كيف يمكن هندسة «أزمات اللاجئين» وتحويلها لأسلحة شاملة؟
8 مايو، 2016
ربما تظن ـ بعد قراءة العنوان ـ أن ما يلي يتعلق بلاجئي سوريا فقط، وأزمتهم في أوروبا، سيكون هذا الظن غير صائب قليلًا، هذه فصول قصة حقيقية، أبطالها لاعبون عديدون من مختلف أنحاء الأرض: «الولايات المتحدة»، «أوروبا»، «المجر»، «الاتحاد السوفيتي»، «سوريا»، «مفوضية الأمم المتحدة العليا لشئون اللاجئين»، ومنظمات أخرى، وبعض علماء جامعة «هارفارد»، وبعض متخصصي «علم النفس والاجتماع»، و«معمر القذافي»، وآخرون، قصةٌ يرويها العالم بأكمله تقريبًا، وستنتهي منها وأنت تعرف يقينًا جواب سؤالٍ ـ ربما ـ لم تفكر فيه من قبل «هل يمكن تحويل أزمات اللاجئين لأسلحة استراتيجية شاملة؟» مدرسة الاتحاد السوفيتي
لم يشعر أغلب الطلبة والعمال المجريين بأي تغيير قادم في أي شيء، العام 1956، ولم تزل قبضة السوفييت الحديدية تسيطر على «المجر» بشكل كامل، وربما تنفس «الهنغاريون» الصعداء، بعد وفاة الزعيم الحديدي «ستالين» في 1953، وظنوا أن المناخ العام سيلين كثيرًا، وأنهم سينالون حريتهم من القبضة السوفيتية، إلا أن خليفة ستالين، «نيكيتا خروتشوف»، جاء ليقضي على كل هذه الظنون، وقام بإثبات سيطرة السوفييت على الدولة المجرية، فأجبر رئيس الوزراء «ماتياس راكوسي» على الاستقالة، في يوليو (شباط) من عام 1956، في رسالة ضمنية إلى الشعب المجري، أن القبضة الشيوعية مازالت كما هي، وليبدأ ـ من حيث لا يدري ـ الشرارة الأولى، المفضية إلى الثورة المجرية.
في 23 أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام، قامت الثورة، وانساب العمال، وطلبة الجامعات إلى شوارع العاصمة «بودابست»، ومع تراكم أزمات عديدة، كنقص الوقود، وموسم زراعي بالغ السوء، ونقص المواد الغذائية، بالإضافة إلى قمع الشرطة السرية السوفيتية المتصاعد، فيما بعد ستالين، انضم الشعب إليهم؛ لتصبح ثورة عارمة، وأعلن العمال والشباب عريضة مطالب من 16 نقطة، تشابهت مع ما طالبت به «بولندا» قبلها، وتحقق بالفعل، ثورة، ومطالب، حاول خروتشوف امتصاصها، بتعيين حكومة «ليبرالية» صورية هناك، بقيادة رئيس الوزراء «إيمري ناجي»، وسحب «الجيش الأحمر»، وسمح لإيمري بإتاحة إنشاء الأحزاب السياسية مرة أخرى، وأطلق سراح المعتقل الأكثر شهرة في المجر، والأكثر انتقادًا، ومعارضة للنظام الشيوعي، «الكاردينال ميندزينتي»، وبدا وكأن كل شيء يسير في مصلحة «الهوليجانز»، اللقب الذي أطلقته وسائل الإعلام الروسية على الثوار.
بعد أسبوع واحد من قيام الثورة، وفي 31 أكتوبر (تشرين الأول)، استنفر إيمري ليبراليته، وأعلن أن المجر ستنسحب من حلف «وارسو» العسكري، قرار أثار جنون «السوفييت»، فقرروا إنهاء الثورة بأي شكل، وأعلن وزير الخارجية «يانوس كادار» اشمئزازه من القرار، ثم استقال؛ مشكلًا حكومة موازية في شرق المجر، بدعم سوفيتي عسكري، وفي 4 نوفمبر (تشرين الثاني) عاد الجيش الأحمر إلى «بودابست»، وأرسل «خروتشوف» مئات الدبابات؛ لعزل نظام إيمري، واستعادة السيطرة، وسَحْق الثورة، وهو ما نجح فيه بالفعل؛ لفارق القوة العسكرية الهائلة، وبعد أيام قليلة من المناوشات، وحروب الشوارع، تفوقت الدبابات، وقتل السوفييت قرابة الـ 30 ألف مجري، وألقوا القبض على إيمري ناجي؛ ليحاكم محاكمة سريعة، ثم يُعدم، وقبل 14 نوفمبر (تشرين الثاني) كان كل شيء تحت سيطرة السوفييت المطلقة مرة أخرى.
