‘حسن الترابي: ثورة على تصورات التقليد و على قواعد الإسلام السياسي’

8 مايو، 2016

قال الشاعر هيني متحدثًا عن الفيلسوف إيمانويل كانط “إن من أصعب الصعوبات أن تكتب لكانط سيرة ذاتية لحياته، لأنه لا حياة له ولا ترجمة لحياته لأنه آلة مفكرة”، ما يقصده الشاعر أن كانط لم يمت عندما انتهى أجله لأن أفكاره الفلسفية قدمها على شكل منهج سماه المنهج النقدي استمرت من بعده، حتى إن فلسفة القرن التاسع عشر والغالب من فلسفة القرن العشرين كما وصفها يوسف كرم ما هي إلا موجات سطحية لتيار الفلسفة الكانطية، وكذلك الحال مع أغلب العلماء والمفكرين الذين أعطوا البشرية نظريات ومناهج؛ فنيوتن سيظل حيًا ما دامت نظريته عن الجاذبية الأرضية باقية، وأينشتاين حيًا مادامت نظريته عن النسبية باقية، وكذلك الحال مع أرسطو ما بقيت الفلسفة ومع ماركس ما بقيت الشيوعية ودوركاييم ما بقي علم الاجتماع والأئمة الأربعة ما بقي الفقه الإسلامي التقليدي والشاطبي ما بقي فقه المقاصد و…. .

