السعودية وإيران: حرب الإسلام الباردة


لم يتلق أي رئيس أمريكي إهانة كالتي تلقاها باراك أوباما عند زيارته لأقرب حليف مفترض لأمريكا في العالم العربي في منتصف أبريل؛ فعندما حط الرئيس الأمريكي الرحال على أرض مطار الرياض، اختار الملك سلمان البقاء في قصره، وكان في استقبال الرجل الأكثر نفوذًا في العالم حاكم الرياض بدلًا من الملك، حيث لم يشهد الاستقبال أي عظمة أو مراسم احتفالية، كما رفضت شبكة التلفزيون السعودي الرسمية بث وصول الرئيس الأمريكي، وحينها بدا أوباما حائرًا على مدرج المطار قبل أن يحاول التستر على الإهانة بابتسامة عريضة.

الرسالة التي أرسلتها السعودية كان واضحة: المملكة تشعر كما لو تم وضعها في موقف حرج من قِبل أمريكا، ولم تكن مترددة بإظهار امتعاضها ذاك.

قصة الاستقبال الفاشل ليست مجرد حكاية تُروى ضمن الساحة الدبلوماسية الدولية، بل إنها تساعد على توضيح التحوّل الجيوسياسي الهائل، والصراع المتنامي الذي اجتاح منطقة الشرق الأوسط بأكملها؛ إنها حرب عصرنا الباردة، التي وضعت المملكة العربية السعودية بمواجهة إيران، الخصمان اللذان يسعيان بكد لاغتنام التفوق الإقليمي في المنطقة، ومن غير من الواضح تمامًا الجانب الذي تنحاز إليه الولايات المتحدة ضمن هذه المعركة الدائرة.

التشكك والتغيير السريع

الشرق الأوسط الذي عرفناه على مدى العقود الماضية، يتغير اليوم بشكل دارماتيكي؛ فأينما أشحنا بنظرنا في المنطقة، سنرى بأن طهران و الرياض تقفان خلف طرف واحد على الأقل من الأطراف المشاركة في الصراع القائم في الشرق الأوسط.

المملكة العربية السعودية، التي تتمتع بشرف استضافة المواقع الإسلامية المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، تعتبر نفسها مقر أهل السنة، وهي الطائفة التي ينتمي إليها غالبية المسلمين في العالم، أما جمهورية إيران الإسلامية، الدولة الدينية الشيعية، فتزعم قيادة المذهب الشيعي، الذي يشكّل أتباعه نحو 13% من كافة المسلمين في جميع أنحاء العالم، وبالنسبة لكلا النظامين، يعد الدين أداة سلطوية هامة.

تدخل الحرب الأهلية الأكثر دموية التي يشهدها الشرق الأوسط، الحرب في سوريا، عامها السادس اليوم، حيث أودى النزاع الدائر حتى الآن بحياة أكثر من 250,000 شخصًا، ولا يبدو بأن اتفاقية وقف إطلاق النار المطبقة على مدى الشهرين الماضيين ستستمر لفترة أطول من ذلك بكثير، وفي سوريا، وكذلك ضمن صراعات العراق واليمن، تتغذى جبهات القتال في المقام الأول من خطوط الصدع طائفية، السنة ضد الشيعة، كما أن السلام الهش الذي تشهده لبنان والبحرين، قابل لأن يتمزق في أي لحظة من منبر الاضطرابات الطائفية.

استثارت جميع حروب الوكالة والصراعات الطائفية الجارية في المنطقة موجة من الهجرة بين الأشخاص الذين تشردوا جراءها، حيث تسببت بنزوح أكثر من 6 ملايين شخصًا من سوريا والعراق جنبًا إلى جنب مع حوالي 3 ملايين آخرين من اليمن، ومن تحت أنقاض الشرق الأوسط، بزغ وحش كأفعى هيدرا متعددة الرؤوس، يسعى لترويع بروكسل وباريس واسطنبول وبقية العالم، إنه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفي مفارقة تاريخية، ترى تلك الميليشيا الإرهابية السنية كلًا من إيران والمملكة العربية السعودية كعدو لها.

في جوهر الأمر، يتعلق التصعيد في الشرق الأوسط بأمريكا ودورها المتغير في العالم؛ فبعد عقود من العداء المستمر مع إيران، سعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاستئناف الحوار مع خصمه الإيراني، وتفاوض بنجاح على معاهدة نووية مع طهران، حيث يُؤمل أن تحد هذه الصفقة من قدرة إيران على التوصل لتصنيع السلاح النووي، وبالمقابل تسمح لها بإعادة افتتاح أعمالها التجارية مع الغرب.