كان السوفييت ـ في هذا الوقت ـ القوة العظمى الوحيدة، والنووية، بجوار الولايات المتحدة، فضلًا عن اتساع مساحتها البالغ، واكتفائها الاقتصادي التام، وربما بدا ذلك مانعًا لأي تصرف جدي من أية دولة أمام تلك المذابح، لكن السبب الأهم هو هندسة السوفييت لسلاح أزمات اللاجئين بحرفية تامة.
بدأ هروب المجريين للنمسا المجاورة قبل 14 نوفمبر (تشرين الثاني) من 1956، عام الثورة، وفي البداية كانت الأعداد قليلة؛ إذ لجأ للنمسا، من اليوم الرابع، وحتى السادس من نفس الشهر، 10 آلاف مجري، ولو أراد السوفييت، لسيطروا على الحدود الغربية، ومنعوا المجريين من العبور إلى النمسا، لكنهم فعلوا عكس ذلك، وأرخوا قبضتهم الأمنية تمامًا، وبالتالي تضاعف عدد اللاجئين والهاربين من جحيم المجر باستمرار. وفي نهاية السادس من نوفمبر (تشرين الثاني)، أصبح العدد 36 ألفًا، ثم بنهاية الشهر تضاعف عدد اللاجئين أكثر من ثلاث مرات، وصولًا إلى 113 ألفًا، ثم قرر السوفييت إغلاق الحدود، بعد أن وصل العدد إلى 200 ألف لاجئ، منهم 180 ألف في النمسا، و20 ألف فقط في يوغوسلافيا.
كان استخدام السوفييت لتدفق اللاجئين محكمًا، فمن ناحية، مثّل كل ذلك العدد ضغطًا شديدًا على النمسا ومواردها، والتي تعتبر بدورها منفذًا مباشرًا للقسم الأمريكي في ألمانيا ما بعد الحرب، ومن ناحية ثانية، كان العدد قنبلة «ديموغرافية» على وشك الانفجار في أية لحظة، ومن ناحية ثالثة، فقد خففت أزمات اللاجئين من أي ضغط دولي قد تقوده الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي، بعد المذابح، ورابعًا، فإن السوفييت استفادوا ـ بشكل غير مباشر ـ من تقلص كتلة الثورة المجرية الحرجة.
دانت السيطرة للسوفييت في المجر ثلاثين عامًا أخرى، وحتى انهيار القوة العظمى في نهاية الثمانينات، بينما قادت المنظمة الوليدة «مفوضية الأمم المتحدة العليا لشئون اللاجئين» (UNHCR) إحدى أكبر عمليات توطين اللاجئين في التاريخ، لتعيد توزيع 180 ألف لاجئ، بمساعدة النمسا، وبعض المنظمات الأخرى، على 37 دولة مختلفة، منها «الولايات المتحدة» التي نالت نصيبها بـ 40 ألف لاجئ، وخرجت بعض الشائعات غير المؤكدة، والأقرب إلى نظريات المؤامرة، قائلة بأن «الاتحاد السوفيتي استفاد من العدد الهائل للاجئين، واستطاع زرع بعض العملاء، ليتغلغلوا أثناء إعادة التوطين في المجتمعات المختلفة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولتكون أزمة المجر هي أزمة اللاجئين الرابعة في التاريخ الحديث، والأولى التي تنجح في تحقيق أهداف مطلقيها الاستراتيجية، بشكل شبه تام».
