سوريا وداعش وحرب البروباجندا الأمريكية البريطانية
7 مايو، 2016
نيو إيسترن اوت لوك –
في ظلّ اشتعال الحرب السورية في عامها الخامس، يعيث تنظيم الدولة الإسلامية فسادًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن الواضح أن المنطقة بأسرها تحوّلت إلى مسرح كبير للصراع. ولكنَّ لا ينبغي فهم ساحة المعركة كمكان مادي موجود على الخريطة فحسب؛ بل إنّها فضاء اجتماعي وثقافي حيث تستخدم القوات البريطانية والأمريكية ومنظمة حلف شمال الأطلسي مجموعة متنوعة من الأساليب للتأثير على مجرى الأحداث وخلق نتائج متوافقة مع أجنداتهم الخاصة. ولا توجد أداة أكثر تأثيرًا من البروباجندا.
في الواقع، إذا كانت الحرب الجارية في سوريا، والصراعات في مرحلة ما بعد الربيع العربي عمومًا، علمتنا أي شيء؛ فهو قوة البروباجندا والعلاقات العامة في تشكيل السرديات التي بدورها تؤثر على الأحداث السياسية. وبالنظر إلى القوة الهائلة للمعلومات في المشهد السياسي ما بعد الحداثيّ، ليس مفاجئًا أن أصبحت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من زعماء العالم في البروباجندا التي ترعاها الحكومات التي تتنكر في عباءة التعبير السياسي والاجتماعي الشرعي.
لندن، واشنطن، وقوة التلاعب بالسرديات
كشفت صحيفة الجارديان مؤخرًا كيف تشارك وحدة البحوث والمعلومات والاتصالات البريطانية (RICU) في مراقبة ونشر المعلومات، وتعزيز الأفراد والجماعات في إطار ما تصفه بأنها محاولة “لتغيير المواقف والسلوك” بين الشباب المسلم. هذا النوع من الرسائل المضادة ليس بالشيء الجديد، لقد نوقش كثيرًا لسنوات عديدة. ومع ذلك، كشفت مقالة الجارديان عن العلاقات العميقة بين وحدة البحوث والمعلومات والاتصالات ومختلف المنظمات الشعبية، والحملات الإلكترونية، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
استعرض المقال العلاقة بين وحدة البحوث والمعلومات والاتصالات وشركة الاتصالات ” Breakthrough Media Network” في لندن والتي “أنشأت عشرات المواقع الإلكترونية، والنشرات، وأشرطة الفيديو، والأفلام، وصفحات على فيس بوك وتويتر ومحتوى إذاعي عبر الإنترنت، مع عناوين مثل “حقيقة داعش” و”مساعدة سوريا “.
وبالنظر إلى طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي، والطريقة التي تنتشر بها المعلومات (أو المعلومات المضلّلة) على شبكة الإنترنت، ليس من المفاجأة أن عددًا من مقاطع الفيديو المنتشرة، والتغريدات الشهيرة، وغيرها من المواد التي تتفق مع اتجاه لندن وواشنطن المناهض للأسد، هي في الواقع منتجات مباشرة لحملة دعائية ترعاها الحكومات.
وجاء في مقال الجارديان:
“مبادرة وحدة البحوث والمعلومات والاتصالات، والتي تعلن عن نفسها بوصفها حملة تقدّم المشورة حول كيفية جمع الأموال للاجئين السوريين، اجرت محادثات مع الآلاف من الطلاب في معارض الطلاب الجدد بالجامعة دون إدراك الطلاب أنهم كانوا يشتركون في برنامج حكومي. تلك الحملة، التي يطلق عليها اسم “مساعدة سوريا”، وزّعت منشورات على 760 ألف منزل دون إدراك المستلمين أنهم كانوا من وحدة الاتصالات الحكومية.”
ليس من الصعب أن نرى ما تحاول الحكومة البريطانية القيام به مع مثل هذه الجهود؛ إنّها تحاول السيطرة على رسائل الحرب السورية، وإعادة توجيه النشاط الشعبي المناهض للحرب إلى قنوات مقبولة لدى المؤسسة السياسية. تخيّل للحظة تأثير ذلك على طالب جامعي يبلغ من العمر 18 عامًا فقط يخطو خطواته الأولى في الساحة السياسية، وعلى الفور يواجه نشطاء مخضرمين يؤثرون على تفكيره في طبيعة الحرب، ومَن الأخيار ومَن الأشرار، وما ينبغي القيام به. الآن يتضاعف هذا التأثير على الآلاف من الطلاب. ولذا، فإنَّ أثر هذه الجهود عميق للغاية.
