الدروس المستفادة من حصار سراييفو في حلب
11 مايو، 2016
واشنطن بوست –
القصف الأخير الذي استهدف مستشفى حلب ينذر بحصار طويل أكثر دموية لأكبر مدينة ومركز تجاري حيوي في سوريا. وفيما يمكن أن تكون نقطة تحول في الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، فإنَّ حصار حلب يشبه بشكل غريب حصار سراييفو في البوسنة. ديناميكيات هذا الصراع (1992-1995) تحمل دروسًا مهمّة لسوريا اليوم، في ظلّ تعثر المحاولات الدبلوماسية لوقف إطلاق النار وتصارع العالم مع قائمة من الخيارات العسكرية غير المرضية.
كان حصار سراييفو أطول حصار لمدينة كبرى في الحروب الحديثة. ومثل النظام السوري، كان لدى صرب البوسنة أفضلية عسكرية كبيرة على مسلمي البوسنة (البوشناق) والمعارضين الكروات البوسنة في الجيش البوسني. ولكن على الرغم من تلك الأفضلية العسكرية، لم يسيطر صرب البوسنة على المدينة. ووصفت ضحايا الحصار بأنّه عمل جبان؛ فحصار المدينة وفرض حرب استنزاف بطيئة خاطر بأقل الخسائر. ومع ذلك، وصف كبار المسؤولين العسكريين البوسنيين الذين تحدثنا إليهم خلال العمل الميداني في الصيف الماضي هذا الحصار الطويل بشكل مختلف: من خلال إلزام أقل عدد ممكن من القوات لإخضاع الجيش البوسني والتركيز الدولي على العاصمة، تمكنوا من تحرير القوات في أماكن أخرى. لم يكن هدفهم، بدعم من صربيا، الاستيلاء على العاصمة في معركة حاسمة فقط.
ولضمان نجاح هذا الأسلوب، كان يجب أن تكون الظروف في سراييفو سيئة بدرجة كافية للفت الاهتمام الدولي، ولكن ليست سيئة لدرجة إجبار المجتمع الدولي على التدخل عسكريًا. لتحقيق هذا التوازن، أشار قادة الجيش البوسني أنَّ صرب البوسنة تركوا عمدًا طرق الإمداد مفتوحة. ولعلّ أبرز مثال كان نظام الأنفاق المعقدة. وأصبحت هذه الشبكة تحت الارض طريقة الجيش البوسني الرئيسية لنقل المواد الغذائية والإمدادات الإنسانية والأسلحة إلى داخل المدينة ومنع سراييفو من التدهور في حالة من الفوضى.
ونحن نرى ديناميكيات مماثلة في حلب اليوم. لقد سمحت القوات السورية حتى وقت قريب بإنشاء “ممرات إنسانية” كطرق إمداد للثوار، وكذلك اختباء أكثر من 200 ألف مواطن في الأحياء الشرقية في حلب. وهذه قد تكون وسيلة متعمدة للحفاظ على حلب في حالة “تجمد” ولكن ليست حالة مدمرة لدرجة التحريض على تدخل عسكري مؤيد للثوار من قوات مدعومة من حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، إذا كانت حلب مصدر تشتيت للانتباه مثل سراييفو، فالسؤال هنا: هل هناك مكان آخر يجب أن يراقبه المجتمع الدولي الآن؟
يحمل حصار سراييفو الكثير من الدروس الاستراتيجية الهامة الأخرى لفهم السياق السوري. أولًا، في سراييفو، لم يكن لدى أي طرف نهج فعّال للقتال في منطقة حضرية كبرى، والوقوع في مواقع ثابتة يذكّرنا بحرب الخنادق أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي لم يستطع أي طرف الخروج من هذا المأزق. ينبغي لنا أن نتوقع الشيء نفسه في حلب، في حال كانت القوات المتحالفة مع النظام السوري تريد تحقيق نصر عسكري سريع وحاسم، وربما لا يمكنهم تحقيقه، حتى مع الدعم الجوي الروسي.
ثمة جانب هامّ في الدفاع عن أي مدينة؛ وهو كيف يتم حشد المواطنين لحماية مناطقهم. في حالة سراييفو، مجموعة صغيرة من جنود الجيش البوسني في المدينة نفسها اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على المواطنين العاديين لحمل السلاح وحماية المدينة. هذه المجموعات المخصصة من المواطنين الجنود تمّ تنظيمها حول الهياكل الاجتماعية القائمة وفي بعض الحالات حول الشبكات الإجرامية السريّة. حلب هي مدينة مترامية الأطراف من التجّار والوسطاء، دون نواة تنظيمية مماثلة للجيش البوسني، ومن غير الواضح ما إذا كانت المناطق التي يسيطر عليها الثوار يمكنها الاستفادة من شبكات مماثلة لحشد المواطنين للصمود أمام حصار طويل.
النقطة الثالثة هي أن صرب البوسنة خاضوا معركة مكلّفة في محاولة للسيطرة على مدينة – فوكوفار في كرواتيا – وأصبحوا أكثر قدرة على تجنب وقوع ضحايا. وبالمثل، خاض الجيش السوري عددًا من المعارك الحضرية الضارية – في حمص وحماه وتدمر، من بين أماكن أخرى – معتمدًا على مجموعة من التكتيكات العشوائية، من الأسلحة الكيميائية إلى البرميل المتفجرة، مع نتائج متفاوتة. ولكن خلافًا لما حدث في سراييفو، لم يكن دافع النظام السوري لمحاصرة حلب هو الخوف من حمل السلاح أو تجنب وقوع ضحايا بل كانت محاولة عقابية تقويمية لتجنب إشراك الكثير من القوات البرية.
