معضلة السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي القادم


ذي ناشينال –

يجب أن تبدأ أي محاولة للنظر في خطاب السياسة الخارجية الأمريكية في الآونة الأخيرة سواء من قبل دونالد ترامب أو توجهات السياسة الخارجية الأمريكية عموما بالنظر إلى مدى القوة الاستراتيجية والعسكرية العالمية للبلاد.

في العام 1993، قال الرئيس الأمريكي وقتئذ بيل كلينتون إن أول سؤال يطرحه المسؤولون في واشنطن عندما ينشأ أي نزاع في أي مكان على ظهر هذا الكوكب هو: “أين  توجد أقرب حاملة طائرات؟” حيث تعمل كل مجموعة من  مجموعات حاملات الطائرات المقاتلة بمنزلة تعبير قوي عن مصلحة الولايات المتحدة، ولا يقتصر ذلك فقط على منطقة الخليج العربي، ولا على منطقة بحر الصين الجنوبي مؤخرا.

ولا تمثل حاملات الطائرات سوى جانب واحد فقط من نفوذ الولايات المتحدة، الذي لا يقتصر على النفوذ العسكري فقط، بل يشتمل أيضا على الثقل الاقتصادي للبلاد، وهيمنتها على منظمة حلف شمال الأطلسي، وتأثيرها في هيئة الأمم المتحدة، وميزانية المساعدات الدولية، وقدرتها المالية التنظيمية، وريادتها في مجالات الهندسة والعلوم والتكنولوجيا، وقوتها الناعمة المتجسدة في الأعمال الإنسانية والثقافية العالمية.

وفي منطقة الشرق الأوسط، أصبحت دوافع الولايات المتحدة واضحة. حيث ينهار النظام القديم، ويتم الآن اتهام الإدارة الحالية بعدم وجود اتساق سياسي في المنطقة التي تمت نمذجتها وفقا لواقع النفوذ الأمريكي.

وتخلق الفروق الدقيقة الحديثة في الأنماط الأمريكية لدعم حلفائها التقليديين في المنطقة، من مصر إلى دول الخليج، والتي تعود – من بين أمور أخرى- إلى تجدد إمكانية وصول إيران إلى الأسواق الغربية والاستثمار، مساحة للحلول الدبلوماسية والعسكرية النابعة من قلب المنطقة. وفي الوقت نفسه، تسارع الحكومات الإقليمية الأكثر مسؤولية إلى برامج التنويع الاقتصادي في الوقت الذي تخيم فيه حالة من عدم التأكد حيال الأسعار الرخيصة للنفط.

وسوف يكون لتقليل التزام الولايات المتحدة نحو حلفائها التقليديين أثرا في إعادة توجيه مزيد من التجارة والاستثمار والدبلوماسية باتجاه الشرق. وسوف تبحث الدول الخارجة من تحت مظلة النفوذ الأمريكية عن طرقها الخاصة للتعامل مع الطائفية والأصولية والطموحات المتجددة لقوى مثل إيران وروسيا.

والأكثر من ذلك، ينتاب التحالفات الغربية الأقدم الآن حالة من الضعف. ويجد حلف الناتو ،المستنزف عسكريا والمُتحدى مفاهيميا، نفسه في موقف صعب بسبب روسيا التي تشهد طفرة جديدة، وعلاقاتها المتدهورة مع تركيا.

ومن جانبه، يتداعى مجلس الأمن التابع لهيئة للأمم المتحدة على نحو متزايد بسبب المصالح المتعارضة للدول الخمس دائمة العضوية في المجلس. كما تم إهمال ما يسمى بـ “العلاقة الخاصة” بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.

ويضطر الاتحاد الأوروبي الآن ،الذي يواجه بالفعل اضطرابات اجتماعية واقتصادية وسياسية، إلى التفكير في مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد، وهي أحد أقوى أعضاء الاتحاد.

ويعتقد الكثيرون أن مناشدة الرئيس باراك أوباما التي وجهها إلى المملكة المتحدة في الأسبوع الماضي من أجل البقاء داخل الاتحاد الأوروبي قد تولدت في جزء منها من الرغبة في تعزيز تكتل قوى غربي بديل قادر على التعاطي مع قضاياه الخاصة به بدلا من البحث بحزن عن حلول عبر المحيط الأطلسي.