سلاح أزمات اللاجئين
هل يمكن استخدام أزمات اللاجئين كنوع خاص جدًا من الأسلحة؟ وهل يقتصر استخدام هذا السلاح على أوقات الحروب فقط أم يمكن استخدامه في أوقات السلم؟ وما مدى نجاح استخدام الحكومات والأنظمة لسلاح كـ«التهجير القسري»؟
هذه الأسئلة الثلاثة كانت محور كتاب «كيلي جرينهيل»، باحثة العلوم السياسية الشهيرة في مركز «بيلفر للعلوم والشئون الدولية»، بجامعة «هارفارد»، والمتخصصة في الأمن الدولي والدراسات الأمنية والحروب الأهلية، والكاتبة في «نيويورك تايمز» و«فورين أفيرز» و«لوس أنجلوس تايمز». ومن المهم ذكره هنا أن «كيلي» ليست أستاذة جامعية تقليدية، وإنما تتمتع بثقل «أكاديمي» بالغ في دراسات الصراع، فضلًا عن عملها السابق في مؤسسة «فورد» الشهيرة، ذات العلاقات الوطيدة بالمخابرات المركزية، وعملها أيضًا في وزارة الدفاع الأمريكية، ومفوضية اللاجئين.
في كتابها الذي فاز بجائزة كتاب العام في 2011، من جمعية الدراسات الدولية، وهي الأهم في المجال الأكاديمي للشئون العالمية، والمعنون بـ«أسلحة الهجرة الشاملة»، أجابت «كيلي» على السؤالين الأوليين بالإيجاب، وأثبتت ـ بشكل تاريخي ـ أن اللاجئين استخدموا ـ بالفعل، عشرات المرات ـ كأسلحة «ديموغرافية» شديدة التأثير، وأن سلاح أزمات اللاجئين يستخدم في أوقات السلم أيضًا، ثم أوضحت أن مدى نجاح الأنظمة في استخدام اللاجئين كبير بالفعل.
يمكن تعريف «هندسة الهجرة القسرية» بأنها نزوح سكاني جماعي، عابر للحدود، يتم إنشاؤه من الصفر عن عمد أو التلاعب به، من قبل نظام حاكم ما؛ لأغراض مختلفة، كالحفاظ على استمرارية هذا النظام في الحكم، كما في المثال السوفيتي السابق، أو للحصول على مكاسب اقتصادية، أو تنازلات عسكرية أو سياسية من الدولة / الدول المستهدفة من قبل ذلك النظام، ولعل أحد أوضح الأمثلة على ذلك ما فعله الجنرال «عيدي أمين دادا»، الشهير بـ«آخر ملوك اسكتلندا».
مثلت حقبة «عيدي أمين» إحدى أسوأ الحقب «الديكتاتورية» العسكرية في التاريخ الحديث، الرجل الذي حكم «أوغندا» بالحديد والنار، والمعروف لدى الكثيرين؛ من خلال الفيلم المؤرخ لقصة حياته، والمعنون بـ«آخر ملوك اسكتلندا». في فترة حكمه قتل عيدي قرابة «نصف مليون شخص»، لكن ما يهمنا هنا، هو بداية فترته في 1972؛ عندما أصدر قرارًا، عده الكثيرون ثوريًا؛ بطرد جميع الآسيويين العاملين في أوغندا، ومصادرة جميع ممتلكاتهم، قبلها بعقود طويلة كان عدد كبير من الهنود، يقدرون بعشرات الآلاف، قد أتوا مع الاحتلال البريطاني، عندما كانت أوغندا مستعمرة إفريقية للإمبراطورية، وأسسوا أعمالًا واسعة ربحية؛ ليصبحوا متحكمين بعد سنوات، في جزء لا يستهان به من الاقتصاد الأوغندي.
عندما صعد عيدي أمين على رأس السلطة؛ بانقلابه العسكري في 1971، كان الجيش الأوغندي يتلقى مساعدات مالية عسكرية ضخمة من بريطانيا، بعد الانقلاب قامت لندن بقطع تلك المساعدات تمامًا، ولأن المساعدات بالغة الأهمية، فكر الجنرال في استخدام «هندسة التهجير القسري»، ما اصطلحت كيلي على تسمية العملية به، وقام بإمهال جميع آسيويي أوغندا بمغادرة البلاد في خلال 90 يومًا من قراره، وهي الفترة غير الكافية لتصفية أعمالهم المتشعبة، ما يعني خسائر فادحة لهم.