ولكن على الرغم من ذلك، تبدو التطورات الحالية التي تشهدها المنطقة نتاجًا لسياسة الولايات المتحدة بتفضيل الانسحاب من مشاكل هذه المنطقة المعقدة من العالم.

في ذات الوقت، يبدو بأن إيران، وبعد عقود من العزلة، تود أن تعود إلى وضعها السابق من الأهمية الإقليمية؛ فكلما سيطر الشيعة على دول أكثر ضمن الشرق الأوسط، كلما شعرت إيران بقوتها بشكل أكبر، وكلما ازداد شعور الضيق لدى المملكة العربية السعودية، الدولة التي وصلت إلى السلطة غير مرة من خلال إبرام الاتفاقيات مع السنة الأصوليين، الذين يسمون بالوهابيين.

تؤثر هذه الحرب الباردة الجديدة على العالم بأسره، مما يجعل البحث عن أسباب الحرب والتدقيق بدوافع السعودية وإيران بالاستمرار في طريق التصعيد، أمرًا في غاية الأهمية؛ لذا توجه فريق من الصحفيين التابعين لدير شبيغل لكلا البلدين للتحقيق، وتحدثوا مع السياسيين، الزعماء الدينيين، الناشطين، المثقفين، والناس العاديين في الشوارع.

الرهاب السعودي من الشيعة

العوامية هي مدينة مغبرّة على ضفاف المياه التي تسمى في أحد الجوانب بالخليج العربي ومن الجانب الآخر بالخليج الفارسي.

في العوامية، يبدو وكأن السعودية ذاتها تعاني من حرب أهلية؛ ففي مدخل المدينة ستتقابل بنقطة تفتيش بجدرانها الاسمنتية العالية، تتوقف أمامها عربة مدرعة بكامل عتادها، وفي الليل، يمكنك ملاحظة نقطة التفتيش من خلال الضوء المسلّط عليها.

يمكنك أن تعثر على الجدران الاسمنية السميكة أيضًا في ميدان العوامية الرئيسي حول مركز الشرطة، أمام محطة الكهرباء الفرعية، وحول مكتب البلدية، حيث تبدو الجدران مغطاة بالكتابات التي تقول: “إنهم يقتلوننا لأننا شيعة”، “إذهبوا إلى الجحيم يا منافقين!” “لن نستسلم أبدًا!”، “لن ننساك يا نمر!”، و”نمرنا لم يمت!”

في ليلة 1 يناير من العام الجاري، أعدمت السعودية رجل الدين والداعية الشيعي نمر النمر، الذي كان مقره في العوامية، جنبًا إلى جنب مع 46 سجينًا آخرين، معظمهم كان قد أدين بالإرهاب، وشكّلت هذه الواقعة أكبر موجة من عمليات الإعدام تشهدها البلاد منذ أكثر من ثلاثة عقود.

تمتلك المملكة العربية السعودية أقلية الشيعية، تشكل أكثر من 10% من سكان البلاد، والنمر كان أحد ممثلي الأقلية الأكثر شهرة، حيث كان خصمًا شرسًا لآل سعود، واتهمهم مرارًا بالقمع الممنهج للسكان الشيعة، ولكن الحكومة السعودية رفضت هذه الاتهامات واتهمت النمر بالمقابل بكونه إرهابيًا تحركه إيران، ووجهت له أصابع الاتهام بالمسؤولية عن مقتل أفراد من الأمن السعودي.

بعد إعدام نمر، اقتحم الشباب الإيراني الغاضب السفارة السعودية في طهران، مما أدى إلى قطع السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، وسحبت طهران بالمقابل دبلوماسييها من الرياض، ومنذ ذلك الحين ساد صمت جليدي بين القوتين الإقليميتين.

يجلس شقيق رجل الدين الشيعي الذي تم اعدامه في مكتبه في الفناء على مشارف العوامية؛ محمد النمر، 52 عامًا، هو رجل طويل القامة، أنيق، ذو شارب ولحية رمادية، تحدث إلينا وهو يرتدي الجلباب الأبيض التقليدي والكوفية الحمراء والبيضاء، “إعدام 46 سجينًا آخر كانت مجرد ذريعة لقتل أخي”، قال محمد النمر بدون غضب أو ذهول، بل ضابطًا نفسه لأبعد الحدود، وتابع: “لقد صدر الحكم على السجناء الآخرين بالإعدام قبل فترة طويلة”، وأدرف: “الشيخ نمر كان مصدر إلهام لنا، لا سيّما للشباب، لقد كان مبجلًا هنا”.