الدرس الأخير من سراييفو هو أنَّ وقف إطلاق النار يمكن أن يكون فعّالًا في إنهاء الحصار ولكن يمكن أن يأتي بنتائج عكسية. نجح وقف إطلاق النار في مايو 1992 في مبادلة الرئيس البوسني المختطف علي عزت بيغوفيتش، مقابل عدد من قوات الجيش الشعبي اليوغسلافي الذي كان يحيط بالمدينة. ومع ذلك، أظهر وقف إطلاق النار أيضًا أن قوات الجيش الشعبي اليوغوسلافي لا يمكن أن يكون قوة معتدلة في المدينة، مما أدى إلى زيادة التركيز على بناء الجيش البوسني وما أصبح جيش صرب البوسنة فيما بعد. حتى عندما التعامل مع وقف إطلاق النار بشكل جيد، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تصلب أو تطرف المواقف الحالية. لذلك، يمكن القول إنَّ ديناميكيات مماثلة موجودة اليوم في حلب.
معركة أخرى من حرب البوسنة تقدّم لنا بعض الدروس في هذه المرحلة: معركة موستار. في هذه المعركة، استطاعت أصغر قوة من كروات البوسنة هزيمة قوات صرب البوسنة في عام 1992. ولكن عندما انقلب الكروات ضد مسلمي البوسنة من أجل السيطرة على موستار، انحدر الصراع إلى عنف شديد، وحالة من الجمود لمدة عامين ولم يستطع أي طرف هزيمة الآخر. ونظرًا للمعارضة السورية المنقسمة، يمكننا أن نتوقع ظهور ديناميكيات مماثلة في حال استعاد الثوار السيطرة على مركز حضري رئيسي مثل حلب. الطبيعة المنقسمة للمعارضة السورية تجعل من الصعب تخيّل سيناريو لا تنحدر فيه معركة حلب في مستنقع قتالي محلي.
انتهى حصار سراييفو بعد تدخل المجتمع الدولي وإجبار صرب البوسنة على التفاوض بشأن اتفاقات دايتون عام 1995 في نهاية المطاف. في حلب، تدخل الروس عسكريًا إلى جانب قوات الأسد، ولكن ليس بدرجة كافية لترجيح كفة التوازن المحلي للقوة بشكل دائم. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أننا لا يمكن أن نتوقع تحقيق سلام دائم دون تدخل طرف ثالث ساحق لإجبار الأطراف المتحاربة للجلوس على طاولة المفاوضات. والسؤال هو ما إذا كان هذا الطرف الثالث سيكون روسيا، أو قوات مدعومة من حلف شمال الأطلسي، أو ربما كليهما، للعمل معًا في زواج مصلحة داخل سوريا.
ظاهريًا، الهدف من أي حصار هو تحطيم معنويات العدو والاستعداد للقتال، وليس الاستيلاء على المدينة. في البداية يأخذ الحصار شكل من أشكال الحرب الشعبية أيام الرومان، ويكون الهدف هو استنزاف سكان المدينة ببطء للاستسلام بعد عدم فاعلية الهجوم الأول. وبالرغم من أنَّ التحصينات القوية خلال العصور الوسطى كانت تفضّل الدفاع، كما لاحظ ستيفن فان إفيرا من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تفضل حروب الحصار الهجوم عن طريق أسلحة المشاة من الحديد الرخيص. ولكن في العصر الحديث، فإنَّ زيادة الامتداد العمراني الذي يعمل بمثابة منطقة عازلة جعل حروب الحصار أكثر تحديًا للهجوم. وحتى مع مساعدة من الأسلحة والطائرات الروسية، لم يستطع الجيش السوري طرد قوات المعارضة السورية المتواضعة من مواقعها الراسخة.
بالطبع هناك اختلافات هامّة بين البوسنة وسوريا. حلب استراتيجيًا هي الجائزة الكبرى لمَن يسيطر عليها نظرًا لموقعها على طول مفترق طرق مهمّ للغاية. وعلاوة على ذلك، فإنَّ مقاتلي المعارضة في حلب أكثر انقسامًا ويفتقرون إلى القيادة والسيطرة أكثر من نظرائهم من مسلمي البوسنة. كما أنَّ موقع البوسنة في أوروبا جعلها أكثر عُرضة للتدخل الخارجي، وإعطاء الطرف الثالث المزيد من النفوذ. وأخيرًا، فإنَّ الدمار المادي وتشريد البشر، بالرغم من بشاعته في حالة البوسنة، لم يكن على نفس المستوى كما في سوريا. لا تزال المباني والأحياء في سراييفو في حالة يرثى لها حتى يومنا هذا ولكنها سليمة تقريبًا. في المقابل، تحولت حلب إلى ركام.
ومع ذلك، فإن التاريخ الحديث للحصار يشير إلى وجود حرب استنزاف طويلة في حلب، معركة طويلة الأمد بدلًا من مجرد هجوم استفزازي شامل لإنهاء الحرب بضربة واحدة. وعلى عكس الحصار في العصور الوسطى، فإنَّ التخطيط الحالي للمدن يمكن القول إنّه صالح للدفاع، مما يجعل حرب الاستنزاف أكثر احتمالًا. ونتيجة لذلك، يمكن للحصار المؤجل في حلب أن يستمر لسنوات عديدة، ويؤدي إلى قتل أو تشريد عشرات الآلاف من السوريين.
هاشتاج #حلب_تحترق هو أداة تأطيرية مناسبة لمعركة حلب، ولكنه يتوقع حرق بطيء بدلًا من جحيم مستعر. لدينا خارطة طريق حول كيف يتكشف الحصار في الحروب الحديثة. نجت سراييفو من حصارها، وذلك بفضل تدخل ناجح. لكنَّ مستقبل حلب غير معروف حتى الآن.