روج عيدي للقرار على أنه ثورة إصلاحية لصالح الشعب، وتأميم اقتصادي لممتلكات الأجانب، لكن الحقيقة أن التهجير القسري كان غرضه لَيّ ذراع بريطانيا؛ لأنه، ومن ضمن عشرات الآلاف المغادرين لبلاد أخرى، كان هناك 50 ألف هندي يحملون جنسيات بريطانية؛ ما يعنيه هذا، من ضغط على الحكومة البريطانية؛ لإعادة المساعدات العسكرية، ومن ثم إبقاؤهم في أوغندا. لعبة مكررة وصفتها كيلي بـ«أبعد ما يكون عن التفرد»، وتعاملت معها بريطانيا بشكل ذكي، وامتصت موجة اللاجئين الهنود، ووطنت الـ50 ألف فيها، مع استمرارها في الضغط على نظام عيدي، الذي فشل في إعادة تدفق المساعدات مرة أخرى.
بدأت هندسة أزمات اللاجئين في الذيوع، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بعد توقيع اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين، عام 1951، والتي حددت تعريفات مفصلة للاجئين وحقوقهم، ومسئوليات الدول التي سوف تستضيفهم، ومنذ عام الاتفاقية، وحتى لحظتنا هذه، شهد العالم، على الأقل، 56 أزمة تهجير قسري، تمت هندستها لصالح أغراض اقتصادية وسياسية وعسكرية، بالإضافة إلى ثماني حالات أخرى، لم يبت في أمرها، لتدخل تحت التصنيف العام، أي أننا نتحدث عن محاولة تهجير واحدة كل عام تقريبًا، حتى منتصف العقد السابق، وبدون احتساب أزمات لجوء ما بعد بداية العقد الحالي، وعلى رأسها الأزمتين «السورية» و«النيجيرية».
«معمر القذافي» وشركاؤه
مثل حضور «العقيد معمر القذافي» للقمم العربية السنوية، قبل أن يُعدم في خضم الثورة الليبية، حدثًا فريدًا لخطاباته التي كان يلقيها أمام القادة العرب، والعالم العربي بطبيعة الحال، خطابات جريئة وحادة ومباشرة وفكاهية، مزيج لم يمتلكه أي حاكم عربي آخر. من بين هذه الخطابات، وفي قمة دمشق 29 مارس (أذار) من عام 2008، وقف القذافي محدثًا الحكام العرب المجتمعين عن كراهية بعضهم لبعض، وعلاقاتهم الثنائية المتوترة، ثم قال جملة عابرة عن أن علاقة «ليبيا» بـ«إيطاليا» «أفضل ألف مرة» من علاقتها بـ«مصر» أو «تونس» كجيرانها، هذه العلاقة التي تقرع جرس فصلٍ، بطله القذافي نفسه.
منذ عام 2004، وتحديدًا بعد اللقاء الشهير لرئيس الوزراء البريطاني، «توني بلير»، مع «القذافي» قرب العاصمة «طرابلس»، تغض أوروبا الطرف تمامًا عن حكم العقيد «الديكتاتور»، وانتهاكات حقوق الإنسان هناك، صمت استمر حتى في ذروة الثورة الليبية، في فبراير (شباط)، إلى أبريل (نيسان)، من عام 2011، و«المجازر» العسكرية التي ارتكبها نظام القذافي ضد الليبيين، صمت قابلته انتقادات أوروبية واسعة النطاق؛ لأحداث أقل أهمية، ولا تقارن في عنفها بليبيا، كاحتجاجات «البحرين» في نفس العام مثلًا.
كان العامل الأكبر في هذا الصمت، الذي استمر طيلة العقد السابق، هو النفط، وصفقات الشركات الأوروبية في ليبيا، لكن هذا ليس السبب الوحيد، هناك سبب آخر مهم، توضحه تصريحات عديدة للقذافي، تصريحات لم تخرج عن انتظار أوروبا «السوداء»، أو تحول «البحر الأبيض المتوسط» «لبحر من الفوضى»، كان قادة أوروبا، وتحديدًا «إيطاليا»، يعون الأمر جيدًا، القذافي قادر على تحويل أوروبا لسيرك بالغ الضخامة، به مئات الآلاف من اللاجئين الذين لن تستطيع القارة العجوز السيطرة عليهم، باختصار: كان الرجل يمسك بفتيل قنبلة ديموغرافية شديدة القوة.
