ما الخطأ الذي حدث في “النموذج التركي؟
7 أيار (مايو - ماي)، 2016
نيويورك تايمز –
قبل نحو خمس سنوات، كان الجميع يتحدث عن “النموذج التركي”. كان الناس في الغرب وفي العالم الإسلامي يروا تركيا كمثال ساطع على مدى توافق الإسلام والديمقراطية. وحظي رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيسا للوزراء آنذاك، بالإشادة والثناء ووُصِف بأنّه الإصلاحي الذي جعل بلاده أكثر حرية، وأكثر ثراءً وأكثر سِلمًا.
في هذه الأيام، أفكر في تلك الأوقات بحنين وندم. لقد أفسح خطاب الانفتاح الليبرالي المجال للسلطوية، وانهارت عملية السلام مع القوميين الأكراد، والحريات الصحفية آخذة في التراجع والهجمات الإرهابية آخذة في الارتفاع.
ما الخطأ الذي حدث؟ الأردغانيون (أنصار أردوغان) لديهم جواب بسيط: إنّها مؤامرة. عندما جعل أردوغان من تركيا دولة قوية ومستقلة، بدأت الجماعات الشريرة في الغرب ومنها “العملاء” الخونة في الداخل حملة لتشويه الديمقراطية في تركيا. لكنهم لا يدركوا، بطبيعة الحال، أن هذه البروباجندا المهووسة بالمؤامرة والاستقامة الذاتية التي تعكسها والكراهية التي تغذيها هي جزء من المشكلة.
لكي نفهم لماذا خذلنا النموذج التركي، علينا أن نعود إلى تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001. في ذلك الوقت، كانت تركيا تحت سيطرة الجنرالات العلمانيين الذين ينقلبون على أي حكومة لا يتمكنوا من السيطرة عليها. وفي عام 1997أطاح جنرالات الجيش التركي بحكومة الحزب الإسلامية، ومن ثمّ وضع مؤسسو الحزب الجديد رؤية ما بعد إسلامية، وأعلنوا التخلي عن عقيدتهم القديمة. كانت أولوياتهم هي انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وتحريك البلاد نحو الديمقراطية الليبرالية.
هذا لم يكن جيدًا فحسب، بل نجح لفترة من الوقت. في أول ثماني سنوات في السلطة، أجرى حزب العدالة والتنمية مجموعة من الإصلاحات الليبرالية وتبنى خطابًا ليبراليًا جديدًا. المشكلة الأساسية في تركيا، كما أوضح الحزب، كانت دولة متعجرفة داست على حقوق المواطنين. وكان لا بُدّ من فهم جماعات المعارضة، مثل الحركة القومية الكردية، على أنها ردود فعل على السلطويّة، وليست مؤامرات من الخونة أو الإمبرياليين، وأنَّ الاستقرار سيأتي من توفير المزيد من الحقوق والحريات. ونتيجة لذلك، أصبح حزب العدالة والتنمية محبوب العواصم الغربية والليبراليين الأتراك، وأنا من بينهم.
لكن القصة لم تنتهِ. بعد أنا حقق حزب العدالة والتنمية انتصارات كبيرة في استفتاء الدستور عام 2010 وفي الانتخابات في عام 2011 – ونجح في إخضاع الجيش – تضاءل الخطاب الليبرالي للحزب وظهرت النزعة المحافظة الاجتماعية. ثمّ ازداد الوضع سوءًا. عندما شعر حزب العدالة والتنمية بنوع من التحدي لقوته في عام 2013، من خلال الاحتجاجات الشعبية وبعد ذلك من خلال تحقيقات في قضايا الفساد التي اعتقد كثيرون، وأنا منهم، أنها كانت بدوافع سياسية، تبنى الحزب العادات السلطوية التي اعتاد على معارضتها في السابق. لقد تحوّل المعارضون إلى أعداء لا بُدّ من سحقهم. وأثبتت رؤية حزب العدالة والتنمية عن الديمقراطية أنها مجرد طغيان الأغلبية. كما تمّ إقصاء أولئك الذين حاولوا البقاء أوفياء للمبادئ التأسيسية الليبرالية، بما في ذلك عبد الله جول.
