في العام الأول بعد توليه منصب رئيس الولايات المتحدة، زار أوباما منطقة الشرق الأوسط، وألقى خطابًا تاريخيًا في جامعة القاهرة لاقى ترحيبًا وتهليلًا لا مثيل له، فصفق له الجمهور مئات المرات، وتحدث هو عن الإسلام والمسلمين، وعن طفولته وعائلته ونشأته في إندونيسيا، وقرأ آيات من القرآن الكريم، بل واعترف بخطايا الولايات المتحدة تجاه بعض الدول الإسلامية، إلا أن أكثر ما جذب الاهتمام في ذلك الخطاب كان وعده بحل القضية الفلسطينية، والتي كانت ولا تزال مركز اهتمام العرب والمسلمين.

سأضع بين أيديكم تسلسلًا لبعض خطابات الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأبدأها بذلك الخطاب التاريخي في جامعة القاهرة في حزيران/ يونيو 2009 حين قال “إن الولايات المتحدة لا تقبل بشرعية استمرار التوسع في بناء المستوطنات الإسرائيلية، إذ إن عمليات البناء هذه تنتهك الاتفاقات السابقة وتقوض من الجهود المبذولة لتحقيق السلام، لقد آن الأوان لكي يتوقف بناء هذه المستوطنات”.

أضاف أيضًا في خطابه ذلك “لا يمكن نفي أن الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه قد عانى الأمرين لإقامة دولته المستقلة، فقد تحمل الفلسطينيون آلام النزوح واللجوء لأكثر من 60 عامًا، ويتطلعون الآن لأن يعيشوا حياة يسودها السلام والأمن”، وأضاف أيضًا “لا ينفك الفلسطينيون يتحملون الإهانات اليومية من قبل الاحتلال، وأقولها بصراحة أن وضع الفلسطينيين لا يطاق، ولكني أقول إن الولايات المتحدة لن تدير ظهرها لتطلعات وآمال الفلسطينيين المشروعة”.

تراجع رويدًا عن تلك الوعود الرنانة والخطابات الشعبوية التي أثارت مشاعر الحاضرين في القاهرة واستمطرت صيحاتهم وتهليلاتهم، ففي خطابه في الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2010 تنازل قليلًا عن أحلامه ووعوده ليقول “بإمكاننا أن نعود هنا، لهذا المكان، العام القادم لنوقع على اتفاقية انضمام عضو جديد للأمم المتحدة، ألا وهو الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة لتعيش بسلام جنبًا إلى جنب مع إسرائيل”.

أما خطابه في آيار/ مايو 2011 فاعتمد لهجة أكثر وضوحًا فقال “نحن نؤمن أن الحدود بين إسرائيل وفلسطيني لا بد أن تعتمد على حدود 1967، بناء على اتفاقيات مشتركة لتبادل بعض الأراضي بين الطرفين”.

وفي نفس الشهر، ويا للمفارقة، صرح في خطاب آخر بـأنه “على الفلسطينين والإسرائيليين أن يتفاوضوا على حدود مختلفة عن حدود الرابع من حزيران/ يوينو 1967”.

أما في خطابه الأممي من العام 2012  فقد ارتكس تمامًا ليقول “أنا أؤمن تمامًا بأنه ليس هناك طريقة مختصرة أو عصا سحرية لإنهاء هذا الصراع الذي امتد إلى عقود، إن عملية السلام مسألة صعبة وتحتاج إلى جهد شاق ومضنٍ، إن السلام لن يأتي من خلال التصريحات والقرارات الأممية إذ لو كان الأمر بهذه السهولة لكانت المسألة منتهية منذ زمن.”

لقد التزم أوباما في خطابه للشرق الأوسط في أول عهده بالعمل الجاد على إيجاد حل للقضية الفلسطينية، ولعل البعض كان يراه صادقًا فيما كان يرمي إليه، إذ إن وزراء خارجيته، هيلاري كلينتون وجون كيري، سجلوا رقمًا قياسيًا في الزيارات المكوكية التي قاموا بها للأرضي المحتلة في محاولة للوصول إلى اتفاق سلام ولو على الورق كما فعل سلفه بيل كلينتون.

فما الذي جعله يقدم هذا القدر من التنازلات والتراجعات عن تلك الوعود والتصريحات؟ ما الذي تغيّر؟ وما الذي يدفع رئيس أكبر إمبراطورية في القرن الواحد والعشرين أن يتناقض في تصريحاته بهذا الشكل الهزلي الذي لا يمكن مواربته؟

هناك عدة أسباب رئيسية لذلك المسلسل من التراجعات والتنازلات في المواقف الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية تحديدًا عرّج على بعضها الكاتب الصحفي الأمريكي “جولدبرج”.

مفيد أن نذكر أن هوية الكاتب الصحفي الأمريكي الإسرائيلي المقرب جدًا من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، “جيفري جولدبرج” لم تشكل عائقًا أمام صراحته في طرح سياسات أوباما الخارجية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ففي مقالته الشهيرة “مذهب أوباما” والتي نشرتها مجلة أتلانتك، وأخذت حيزًا كبيرًا من البحث والنقاش لما أثارته من جدل لا يزال محتدمًا حول استراتيجيات إدارة أوباما وسياساته الخارجية في منطقة الشرق الأوسط.