ولكن الأمر أكثر بكثير من مجرد تفاعل مع نشطاء محتملين وإنتاج مواد دعائية؛ بل يتعلق أيضًا بمراقبة واختراق وسائل التواصل الاجتماعي. وفقًا لمقال الجارديان، فإنَّ “واحدة من المهام الرئيسية لوحدة البحوث والمعلومات والاتصالات هي مراقبة المحادثات عبر الإنترنت بين ما تصفه المجتمعات المعرضة للخطر. وبعد إطلاق المنتجات، يراقب أعضاء وحدة البحوث والمعلومات والاتصالات “المنتديات الرئيسية” للمحادثات عبر الإنترنت “لتعقب السرديات المتغيّرة”، كما توضح أحد الوثائق التي حصلت عليها صحيفة الجارديان. “ومن الواضح أن هذه الجهود تهتم بالتغلغل داخل مواقع الإنترنت، وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
من خلال المراقبة والتلاعب بهذه الطريقة، فإنَّ الحكومة البريطانية قادرة على التأثير، بطريقة دقيقة وموجّهة للغاية، على سرديات الحرب السورية، وتنظيم داعش، ومجموعة كبيرة من القضايا ذات الصلة بكل من سياستها الداخلية والجيوسياسية ومصالحها الاستراتيجية. وهنا تكمن العلاقة بين المراقبة والبروباجندا والسياسة.
ولكن بطبيعة الحال، فإنَّ المملكة المتحدة ليست وحدها في هذا الجهد؛ فالولايات المتحدة لديها برنامج مماثل مع مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب الذي يصف مهمته بأنها:
“تنسيق وتوجيه، والإبلاغ عن أنشطة الاتصالات الخارجية الحكومية المستهدفة ضد الإرهاب والتطرف العنيف … ويتألف مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب من ثلاثة عناصر تفاعلية. عنصر التحليل المتكامل الذي يستخدم مجتمع الاستخبارات والخبراء الفنيين الآخرين لضمان استفادة وكلاء المركز من أفضل المعلومات والتحليلات المتاحة. تعتمد الخطط والعمليات على هذه المدخلات لابتكار وسائل فعّالة لمواجهة السرديات الإرهابية. ويشارك فريق التواصل الإلكتروني بنشاط وانفتاح باللغات: العربية والأردية والبنجابية، والصومالية.”
لاحظ أن مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب هو، في الواقع، مركز استخباراتي يعمل على تنسيق الدعاية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ووكالة الاستخبارات الدفاعية، ووزارة الأمن الوطني، ووكالة الامن القومي، من بين أمور أخرى. هذه المهمة، بطبيعة الحال، تتنكر وراء مصطلحات مثل “تحليل متكامل” و “خطط وعمليات”؛ وهي المصطلحات المستخدمة للدلالة على المكونات المختلفة لمهمة مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب. ومثل وحدة البحوث والمعلومات والاتصالات، يركز مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب على تشكيل السرديات على الإنترنت تحت ذريعة مكافحة التطرف.
وتجدر الإشارة أيًضا إلى أنَّ مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب أصبح مركزًا لتبادل الدعاية ليس فقط لحكومة الولايات المتحدة، ولكن أيضًا لحلفائها الرئيسيين الأجانب (إسرائيل والمملكة العربية السعودية وبريطانيا)، وكذلك المنظمات غير الحكومية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة أطباء بلا حدود. كما لاحظت صحيفة نيويورك تايمز:
“مركز الاتصالات الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب سوف يسخّر كل المحاولات في الرسائل المضادة من خلال الوزارات الفيدرالية، بما في ذلك البنتاغون والأمن الوطني والوكالات الاستخباراتية. كما ينسق المركز أيضًا ويعمل على تضخيم رسائل مماثلة من قِبل الحلفاء الأجانب والوكالات غير الحكومية، فضلًا عن أكاديميين مسلمين بارزين وقادة المجتمع ورجال الدين الذين يعارضون تنظيم الدولة الإسلامية.”
ولكن مع نظرة فاحصة لهذه المعلومات، فإنها تثير الشكوك مجددًا في صحة الكثير من السرديات السائدة عن سوريا، وليبيا، وداعش، والمواضيع الأخرى ذات الصلة. وفي ظلّ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وبعد أن أصبحت “صحافة المواطن” مؤثرة للغاية في طريقة تفكير المواطن العادي في هذه القضايا، ينبغي أن نفكر مرة أخرى في مدى التلاعب بهذه الظواهر.
صناعة سرديات وسائل التواصل الاجتماعي
أصبحت الطرق العديدة التي تستثمر من خلالها الحكومات الغربية في أدوات التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي من أجل تشكيل السرديات، موثّقة بشكل جيد الآن.
في الواقع، فإنَّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وحدها استثمرت الملايين في عشرات من الشركات الناشئة المتخصصة في وسائل التواصل الاجتماعي عبر ذراعها الاستثماري المعروفة باسم ” In-Q-Tel”. وتنفق وكالة المخابرات المركزية عشرات الملايين من الدولارات وتوفر رأس المال الأوليّ لهذه الشركات من أجل القدرة على فعل كل شيء من استخراج البيانات إلى مراقبة شاملة.
