؟”

عندما انتشرت أخبار أن النبي محمد قد وافته المنية بعد مرض شديد استمر لفترة قصيرة، غضب عمر بن الخطاب لدرجة أنّه سلّ سيفه وهدّد بقتل أي شخص يجرؤ على القول بأن النبي قد مات. في تلك اللحظة، خاطب الصحابي الجليل أبو بكر المسلمين بهذه الكلمات: “من كان يعبد محمدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت.”

إنَّ الشعور بأبديّة الله وعظمته هو الذي يمنح المسلمين الأمل في حياة كريمة حتى أثناء هذه الأوقات العصيبة والمضطربة.