يرى العلمانيون في تركيا مؤامرة إسلامية وراء ذلك: لقد أخفى حزب العدالة والتنمية “وجهه الحقيقي” حتى الوقت المناسب. ولكني أعتقد أن التغييرات التي طرأت على الحزب تضمنت التخطيط بدرجة أقل، ومبادئ أقل كذلك. اعتمد حزب العدالة والتنمية الخطاب الليبرالي بمقتضى الضرورة، دون التفكير أو حتى المرور بتحول أيديولوجي حقيقي. بمجرد وصول الحزب إلى السلطة، أغوتهم تلك السلطة وأفسدتهم وسمّمت أفكارهم. لقد وجدت الكوادر والفئات التي تحتشد الآن وراء أردوغان الثروة والهيبة والمجد للمرة الأولى في حياتهم. ويبدو أنهم عازمون على عدم خسارتهم لكل ذلك، بغض النظر عما يعنيه ذلك للديمقراطية التركية.
ولكن لأنَّ حزب العدالة والتنمية فشل كنموذج للإسلامويّة الليبرالية فهذا لا يعني بالضرورة أن كل الإسلاميين يهدّدون الديمقراطية الليبرالية. وتبيّن التجربة التونسية هذا بوضوح؛ إذ أثبت حزب النهضة الإسلامي ليس فقط شعبيته وتفوقه ولكن أثبت أيضًا أنّه حزب تصالحيّ. ونتيجة لذلك، استطاع التونسيون قبول دستور ليبرالي مع توافق وطني واسع النطاق، وهو الأمر الذي يبدو وكأنه حُلم بعيد المنال بالنسبة لنا نحن الأتراك. ربما أحد أسرارهم هو أن راشد الغنوشي، مؤسس حزب النهضة و “الزعيم الفكري،” هو قائد ذو مبدأ أكثر من كونه سياسي مكيافيلي.
لكن لا شيء من هذا يعني أن تركيا يجب أن تبتعد عن الغرب، أو أنَّ الغضب من أردوغان وحزبه ينبغي ألّا يؤدي إلى افتراض أن تركيا مخطئة دائمًا أو أنَّ خصومها محقون على الدوام. في ظلّ حكومة أردوغان، ساعدت تركيا اللاجئين السوريين أكثر من أي بلد آخر. ويجب أن تعترف الدول الغربية بهذا وتقدّم الدعم. كما أنَّ المخاوف التركية من الانفصاليين الأكراد لها أسباب حقيقية، كما تجلى ذلك بعد التفجيرين الانتحارين في أنقرة والذي أعلن مسلّحون أكراد مسؤوليتهم عنهما.
وعلاوة على ذلك، المشكلة الأساسية في تركيا ليست مجرد سلطويّة حزب العدالة والتنمية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، ولكن الثقافة السياسية العدائية والمسببة للخلاف التي عمل حزب أردوغان على ازدهارها. نحن “دولة ممزقة” لم تحقق السلام حتى الآن، وأخشى أننا لن نبرأ قريبًا. وفي حين أنَّ أردوغان ربما يكون المناور الأخير لهذه الدراما، إلّا أنَّ جميع الأطراف السياسية الفاعلة الأخرى تتحمل المسؤولية.
لكي تصبح تركيا “نموذج” حقيقي، ناهيك عن ضمان السلام في بلدنا، نحن بحاجة إلى اتفاق الأتراك على القيّم الليبرالية التي روّج لها حزب العدالة والتنمية في السابق: لا يوجد أعداء داخل أمتنا، بل مواطنين لهم وجهات نظر مختلفة، وجميعهم يستحقون الحقوق والحريات على قدم المساواة، في دولة معتدلة مهمتها ليس إملاء الأوامر بل خدمة الشعب.