فلسطين: من النكبة إلى الثورة


يتذكر الفلسطينيون اليوم، مرّة أخرى، ما يسمى بيوم تأسيس إسرائيل والذي سجّله التاريخ العربي باعتباره يوم «النكبة» الفلسطينية بحيث يتوازى اليومان المتناحران ليعبّرا عن المعضلة الهائلة التي خلقها إنشاء هذه الدولة.

كانت «المسألة اليهودية» قضية أوروبية بحتة عبّرت عنها ظاهرة اللاسامية التي أنتجت مجازر عديدة في روسيا وأوروبا واختتمت بـ«المحرقة» النازيّة، واقترحت الصهيونية حلّها بخلق «غيتو كبير» خارج أوروبا لليهود سمّي «دولة إسرائيل».
غير أن تصريف المسألة اليهودية، بالاتجاه الصهيوني، مشى على قدم أخرى استفادت من أحلام الحملات الصليبية التي احتلّت فلسطين ومناطق من بلاد الشام قبل قرابة ألف عام، ولكنّها ركبت عمليّاً، سكّة التمدّد الاستعماري والاستيطاني الأوروبي الحديث، وكان الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، بحسب إيلان هاليفي في كتابه «المسألة اليهودية»، أول من اقترح استخدام اليهود في مشروع استيطانيّ غربيّ في فلسطين.
هذه الفكرة التي التقطتها الحركة الصهيونية لاحقاً كانت، ولمدى طويل، اقتراحاً لأوروبيين غير يهود، والكثيرون منهم كانوا لا يحبّون اليهود، بمن فيهم صاحب وعد بلفور الشهير، ورئيس حكومته آنذاك، لويد جورج، وكانت الفكرة من إعطائهم ذاك الوعد هو الخوف من تحالفهم مع المحور الألماني ـ النمساوي خلال الحرب العالمية الأولى.
بعد الحرب العالمية الثانية والتطوّرات الديمقراطية التي طرأت في البلدان الأوروبية لم يعد هناك ما يقال حول «المسألة اليهودية» في الغرب، غير أن اسرائيل لا تزال تستخدم موضوع اللاساميّة فزّاعة لابتزاز الغرب والعالم، ولتبرير احتلالها وقمعها اليوميّ للفلسطينيين وحصارهم وتجريف أراضيهم وسرقة ثرواتهم وتدمير ثقافتهم وأسس وجودهم.
على مدى الثمانية وستين عاماً من عمر النكبة الفلسطينية، طُرح الكثير من حلول للمسألة الفلسطينية ونشرت الحركات والجبهات والأحزاب والفصائل الفلسطينية برامجها وكتبت مئات آلاف الكتب حول القضية الفلسطينية وسالت دماء مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب وزادت الكوارث والنكبات كما انفتحت آفاق كثيرة للدولة الفلسطينية المنشودة وتأسست سلطة في رام الله كما تأسست حكومة موازية لها في قطاع غزة تسيطر عليها حركة «حماس».
تعتبر إسرائيل من أقوى دول العالم تسليحاً ويعتبر جيشها من أقوى الجيوش ومخابراتها من أخطر أجهزة الأمن في العالم كما أن لديها ترسانة نووية ترعب بها دول المنطقة والمحيط القريب والبعيد، لكن الفلسطينيين ما زالوا يستخدمون كل اشكال النضال الدبلوماسي والسلمي والعسكري والإعلامي ضدها، من دون يأس ومن دون توقّف، ولكن مع إحساس مأساويّ، منذ 68 عاماً بمظلوميتهم الهائلة التي شارك العالم في صنعها، وما زال، متواطئاً فيها.
رغم التواطؤ الدوليّ الكبير، ورغم جبروت إسرائيل واختلال ميزان القوى الهائل لصالحها، فإن الاحتقان الهائل الذي لا تنفكّ تسبّبه، وتهاوي عصر الكولونياليات البيضاء، والمأزق الأخلاقيّ الكبير الذي تشكّله في العالم، كل ذلك يضع علامة استفهام هائلة حول المشروع الإسرائيلي ويجعل تطوّر حضارة العالم متوقفا على تفكيكه وإعادة تركيبه، إن لم يكن بسبب كل ما ذكرناه، فعلى الأقل بسبب طاحونة الدماء التي لا تني تدور منذ عشرات السنين، مما يجعل هذا النزاع أطول نزاع في التاريخ الحديث.
يبقى القول إن الأطروحات العالمية والعربية لا تقدّم، حتى الآن، غير حلول «جغرافية» للمسألة الفلسطينية، ولا تتطرّق إلى إشكاليّة وجود إسرائيل باعتبارها مشروعاً عنصرياً استيطانيا غربيّا. لقد انفصل مشروع «دولة إسرائيل» عن مسبّباته وذرائعه الأصلية: «المسألة اليهودية» وضرورة إنشاء «قلعة لحراسة المصالح الغربية في الشرق الأوسط». لقد صار المشروع آلة ذاتية الدفع لا تفعل غير المساهمة في تعطيل التطوّر الإنساني في المنطقة العربية إضافة إلى كونها عاراً فاضحاً للعالم.
أما الحلّ الفلسطيني فلا يكفّ الفلسطينيون عن ابتكاره وهو المقاومة بكافة أشكالها، غير أن هذه المقاومة لا يمكن أن تغيّر حقّاً في المعادلات الكبرى الحاكمة من دون انتظامها ضمن مشروع عربيّ وعالمي عامّ، وهو المشروع الذي اقترحته الثورات العربيّة.