وقد بدأت المحركات الكبرى – التي تهيمن عليها الولايات المتحدة-  للنوايا الغربية في فقد سلطتها والغرض منها. وأولئك الذين يعتبرون أنفسهم نتاج سيء لمرحلة ما بعد الاستعمار المتخبطة أو تجاوزات العولمة التي أنتجتها مصالح الدول المتقدمة، قد يشجعون على هذا المشهد الحالي.

ولكن الكثير من الجيل الأكبر سنا، الذين يتذكرون فوائد دخول الولايات المتحدة في حربين عالميتين، ودورها الحاسم في زوال الشيوعية وتدخلاتها في الصراعات المختلفة من الكويت إلى كوسوفو، لايزالون يرون أن هناك قيمة لاستمرار انخراط الولايات المتحدة في الشؤون العالمية.

والآن، عودة إلى السيد ترامب. حيث نجد أن خطابه يقدم القليل في طريق الاتساق والرؤية، وكثيرا ما يجد نفسه ممزقا بين حالتي الانعزالية والتدخل، وبين مبدأ أمريكا أولا، والنظرية الاستثنائية الأمريكية التي تم تصديرها في عهد بوش.

وإذا ما تولى دونالد ترامب الرئاسة، فإن إدارته سوف تشرف على تعزيز الجيش وتجديد الترسانة النووية الأمريكية ومحو أثر تنظيم الدولة الإسلامية. وفي الواقع تعتبر هذه الأمور عناصر قوية بدون شك إلى الدرجة التي تجعل الرئيس الحالي يبدو متذبذبا، ولكنها تبدو غير متناسقة عند وضعها في مقابل التعهدات الإضافية بتجنب بناء الأمة والتخلي عن حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا الذين لا يسهمون بما فيه الكفاية من أجل الدفاع عن أنفسهم. كما كرر السيد ترامب شكوكه تجاه التدخل في الشرق الأوسط، في حين انتقد أيضا أوباما بسبب الحقيقة القائلة بأن “أصدقاؤنا بدأوا يعتقدون أنهم لا يستطيعون الاعتماد علينا” بحسب قوله.

وقد وجد ترامب نفسه عالقا بين الخطاب الانعزالي الذي لعب دورا جيدا خلال الانتخابات التمهيدية، وبين التأكيد على أن الولايات المتحدة لاتزال لاعبا عالميا رئيسيا قادرا على ضرب أعدائه في حين يلعب دور “صانع سلام” ويساعد على “إنقاذ الأرواح، بل الإنسانية في حد ذاتها”.

وسوف يلاحظ أولئك المهتمون بالتاريخ الأمريكي وجود علاقة غير مقصودة بين مبدأ السيد ترامب الرئيسي في السياسة الخارجية: “أمريكا أولا”، وبين لجنة أمريكا أولا الانعزالية التي تم إنشاؤها في العام 1940 لمعارضة تدخل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. وقد انحلت هذه اللجنة بعد أيام قليلة من الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور.

وبنفس الطريقة لن تكون الولايات المتحدة قادرة على تحصين نفسها ضد الاضطرابات والتحول العالمي. فقد اعتاد الكثيرون في أوروبا على الاعتقاد بأن ذلك كان أمرا ممكنا، حتى بدأ اللاجئون السوريون في التدفق عبر الحدود الأوروبية، وإعداد جماعة تنظيم الدولة الإسلامية لتنفيذ عملياتها في ليبيا، الواقعة على الجانب الآخر من شاطئ البحر الأبيض المتوسط.

وأيا ما كان الرئيس القادم للولايات المتحدة الأمريكية، فسوف تتمثل مهمته في إعادة تقويم السياسة الخارجية الأمريكية على نحو يتماشى مع النظام العالمي الجديد، ويحافظ في الوقت نفسه على الضمانات والمزايا العالمية التي تكفلها الشراكة مع أقوى ديمقراطية في العالم.