تم إلقاء القبض على نمر النمر من قِبل السلطات السعودية لأكثر من مرة خلال حياته، وكان آخرها في صيف عام 2012، وقبيل اعتقاله هذا، كان ولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز قد توفي، وحينها علّق النمر بخطاب ناري على وفاته قائلًا: “ستأكله الديدان، وسيعاني من عذاب جهنمي في قبره، إنه الرجل الذي أجبرنا على العيش في خوف ومعاناة، ألا يجب أن نكون سعداء بوفاته؟”.

يشير شقيق النمر إلى أن “الكلام هو شي، والإرهاب شيء مختلف تمامًا”، وفي الواقع، يمكن لمحمد النمر أن يكون داعية مهمًا من بعد شقيقه، ولكنه رجل أعمال يزن كل كلمة بعناية، حيث أوضح لنا بأنه يدين الهجوم على السفارة السعودية، ويتابع: “أنا شخص يحب بلده”.

قبل خمسة أشهر أُلقي القبض على ابن شقيق الشيخ نمر النمر، نجل محمد النمر، الذي كان يبلغ حينها 17 عامًا، وتم زجه بالسجن؛ فخلال أحداث الربيع العربي، شارك علي النمر، نجل محمد النمر، في الاحتجاجات، وحكم عليه بالإعدام نتيجة لذلك ويواجه الشاب الصغير اليوم عقوبة قطع رأسه والصلب، “ماذا يجب عليّ أن أقول؟”، يتساءل الأب، ويتابع: “لقد كان ابني طفلًا عندما أُلقي القبض عليه”، وأردف موضحًا بأن علي هو شاب ذكي وطموح وكان قد التحق في الجامعة، ولكنه الآن يقبع في السجن منذ 5 سنوات.

أثار إعدام رجل الدين الشيعي والعقوبة الوحشية التي صدرت بحق ابن شقيقه الفزع في جميع أنحاء العالم، ولكن ما حدث يلقي الضوء على شعور المملكة السعودية بالضغط من إيران، واستجابتها لذلك بإثارة الصراع الطائفي، حتى ضمن حدود المملكة.

انخرطت السعودية مؤخرًا بمغامرات سياسة خارجية خطيرة، حيث ابتدرت الرياض حملة عسكرية في جارتها الجنوبية، اليمن، ضد المتمردين الشيعة الحوثيين، ولكن على الرغم من أشهر القصف الطويلة، حُكمت العملية بالفشل، والصور القادمة من هناك، والتي تظهر دمار المدن وقتلى المدنيين، تلعب في الواقع لصالح إيران في المقام الأول.

وجهات نظر متضاربة

يجلس علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني السابق، في عيادته بطهران مرتديًا بدلة زرقاء داكنة، إنه دبلوماسي زاهد ومنهك عاد مرة أخرى ليعمل في مهنة طب الأطفال، وعندما التقياناه كان الوقت قد تجاوز الساعة التاسعة بقليل، وآخر مريض، وهو صبي بالغ من العمر سبع سنوات يعاني من وجع في الأذن، كان قد غادر لتوه.

يضطلع ولايتي بمنصب مستشار السياسة الخارجية لعلي خامنئي، المرشد الأعلى لإيران، مما يجعله جزءًا من الدائرة الداخلية، وفي شهر فبراير الماضي، سافر ولايتي إلى موسكو لإجراء محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول سبل المضي قدمًا في سوريا، ويحدثنا الآن عن السياسة الخارجية قائلًا: “الصداقة  الإيرانية – اليمنية تعود إلى 2000 عام مضى”، حيث يشير إلى أنه وقبل 1500 سنة، أرسلت إيران قواتها إلى الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة العربية لمحاربة الاحتلال الإثيوبي لليمن، موضحًا بأن “الغزاة” تعرضوا لهزيمة ساحقة وتقهقروا إلى الوارء.

تماما كالإثيوبيين سابقًا، ستُمنى السعوديو اليوم بـ”هزيمة كاملة” في اليمن، يقول ولايتي، فهم “غائصون في مستنقع حتى أعناقهم”، كما يقول، أما حقيقة أن الرئيس اليمني الحالي، عبد ربه منصور هادي، لا يُدعم من السعودية فحسب، وإنما يُعترف به أيضًا كرئيس شرعي لليمن من قِبل المجتمع الدولي، فلا تثير اهتمام ولايتي؛ فالحكومة هناك، كما يقول، هي حكومة “غير شرعية”، وستتم “الإطاحة” بها قريبًا.

