‘فورين بوليسي: هل اتفاقية (سايكس – بيكو) هي السبب الحقيقي في أزمات الشرق الأوسط؟’
16 أيار (مايو - ماي)، 2016
فورين بوليسي –
في فترة ما في المئة سنة التي مضت منذ توقيع اتفاقية سايكس بيكو، أصبح الحديث عن “نهاية” الاتفاقية مسألة متكررة بين الخبراء والصحفيين والمحللين في الشرق الأوسط. ربما تقع المسؤولية عن الكليشيهات المنتشرة حول الاتفاقية على باتريك كوكبرن، الذي كتب في يونيو عام 2013 مقالة في صحيفة “لندن ريفيو أوف بوكس” يحاجج فيها أن تلك الاتفاقية، التي كانت واحدة من المحاولات الأولى لإعادة ترتيب الشرق الأوسط بعد زوال الإمبراطورية العثمانية، كانت في حد ذاتها في مرحلة النهاية. ومنذ ذلك الحين، انتشرت هذه العبارة على نطاق واسع؛ فمجرد بحث سريع على جوجل يكشف لك أكثر من 8600 إشارة لعبارة “نهاية سايكس بيكو” على مدى السنوات الثلاث الماضية.
إنَّ فشل اتفاقية سايكس بيكو يُعدّ الآن جزءًا من الأفكار المُسلّم بها عن الشرق الأوسط المعاصر. وليس من الصعب أن نفهم سبب ذلك. هناك أربع دول في الشرق الأوسط تمر بمرحلة انهيار الآن، هم: سوريا والعراق واليمن، وليبيا. إذا كان ثمة تحوّل تاريخي في المنطقة، ضمن حدود المنطق، فمن الواضح أنَّ التسويات الدبلوماسية التي أنتجت حدود بلاد الشام تتفكك الآن. يبدو أن التاريخ قد انتقم من مارك سايكس ونظيره الفرنسي، فرانسوا جورج بيكو، اللذين أبرما تلك الاتفاقية.
دائمًا ما يتبع النقاش حول “نهاية سايكس بيكو” عرض للطبيعة الاصطناعية لدول المنطقة؛ إذ أن الحدود لا تبدو منطقية، وفقًا لهذه الحُجة، لأنَّ هناك أشخاصًا من مختلف الأديان والطوائف والأعراق في داخلها. إنَّ التشرذم الحالي في الشرق الأوسط هو نتيجة أحقاد وصراعات تعود إلى “آلاف السنين”، كما قال باراك أوباما إنّه تمّ إبرام اتفاقية سايكس بيكو عن غير قصد من خلال خلق هذه الدول غير الطبيعية. يكمن الجواب في الحدود الجديدة التي ستحل كل الأضرار التي تسبب فيها سايكس وبيكو على مدى القرن السابق.
ولكنَّ هذا التركيز على اتفاقية سايكس بيكو هو مزيج من التاريخ السيئ والعلوم الاجتماعية الزائفة. ويهيئ الولايات المتحدة، مرة أخرى، للفشل في الشرق الأوسط.
في البداية، من غير الممكن القول بأنَّ الاضطرابات الهائلة التي تجتاح الشرق الأوسط أنهت اتفاقية سايكس بيكو؛ لأنَّ الصفقة نفسها كان ميتة بالأساس. لم يتفاوض سايكس وبيكو على حدود الدول في حد ذاتها، وإنما على مناطق النفوذ. وفي حين استمرت فكرة هذه المناطق طوال اتفاقيات ما بعد الحرب، إلّا أنَّ إطار العمل الذي وضعه سايكس وبيكو لم يدخل حيز التنفيذ.