في العقد السابق دفعت أوروبا مبالغًا كبيرة، تقدر بمئات الملايين من «اليوروات»، لنظام القذافي؛ للمحافظة على حدود قوية، ولمنع تسرب اللاجئين لشواطئ «إيطاليا» الجنوبية، إيطاليا التي واصلت الحفاظ على أفضل علاقات ممكنة مع طرابلس، ولأطول فترة ممكنة أثناء الثورة الليبية، هذه المبالغ أتت في معظمها بشكل نقدي، والبقية منها على هيئة أنظمة مراقبة، ورصد، ومساعدات عسكرية؛ لإحكام السيطرة على الحدود.
في خريف 2004 قام الاتحاد الأوروبي برفع آخر أجزاء العقوبات المتبقية على ليبيا، في اتفاق «بروكسل- طرابلس» المعروف، الاتفاق الذي تم ضمنيًا بتهديد القذافي بإرخاء قبضته على الحدود الشمالية، وحتى حينه، قدر العدد الذي فر لاجئًا لجنوب إيطاليا، وتحديدًا جزيرة «لامبيدوسا»، بقرابة تسعة آلاف ليبي وإفريقي، منهم 1600 في شهر توقيع الاتفاقية فقط، وربما بدا ذلك العدد ضئيلًا، لكن الاتحاد الأوروبي عرف حجم التهديد، وقدرت الأعداد التي يمكن أن تلجأ لأوروبا، في أية أزمة لاجئين منفجرة، بمليون إنسان على الأقل.
استخدم القذافي سلاح اللاجئين ـ بشكل رئيس ـ ثلاث مرات، في 2004 و2006 و2008 على الترتيب، ونجح بالفعل قبيل اندلاع الاحتجاجات التونسية، ما اصطلح عليه بـ«شرارة الربيع العربي»، في الحصول على 50 مليون يورو فورًا، ضمن صفقة مساعدات، وتنقيب نفطي، قوامها 500 مليون يورو، مقابل التحكم في تدفق اللاجئين في الأبيض المتوسط، ليس هذا فحسب، وإنما شهد العقد السابق توقيع اتفاقيات عدة، لمراقبة الحدود بالمعايير الأوروبية، بين ليبيا والاتحاد الأوروبي، اتفاقيات أثمرت عن دوريات بحرية مشتركة بين طرابلس وإيطاليا، وحملات أمنية داخلية على مكاتب التهريب، وإنشاء مراكز احتجاز ضخمة في ليبيا بتمويل أوروبي، يوضع فيها اللاجئون المتسللون لليبيا من أفريقيا، أو الليبيين أنفسهم، ويتم الإفراج عنهم بشكل عشوائي، بينما قضى آلاف آخرون أعوامًا في السجون، ثم تقوم السلطات الليبية بترحيل المفرج عنهم إلى الحدود الليبية السودانية، وتتركهم هناك، أو تقوم بإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية.
عمل هذا النظام بشكل بالغ الجودة، أدى إلى تقليل معدلات الهجرة غير الشرعية، من ليبيا إلى إيطاليا، ثم أوروبا، في عام 2009، وبينما ظل الاتحاد الأوروبي ملزمًا بتوقيعات أعضائه على اتفاقية جنيف في 1951، فإنه لم يتوقف عن تمويل النظام الأمني الليبي، استغلالًا لعدم توقيع ليبيا على الاتفاقية، وبالتالي عدم التزامها بها، مما منح القذافي حرية حركة في قمع اللاجئين بمباركة أوروبية، مباركة لم تمنع «فرنسا» من المشاركة في التحالف الدولي لقصف قوات القذافي، وتمت هندسة أزمة اللاجئين الليبية، بحيث مولت أوروبا مخيمات ضخمة داخل الحدود التونسية، واستوعبت «تونس» ما يقارب الـ 200 ألف لاجئ من أتون الحرب، حسب التقديرات المحايدة، وهي أزمة اللاجئين التي وصفها المفوض الأعلى لـ«UNHCR»، «أنطونيو غوتيريس»، بـ«الكابوس اللوجستي».