يميل ولايتي بكرسيه في حركة تدل على القناعة؛ فبعد كل شيء، ما الذي تشكّله بضعة عقود من العقوبات الغربية أو 100 عام من حكم غير مستقر لعائلة عربية في الرياض بمواجهة تاريخ يناهز أكثر من 4000 عامًا من حكم الإمبراطورية الفارسية؟

بالمقابل، يمتلك عادل الجبير، وزير خارجية المملكة العربية السعودية، نظرة واضحة ولكن مختلفة عن الأحداث في المنطقة، “الحرب في اليمن ليست حربًا نريدها”، قال الجبير لصحيفة دير شبيغل في فبراير الماضي، وتابع: “لم يكن لدينا خيار آخر، لقد كانت المليشيات المتطرفة المتحالفة مع إيران وحزب الله تستولي على البلاد”.

جرت المقابلة مع الجبير خلال مؤتمر الأمن في ميونيخ في فبراير الماضي، قبل يوم واحد من لقائه مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف لمناقشة وقف إطلاق النار سوريا، في أول لقاء رسمي ما بين البلدين بعد قطع العلاقات الدبلوماسية، وحتى تلك النقطة، فضّل الطرفان أن يشهّرا ببعضهما البعض عن بعد، وذلك عن طريق المساهمات الافتتاحية في صحيفة نيويورك تايمز، حيث كتب جواد ظريف: “رعاية السعودية النشطة للتطرف العنيف، تشكل تهديدًا عالميًا حقيقيًا”، وتابع موضحًا “الإستراتيجية السعودية تديم، وحتى تفاقم، التوتر في المنطقة”، وبالمقابل، تصدى وزير الخارجية السعودي الجبير لهذه المزاعم موضحًا بأن السعودية ليست هي من تدعم الإرهاب، بل إنها إيران “اللاعب الوحيد الأكثر ولعًا بالحرب في المنطقة”.

ترى الرياض الوضع الحالي من منظور التخوف؛  فإيران، التي يسكنها حوالي 80 مليون نسمة، وتزيد مساحتها بثلاثة أضعاف عن مساحة السعودية، ترغب بأن تصبح قوة مهيمنة في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في ظل انسحاب القوة المهيمنة القديمة، الولايات المتحدة؛ ولهذا، يجب على السعودية أن تتولى مهمة استعادة توازن القوى في المنطقة.

هذا هو جوهر سياسة الخارجية السعودية الهجومية الجديدة، وبالنسبة لبلد اعتبره الغرب على مدى عقود “شريكًا إستراتيجيًا”، مورّدًا موثوقًا للنفط، وممثلًا عسكري دفاعي التوجه، يعتبر التحول الحالي في السياسة تحولًا جذريًا عن الماضي يستطبن عواقبًا غير محسوبة.

جذور العداوة

تاريخيًا، لم تحكم العداوة دائمًا العلاقة ما بين القوتين الإقليميتين، حيث شهدت علاقاتهما فترات من التفاهم بل حتى التعاون، وبقيت العلاقة جيدة ما بين حكام السعودية وإيران خلال كامل حقبة منتصف القرن الـ20، عندما شهدتها حالة الغنى الناجمة عن توريدهما النفط إلى الغرب، فضلًا عن تشاطرهما الولاء لحليف مشترك: الولايات المتحدة.

في الواقع، كانت العلاقات جيدة حتى نهاية ستينيات القرن المنصرم، حيث تبادل شاه إيران والملك فيصل بن عبد العزيز الرسائل بين بعضها البعض، والمثال على ذلك ما رواه الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي السابق لدى الولايات المتحدة، حينما نصح شاه إيران ملك السعودية ليحذو حذوه من خلال فتح مجتمع بلاده، مقترحًا السماح للفتيات والفتيان بالذهاب إلى المدرسة معًا، وحينها أجابه: “اسمح لي بأن أذكرك بأنك لست شاه فرنسا، فالمسلمون يشكلون حوالي 90% من بلادك، لا تنسى ذلك”.