ذكر جولدبرج فيما يتعلق بالشرق الأوسط عامة أن أحد أكبر خيبات أوباما في الشرق كانت رؤساء وزعماء دول المنطقة الحليفة للولايات المتحدة، وكان على رأس تلك الخيبات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينيامين نتياهو، فأوباما يعتقد أنه كان بإمكان نتنياهو أن يتوصل لاتفاق سلام يتوج بحل الدولتين، ويضمن بموجب ذلك الاتفاق قبول السلطة الفلسطينية بدولة “يهودية” بناء على وعود الرئيس الفلسطيني محمود عباس لأوباما، إلا أن خوف نتنياهو وتردده وغرقه في سياسة المنطقة وخاصة بعد ثورات الربيع العربي هو ما منعه من المضي في ذلك الاتفاق.

هذا بالإضافة إلى شخصية نتنياهو المتعالية المتغطرسة في التعامل مع أوباما وغيره من الرؤساء، فلم يكن جولدبرج وحده هو من أورد صراحة أن أوباما لم يعد يحتمل عدم تقدير واحترام نتنياهو له، بل أورد ذلك أيضًا الكاتب الأمريكي اليهودي المشهور توماس فريدمان في سلسلة مقالات ومقابلات مع أوباما نفسه، أوضح أوباما في إحدى تلك المقابلات تذمره الصريح الواضح من سياسات نتنياهو في استعداء أعضاء الكونجرس الأمريكي ضده إلى الدرجة التي جعلت البعض يشعر أن نتياهو يحاول أن يجعل من نفسه وصيًا على أوباما بل ويظن نفسه الرئيس الفعلي للولايات المتحدة وخاصة عندما يتحدث أمام الكونجرس الأمريكي.

وهذا ما أكدته مقالة جولدبرج، إذ تقول بأن أوباما شعر بامتهان نتنياهو لشخصه وتقليله من قدراته وإلمامه بطبيعة منطقة الشرق الأوسط، ما دفع أوباما للقول صراحة لنتنياهو “بيبي، يجب أن تفهم شيئًا، أنا أمريكي من أصول إفريقية، كانت أمي عزباء، وكما ترى أنا أعيش هنا، في البيت الأبيض، أنا نجحت لأن أصبح رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية وأنت تعتقد بأنني لا أفهم طبيعة الشرق الأوسط وما الذي يحدث فيه، ولكني أؤكد لك أنني أفهم تمامًا تحدياته وتعقيداته”.

فكان شخص نتنياهو وسياسته المتغطرسه سببًا أساسيًا في تراجعات وتناقضات فضحت وأحرجت الإدارة الأمريكية مرات ومرات، هذا بالإضافة إلى سبب آخر في تراجعات أوباما اللامحدودة التي يعزيها البعض إلى الربيع العربي، فقد أثقلت ثورات الربيع العربي أجندات السياسة الخارجية الأمريكية، وفتحت عليها جبهات متعددة، وتحديات لم تكن بالحسبان، فأضحت القضية الفلسطينية رغم محوريتها وثقلها لا تتصدر أولوية السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن هذا السبب أوهن من أن يثبت أمام حقيقة العجز الأوبامي، فقد بدأ مسلسل التنازلات والانبطاح الأوبامي للضغوط الإسرائيلية قبل أن يبدأ الربيع العربي بمراحل متعددة.

ففي اختبار حقيقي لمذهبه المتقلب المنبطح للضغوط الإسرائيلية، عارض أوباما توجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس للأمم المتحدة من أجل رفع وضع فلسطين إلى دولة بصفة مراقب، وأبلغ الرئيس الفلسطيني أن واشنطن ستستخدم الفيتو ضد طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وقال في خطابه أمام الأمم المتحدة في الدورة السادسة والستين للجمعية العامة “إن المفاوضات هي الطريق الوحيد للدولة الفلسطينية وليس اللجوء للأمم المتحدة” وهو ما يتناقض تمامًا مع مذهبه وفهمه للشريك الإسرائيلي في عمليه السلام والذي وضع كل توصيات الإدارة الأمريكية تحت أقدامه قصدًا وعمدًا، بامتهان لم يسبق لرئيس أمريكي أن تعرض له.

كان لدى إدارة أوباما الكثير لتفعله ولكنها قوبلت بضغوط اللوبي الصهيوني الأمريكي الذي يشكل “القلق الأمني الإسرائيلي” هاجسه الأول والأخير، فهو ذات اللوبي الذي دفع بإدارة جورج بوش لاقتحام العراق كما يذكر دائمًا البروفيسور الأمريكي ميرشايمر وولت، وهو نفس اللوبي الذي ضغط ولا يزال على إدارة أوباما لإفشال الاتفاق الأمريكي – الإيراني.

سجل أوباما نجاحًا نسبيًا في إحدى معاركه ضد هذا اللوبي وذلك برفضه لتشريع أراده “الإيباك” لفرض عقوبات إضافية على إيران، كان نجاحه ذلك بفضل تنامى الشعور بين أوساط الإدارة الأمريكية بأن آيباك لا تعمل للمصالح الأمريكية بل استرضاءً لإسرائيل وانطلاقًا من خوفهم على أمن ربيبة أمريكا في الشرق.

لعل تأسيس جي ستريت كجماعة ضغط إسرائيلية والتي أسسها أحد أركان إدارة كلينتون جيرمي بن عامي صاحب التصريح الشهير “إن الوقت قد حان لكي تكف أمريكا عن لعب دور الشريك الصامت إزاء النشاط الاستيطاني الإسرائيلي اللانهائي” شكلت بداية الأمر تعزيزًا لمذهب أوباما الطموح ولكن ذلك الطموح الذي ولد مشلولاً سرعان ما انقلب إلى مظلة تدعم وتخدم الأوامر الإسرائيلية وهو ما يعيدنا للمربع الأول وللسؤال الأول، هل تصدر الأوامر للبيت الأبيض من تل أبيب؟ أم أن دولة الكيان هي الولاية الثانية والخمسين في الولايات المتحدة؟