الأعداء
تكمن أهمية، وقوة سلاح أزمات اللاجئين، في مرونته الفائقة، مرونة تسمح بتحويله، من سلاح للضغط على حكومات بعينها، إلى سلاح يمكن استخدامه للفتك بتركيبات ديموغرافية، وتغييرها بالكامل، حسبما كانت الأعداد، وحسبما كان استخدام الأنظمة للسلاح.
تلعب عوامل كثيرة دورًا مهمًا في تشكيل، استهداف، واستخدام سلاح اللاجئين، فمثلًا يمكن توجيه منظومة إعلامية بالكامل، قوية وفعالة وذائعة الصيت إقليميًا أو عالميًا، لتوجيه النازحين والفارين إلى دول معينة، فعندما تخرج وسائل الإعلام الأمريكية مثلًا، لتشيد باستضافة ألمانيا للاجئي سوريا، ومع تكثيف حملة من هذه النوعية، فإن ألمانيا ستصبح الخيار الأول للاجئين بطبيعة الحال، مبدأ الترويج السياحي، الذي يمكن اتباعه مع أزمات اللاجئين بحرفية أكبر، وبالطبع لا نقول إن المثال السابق حدث «عمدًا»، لكن المتابع لوسائل الإعلام الأمريكية، أثناء ذروة أزمة اللاجئين العام الماضي، سيجد أن أغلبها ركزت على «استضافة ألمانيا الحضارية» للسوريين، وهو ما لم يكن صوابًا كليًا.
إذن يمكن لدولةٍ توجيه اللاجئين إلى دولة أخرى، ويمكنها إبعادهم عن دول بعينها، ويمكنها أيضًا الضغط على حلفائها الدوليين، والتحكم في «كم» المساعدات المقدم لمخيمات النازحين، والمساعدات والتسهيلات المقدمة للمنظمات المتخصصة في إدارة شئون اللجوء، وعلى رأسها المفوضية العليا للأمم المتحدة، المنظمات التي يمكن اعتبارها «العدو الرئيس» في حروب إدارة سلاح أزمات اللاجئين، ولذلك مازالت بعض الدول تمتنع، حتى الآن، من توقيع اتفاقية حق اللجوء الأممية لعام 1951.
تمثل أيضًا أزمات اللاجئين بيئة ـ شديدة الخصوبة ـ لزرع أو إنماء أو استغلال عناصر معينة، في عمليات عنيفة بداخل الأراضي المستهدفة، وهو السبب الأساسي الذي تقدمه كل دولة، تمتنع عن استقبال لاجئي دولة أخرى وتغلق حدودها، وربما حمل السبب بعضًا من الصحة، إلا أنه أصبح يتخذ كذريعة «شبه زائفة» في التنصل من واجبات استضافة النازحين، وفي إهمالهم بعد استضافتهم لفترات لا تطول، وربما في بعض الحالات يتخذ كمبرر دولي قوي لمعاملة اللاجئين معاملة «غير إنسانية».
وتخبرنا «بروفيسور كيلي» أنه، وعلى مدار السبعة عقود السابقة، نجحت على الأقل نصف محاولات هندسة «سلاح أزمات اللاجئين»، في نيل أهدافها، ولو بشكل جزئي، كأزمة «تايلاند» في 1979، وهدفها دعم سياسي وعسكري، من «الولايات المتحدة» و«الصين»، وأزمة «هايتي» في 1980، البلد الصغير الذي يمثل مع «كوبا» المفتاح الجنوبي للولايات المتحدة، وأزمة «مقدونيا» في 1998، والتي طلبت فيها من «الناتو» مساعدات مالية ضخمة؛ ليستجيب بالفعل، وانتهاءً بالأزمة السورية المستمرة، حتى لحظتنا هذه، والتي نالت فيها «تركيا» مكاسب لا يستهان بها من الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها مساعدات تفوق ستة مليارات دولار، بالإضافة إلى دخول الأتراك لدول الاتحاد، بدون تأشيرة مسبقة.
باستمرار، تنحسر مياه القوة العسكرية المفرطة، البحر الرئيس الذي يسبح فيه الجميع؛ لتبرز جزر أسلحة جديدة من نوعها، أسلحة لا تستطيع أية دولة عابرة استخدامها، وأسلحة تحتاج للكثير من الدقة، والإمكانات التخطيطية والمادية، والذكاء.