تحققت النبوءة السوداء في عام 1979، وهي السنة التي ما زال الشرق الأوسط يشهد تداعياتها حتى يومنا هذا؛ فحينها أطاح الزعيم الشيعي المتشدد، روح الله الخميني، بنظام الشاه الموالي للغرب، واقتحم الطلبة السفارة الأمريكية، وسرعان ما انغمست البلاد، التي تم تحويل اسمها إلى جمهورية إيران الإسلامية، بصراع دموي على السلطة، ولم يمض وقت طويل حتى حلت الحرب مع العراق بقيادة صدام حسين.

في خضم الحرب مع إيران، دعمت السعودية النظام السني لصدام حسين، أما الولايات المتحدة، التي كانت حتى ذلك الحين تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من الرياض وطهران، فمالت نحو السعودية أيضًا.

إذن، هل كان عام 1979 عامًا جيدًا بالنسبة للسعوديين؟

إطلاقًا؛ ففي يوم 20 نوفمبر، استولى الإرهابيون السنة على المسجد الحرام في مكة المكرمة واحتجزوا الآلاف من الحجاج كرهائن، حيث جاء زعيم الإرهابيين من قلب المملكة ليدعي بأنه المهدي المخلص، وطالب بإسقاط الملك، وحينها لم يكن لدى العائلة المالكة السعودية من خيار سوى طلب المساعدة من القوات الخاصة الفرنسية “الكافرة” لتحرير المسجد.

أذلّت هذه الحادثة آل سعود، خاصة أمام المؤسسة الدينية الداخلية؛ لذا سعى الأمراء لتطهير أنفسهم من خلال ضخ المليارات من أموال النفط بأحضان الدعاة المتشددين، وهم الدعاة الذين نشروا الوهابية، المذهب الأكثر تشددًا وصرامة من الإسلام، حول العالم.

وفقًا لما تقدم، لم يكن عام 1979 العام الذي شهد بدأ تصدير “الثورة الإسلامية” فحسب، إنما كان كان العام الذي شهد أيضًا مباشرة السعودية بزرع بذور التطرف السني، الأمر الذي ما زالت مناطق عديدة حول العالم تحصد ثماره المرة، كوديان باكستان منعدمة القانون، الرقة عاصمة داعش، وفي رؤوس الشباب الضائع في الغرب، ناهيك عن المملكة نفسها، حيث باشر التطرف السني اليوم بتهديد البلد الذي ولد فيه غير مرة.

بعد ثماني سنوات من الأحداث الجسيمة التي شهدتها المملكة السعودية في عام 1979، ثار صراع مدمر ما بين المتظاهرين الإيرانيين ورجال الأمن السعوديين، أسفر عن مقتل 400 شخصًا، وحينها اتهم الأمير نايف، شقيق الملك الحالي، الإيرانيين باعتبارهم “هراطقة” كالذين من من قبلهم، متذرعًا بأنهم حاولوا تدنيس المسجد الحرام.

أثارت هذه الحادثة غضب آية الله الخميني، حيث دعا للإطاحة بالحكام السعوديين الذين وصفهم بأنهم “وهابيون مقيتون وملاحدة” و”مجموعة من الزنادقة”، وحينها بدا من الواضح بأن إيران والسعودية في العصر الحديث كانتا متجهتان لمواصلة الصراع المستمر منذ قرون ما بين العرب السنة والشيعة الفرس.

تعود أسس هذا النزاع إلى القرن الـ16 عندما قدّم الحكام الفارسيون مذهب الإسلام الشيعي كدين الدولة الرسمي في بلاد فارس، وفي الوقت عينه، كان الداعية محمد بن عبد الوهاب، الذي ولد عام 1703 بمكان ليس بعيدًا عن الرياض اليوم، ينتمي إلى الطائفة السنية الأكبر، وحينها أسس للمذهب الوهابي، الذي يحمل نظرة ازدرائية، بل نظرة كراهية، إلى الشيعة، وفي منتصف القرن الـ18، تحالفت عشيرة آل سعود، التي أصبحت في يومنا هذا العائلة المالكة، مع محمد بن عبد الوهاب، وأصبحت الوهابية مذهب الدولة الرسمي.

يعد الالتزام الطائفي في كلا البلدين أداة سياسية قوية، حيث يعمل على ربط الناس بحكامهم، وحتى اليوم، استخدم حكام إيران والسعودية على حد سواء الدين لبسط سيطرتهم على رعاياهم، وشهدت كلا البلدان أيضًا، صراعًا مستمرًا ما بين الإصلاحيين والمحافظين، إذن، تُظهر النظرة المعقمة على المجتمعات في البلدين بأنه وعلى الرغم من العداء الرسمية، إلا أنهما تواجهان تحديات متشابهة بشكل مدهش.