الحقيقة هي أننا كنا نعرف بشأن رغبة الحكومة في التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات. في فبراير عام 2011، مع بداية أن الحروب في ليبيا وسوريا، نشر موقع ” PC World” قصة مثيرة للاهتمام تحت عنوان “جيش من أصدقاء وسائل الاعلام الاجتماعي الوهميين” الأصدقاء لتعزيز دعاية أوضحت بكل اللغات أنَّ:
“تعاقدت الحكومة الأمريكية مع شركة ” HBGary” لتطوير برمجيات يمكنها إنشاء عدة صفحات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي للتلاعب والتأثير في الرأي العام حول القضايا المثيرة للجدل من خلال تشجيع الدعاية. ويمكن استخدامها أيضًا للمراقبة للعثور على وجهات النظر المعارضة. ومن المحتمل أن يكون لديها أشخاص “وهميين” يديرون حملات للتشهير ضد أشخاص “حقيقيين”.
المراقبون الجادون لحرب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على ليبيا يتذكرون كيف أن العديد من حسابات تويتر ظهرت فجأة، مع عشرات الآلاف من المتابعين، لنشر “تقارير” عن “الفظائع” التي نفذتها القوات المسلّحة في عهد معمر القذافي، والدعوة لمنطقة حظر جوي وتغيير النظام. وهذا تركنا نتساءل، وكثير منّا تساءل في ذلك الوقت، ما إذا كانت تلك الحسابات غير مزيفة وأنّه تمّ إنشاؤها من قِبل برنامج حاسوب في البنتاغون، أو عن طريق متصيّدين مأجورين.
ومن الأمثلة الأخيرة على هذا النوع من تضليل وسائل التوال الاجتماعي التي كانت (وستظل) مستخدمة في الحرب على سوريا / داعش، ما ظهر في ديسمبر عام 2014 عندما تمّ الكشف عن “مروّج بارز لتنظيم داعش على موقع تويتر” معروف باسم Shami Witness (@ShamiWitness)، حيث وُصف رجل يُدعى “مهدي” (اتضح في وقت لاحق أنّه مهدي بيسواس) بأنه “مدير الإعلانات” يعيش في بنغالور، الهند. وكان @ShamiWitness أحد المصادر الموثوقة و “ثروة من المعلومات” عن داعش وسوريا، وذلك وفق العديد من الشركات الدعائية والمدونين البارزين “المعتمدين والمستقلين” مثل إليوت هيغينز (ويعرف أيضًا باسم براون موسى). وقد تم توجيه اتهامات لهذا “الخبير” السابق في شؤون داعش بالهند منها “دعم منظمة إرهابية، وشنّ حرب ضد الدولة، وأنشطة غير قانونية، والتآمر والفتنة وتعزيز العداء”.
وفي مثال آخر على تلاعب وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، في أوائل عام 2011، ومع بداية الحرب على سوريا، برزت مدونة عُرفت آنذاك باسم ” Gay Girl in Damascus ” كمصدر رئيسي للمعلومات والتحليلات حول الوضع في سوريا. صحيفة الجارديان، بين وسائل الإعلام الأخرى، أشادت بها ووصفتها بأنه “بطلة الثورة” التي “تستحوذ على خيال المعارضة السورية من خلال مدونة لها تأثير حقيقي على الساحة السياسية في الوقت الذي تناضل فيه حركة المعارضة في مواجهة حملة الحكومة الوحشية.” ومع ذلك، في يونيو عام 2011، تمّ الكشف عن هوية تلك الفتاة باعتبارها خدعة، مجرد اختلاق مفبرك من جانب الصحفي الأمريكي توم ماكماستر. وبطبيعة الحال، نفس المنابر الإعلامية التي قد أشادت بحساب تلك الفتاة كمصدر شرعي للمعلومات عن سوريا، تراجعت على الفور وتنصلت من مدونتها. ومع ذلك، مازالت السردية أحادية الجانب عن القمع الوحشي والإجرامي للنشطاء المحبين للسلام في سوريا مستمرة حتى الآن. وبالرغم من أن هذا قد فقد مصداقيته، ظلّت السردية راسخة.
وهذه النقطة الأخيرة هي ربما النقطة الأهمّ؛ إذ أن الهدف من التلاعب عبر الإنترنت هو السيطرة على السرديات. في حين أن الحرب تُخاض في ساحة المعركة، فإنها تُخاض أيضًا من أجل كسب قلوب وعقول الناشطين ومستهلكي الأخبار، والمواطنين العاديين في الغرب. تمتلك المملكة المتحدة والولايات المتحدة قدرات واسعة في حرب المعلومات، ولا تخشى أي دولة استخدام تلك القدرات. ولذلك، ينبغي ألّا نخاف من فضحهما.