انتهاك من نوع آخر!
12 أيار (مايو - ماي)، 2016
من أجمل التهم التي يمكن أن يُسمع لها -في ردهات القضاء- دويَ في الوجدان ووقع في الآذان، فتراها ماثلة في حضرة القضاء وأمام الحضور بجلال تحفها المهابة ويعلو فيها صوت العدالة، وبخشوع ينصت لها الضحية والجلاد: انتهاك ما يمليه الضمير!
هذه التهمة التي طالما استقرت في فيافي القضاء العادل، واحتفت بها أحكامه الماطرة حين تجدب أرض الأنظمة والتشريعات البشرية في وقف تسلط وتفرد استبدّ به القلة ليعيشوا نشوة البطش ويذيقوا غيرهم بؤس الظلم والحسرة.
لطالما تجاهل البشر في تشريعاتهم قوة الضمير، فما عاد يصدر الأحكام حتى عاد بلا سلطة، وأخذته غياهب النسيان حتى صار بلا منعة، وبفقده صارت التشريعات الجائرة أكثر علواً، وبيد أوليائها أشد فتكاً، وما استطاع مظلومٌ لها وصولاً ولا من كلاليبها مهرباً.
إن القضية التي تبحث عن عدالة لا تستأذن الضمائر، ولا تفرق بين أصحابها ومدعيها، يدفعها الخوف أن تتشبث بأعتاب المبادئ والأماني المستحيلة حتى اللحظة الأخيرة، هي في الحقيقة تضعك أمامها شئت أم أبيت، هي لحظة تكشف حالة مراقبة الفرد الذات الأخلاقية فيه واستقلاليتها في صياغة واجباتها نحوه، وتعبر في الوقت ذاته عن حرية الفرد وعن التزامه الأخلاقي، هي كما يقول د. سامي الشيخ محمد: “سلطة الضمير سلطة هدم، هدمٌ للإثم والممارسات الأخلاقية الشاذة، وبناء للشخصية بأبعادها النفسية والأخلاقية والاجتماعية والدينية والجمالية، بناءً سليماً متوازناً يفضي للأمن والطمأنينة والسعادة”.
ولذا، فالعمل لأجلها والسعي في تحمل مسؤولية الضمير أمامها مهم جداً، فهي بهذا العمل توافق الطبيعة الإنسانية التي فُطرت عليها، وترفع درجة تهذيبها خلقياً، وبالتالي تنعم في سكينة وطمأنينة، فهي نتيجة حتمية للتوافق وعدم التضاد بين الواجب الذي تستدعيه القضية وبين المصالح الموهومة التي تقف حائلاً في العمل تجاهها.
وإن كانت العوائق تصرف عما تمليه الضمائر وتجعل من الانقياد لها مغامرات تملؤها الأهوال في بعض الأحوال، فلا أقل من أن يوجد حد أدنى يتمسك به الإنسان تجاه ضميره، فلا يخالف ما استقر عليه هذا الضمير، ولا أن يسمح لأحد بقلبه وتشكيله وفق ما تمليه عليه المصالح والرغبات التي ما عاد يقف في وجه انحطاطها قوة أو تشريع.
ومما يجعل أمر انتهاك ما يمليه الضمير مشكلاً جداً تلك القوى التي ما تركت الدين والمعارف الإنسانية دون أن تسخرها في مشاريعها الاستبدادية، وتستلب الضمائر من أصحابها وتجعل من إملاءات تلك الضمائر أدوات تحركها قوى الاستبداد كيف شاءت وكيفما سارت مصالحها.
فصار الصراع بشعارات الدين وشعارات هذه المعارف أشد بأساً وتعقيداً، فليس أقصر زمناً وأقل جهداً من أن تزيح جندياً من طريقك بقتله مقارنة بما تبذله من جهود وبما تصرفه من زمن في سبيل مقاومة أفكار استقرت في نفوس أصحابها فهم يدافعون عنها كما يدافعون عن أنفسهم.
وبعد أن رأينا ما يهول من صمت عالمي مطبق تجاه جرائم الأنظمة الظالمة المتحالفة في الشام وإعمالها بالقتل والفتك لمدنيين عزل، أصبح لزاماً علينا مواجهة ضمائرنا الحية التي صارت على المحك أمام هذه الأحداث، وصار العمل واجباً يستدعيه الضمير الحي والدين الحق قبل أن تستدعيه القوانين البشرية والقرارات الأممية، وكل بحسبه دون الدخول في الحديث عن المسؤوليات والصلاحيات ورفع الحجج والاستتار بالأعذار أمام المواقف الحالية لكافة الأطراف.
غير أن التغافل والتواكل ووضع العوائق والتشكيك في المبادرات والغمز واللمز في أصحابها واستغلال المواقف والأحداث في ضرب الخصوم وتصفية الحسابات علامة سوء في الطريق إلى نصرة القضية ودعم أصحابها، واختبار حقيقي لأصحاب الضمائر أخلاقياً تجاه أنفسهم، وما أكثر الدعاوى والمزاعم الإنسانية وغير الإنسانية التي ما لبثت أن تكسرت على أعتاب الثورة السورية وتهاوت على رؤوس دعاتها قبل أن تتهاوى مساكن حمص على أصحابها.
إن من المؤسف حقاً أن لا يقابل انتهاك ما يمليه الضمير بالمحاكمة العادلة من أنفسنا قبل أن يحاكم من غيرنا، وأن يكون انتهاكه دعوى تبلدت وطويت في النفوس، وصارت النداءات عليه واللحاق على ما تبقى منه محض سراب زائل وأوهام تلبس بها الكثير، وصار الرهان عليه غير مقبول فتحول إلى مزحة يسخر منها القريب والبعيد.