لا شك أن الدكتور حسن الترابي أطلق ثورة في العقل الإسلامي عندما قام بالدعوة إلى تجديد أصول الفقه الإسلامي وعندما كتب كتاب “المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع” وعندما أفصح عن رؤيته التجديدية في الفكر السياسي بكتاب “السياسة والأحكام السلطانية” وفي الفكر التنظيمي بكتاب “الحركة الإسلامية في السودان” وفي تفسير القرآن الكريم بكتابة “التفسير التوحيدي”، وأيضًا أطلق ثورة دستورية كبرى بكتابة دستور 1998م وهو أول دستور تكتبه حركة إسلامية عربية وكل المحاولات التي سبقت دستور الترابي والتي تلته كانت محاولات لكتابة تعديلات دستورية أو لنقل نصوص من الكتب التراثية وتجميعها على شكل دستور، لكن كل هذه المحاولات لم ترق لكتابة وثيقة دستورية كاملة سرعان ما أجهضها الخلاف بين الرئيس البشير والترابي على صلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات البرلمان، وكل هذا دفع صاحب كتاب “المصطلحات السياسية في الإسلام” أن يعنون في كتابه متحدثًا عن مدرسة سماها المدرسة الترابية في الفكر الإسلامي.الترابي بين الشورى والديمقراطيةأبرز مميزات الترابي على الإسلاميين أنه كان يعتقد أن الشورى هي الديمقراطية، وهذه النقطة بالغة الأهمية فحتى من قبلوا الدمقرطة من الإسلاميين لم يقبلوها إلا في إطار حكم المضطرين وكانوا دائمًا ما يشبهون الديمقراطية بلحم الميتة وكان هذا مما يخالفهم فيه الترابي (رغم أن الترابي كما ادعى أكل لحم الميتة بانقلابه على الديمقراطية)، فالترابي يرى الديمقراطية النيابية بشكلها المعاصر هي السبيل الوحيد لتشكيل الإجماع الذي تتحدث عنه كتب أصول الفقه، وأن الإجحاف حصر الشورى بين العلماء أو ما يسمونهم بأهل الحل والعقد، وأن الشورى لكي تتحقق يجب أن تكون شاملة بحيث تشمل جميع المسلمين وهذا ما تحققه الديمقراطية الحديثة، وأن الشورى في القرون الماضية كانت متعذرة بسبب اتساع رقعة الأراضي الإسلامية وعدم وجود آليات المواصلات الحديثة، وأن الكتاب والسنة جعلا الشورى مطلقة لكل المسلمين وملزمة للحاكم تجبر رسول الله أن يخرج ليقاتل في أحد متبعًا رأي الشورى ومخالفًا هوى نفسه من قتال القرشيين في أحياء وأزقة المدينة المنورة.الترابي والتفريق بين رجال الدعوة ورجال الدولةمن أكثر ما يتميز به حسن الترابي عن غيره من قادة الحركات الإسلامية هو فصله الكامل بين الدعوي والسياسي، حيث إن الاختيار واعتلاء المناصب في الدولة والحركة عند حسن الترابي يكون للأكثر كفاءة وللأقوى وليس للأكثر تقوى، وهذا الأمر عجيب، فهل هذا تأثر من الترابي بالفقه المالكي السائد في السودان والذي يرى تقديم العالم بأحكام الصلاة على العالم بقراءة القرآن؟ أم تأثر بنيكولا ميكافيلي صاحب نظرية أن المتدينين الصالحين لا ينفع وجودهم في الدولة وإن كان يفيد في الكنيسة لأنهم يقدمون نصوص الدين على مصلحة الدولة والتي تحتاج لرجال يتخلقون بأخلاق الثعالب ويستعدون لنقض أي عهد وميثاق إذا وجدوا مصلحة للدولة؟ أم أنه تأثر بهربرت سبنسر صاحب مبدأ البقاء للأصلح؟وفي العموم ففكرة الترابي صحيحة مهما كان مصدرها لأن التقي إذا ما صعد إلى السلطة يمكن أن يخدعه عسكري ببعض التباكي في الصلاة، ولكن من العسير أن يخدع الثعلب الثعلب، وفي هذا الأمر تروى قصة طريفة عن الشيخ حسن الترابي – رحمه الله – أنه بعدما خرج من السجن عقب تمثيلية اعتقاله بعد نجاح انقلاب عمر البشير في 1989م، جمع قادة الحركة الإسلامية في السودان ثم ألقى بينهم موعظة دمعت لها أعينهم ثم أعطى لكل منهم مصحفًا وفي نهاية الجلسة أصدر قرارًا بعزلهم أجمعين لأنهم رجال دعوة وليسوا رجال دولة، والفترة القادمة فترة تمكين تحتاج رجال دولة، وعين في أماكنهم من أعتقد أنهم رجال دولة!ورغم كل هذه الاحتياطات تم تجريد الترابي من كل شيء في الرابع من رمضان 1420هـ، حيث إن الثعلب مهما بالغنا في ذكر عبقريته لا يحتمل لكمات الأسد ولأن الغابة لن تقبل بثعلب يحكمها أبدًا حتى إن تظاهر سكان الغابة وأسودها بالطاعة فإنهم سيهللون لأول أسد ينقلب على حكم الثعلب.الترابي وإيجاد سياسة برجماتية إسلاميةلا أعتقد أن هناك سياسي إسلامي استعمل قاعدة أينما تكون المصلحة فثم شرع الله مثل حسن الترابي، ولذلك كان دائمًا ما يقيم تحالفاته على أساس المصالح المشتركة  ولذلك لم يعادِ الشيخ حزبًا أو تيارًا أو شخصًا عداوة أبدية، حتى إن الرئيس البشير عدوه المفترض تصالح معه قبل وفاته بأشهر لأنه وجد أن له مصلحة مباشرة في التصالح مع الرئيس البشير كما كانت له من قبل مصلحة في معاداته، ولذلك فلم يكن الشيخ – رحمه الله – يعرض أي خدمات مجانية لخصومه السياسيين أو حتى لحلفائه الأيدلوجيين من الإسلاميين، فدعم العسكري إدريس ديبي ليصل إلى الحكم في تشاد ولم يدعم حركة إسلامية تشادية على سبيل المثال، وكذلك دعم الجبهة الشعبية الإرترية ذات التوجه اليساري ولم يدعم إخوان إرتريا، لأن الأمر ببساطة أن التيار الإخواني في تلك البلاد ضعيف جدًا والترابي لم يكن يحب التحالف إلا مع الأقوياء ليتقوى بهم لا أن يدعم الآخرين ليتقووا به، وهذا لا يعني أن الترابي لم يأو المطاردين من الإسلاميين إلا أن هذا الإيواء لم يتحول إلى دعم إلا لو كان هؤلاء الإسلاميين يملكون شيئًا على الأرض، وهنا موضع خلاف رئيسي مع الحركات الإسلامية الأخرى؛ فالترابي وهو يدعم أي حركة أو معارضة كان يضع نصب عينيه المصلحة العائدة للدولة السودانية لا مصلحة الحزب والتيار الذي يمثله وكان رجلاً لم تكن العواطف تقوده أبدًا.