وعلى عكس الحكومة الفرنسية، بدأت حكومة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج بنشاط لتقويض الاتفاقية بعد توقيع سايكس عليها مباشرة. التفاصيل معقدة، ولكن كما أوضحت مارجريت ماكميلان في كتابها “باريس عام 1919“، أنَّ التحالف بين بريطانيا وفرنسا في الحرب ضد القوى المركزية لم يفعل الكثير لتهدئة المنافسة الاستعمارية. وبمجرد سقوط الروس في الحرب بعد الثورة البلشفية في عام 1917، ظنَّ رئيس الوزراء البريطاني أن المنطقة الفرنسية التي رسمها سايكس وبيكو – تضم جنوب شرق تركيا، والجزء الغربي من سوريا، لبنان، والموصل – لم تعد حصنًا ضروريًا بين المواقع البريطانية في المنطقة وبين الروس.
لم تنتج حدود الشرق الأوسط الحديثة من دون سابقة. نعم، إنها نتاج عمل الدبلوماسيين الأوروبيين وضباط الاستعمار، إلّا أن تلك الحدود لم تكن خطوط غريبة الاطوار مرسومة على خريطة فارغة؛ بل استندت، بالنسبة للجزء الأكبر، إلى الحقائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموجودة عن المنطقة، بما في ذلك الانقسامات والممارسات الإدارية العثمانية. يمكن تتبع الفعلي لحدود الشرق الأوسط الحالي إلى مؤتمر سان ريمو، الذي أنتج معاهدة سيفر في أغسطس عام 1920. وعلى الرغم من أنَّ القوميين الأتراك أبطلوا هذا الاتفاق، إلّا أنَّ المؤتمر بدأ تنفيذ عملية رسخت من خلالها عصبة الأمم الانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، في عام 1920، والانتداب الفرنسي على سوريا، في عام 1923. وتمّ وضع اللمسات الأخيرة على حدود المنطقة في عام 1926، عندما انضمت مدينة الموصل التي تتكون من محافظات بغداد والبصرة، بما كانت تسمى آنذاك المملكة العراقية.
على مستوى أعمق، يفترض منتقدو الحدود الحالية في الشرق الأوسط على نحو خاطئ أن الحدود الوطنية يجب ترسيمها بشكل طبيعي، على طول الأنهار والجبال، أو حول مختلف الهويات من أجل الاستمرارية. وهذا افتراض يتجاهل عمدًا أن معظم، إن لم يكن كل دول حدود العالم هي مجرد ترتيبات سياسية مفتعلة، أكثر من كونها نتيجة للمفاوضات بين القوى والجهات الفاعلة المختلفة. وعلاوة على ذلك، فإنَّ السكّان داخل هذه الحدود ليسوا متجانسين عادة.
وينطبق الشيء نفسه على لشرق الأوسط، حيث تمّ ترسيم الحدود عن طريق تحقيق التوازن بين المصالح الاستعمارية ضد المقاومة المحلية. ولذلك، أصبحت هذه الحدود ممأسسة في السنوات المائة الأخيرة. في بعض الحالات – مثل مصر أو إيران أو حتى العراق – تمّ تحديد الأراضي التي ظلّت لفترة طويلة موطنًا لهويات ثقافية متماسكة إلى حد كبير بطريقة تبدو منطقية في العصر الحديث. الدول الحديثة الأخرى مثل المملكة العربية السعودية والأردن، حدّدت أراضيها الخاصة في القرن الماضي. وفي حين لا يتحد أحد عن الهوية الأردنية منذ قرون، هناك أمة موجود الآن، وسلامة أراضيها تعني الكثير للشعب الأردني.
الصراعات الحالية في منطقة الشرق الأوسط اليوم، إذن، ليست حول شرعية الحدود أو صلاحية أماكن تسمى سوريا أو العراق أو ليبيا. لكنَّ أصل الصراعات داخل هذه البلدان يدور حول مَن لديه الحق في الحُكم. لقد بدأ الصراع السوري، بغض النظر عما آلت إليه الأمور اليوم، كانتفاضة لجميع السوريين – رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، سُنة وشيعة، حتى الأكراد والعلويين – ضد حاكم مستبد وفاسد، كما فعل الليبيون والمصريون والتونسيون واليمنيون والبحرينيون في عاميّ 2010 و 2011.
إنَّ نقاط ضعف وتناقضات الأنظمة الاستبدادية تكمن في قلب الأزمات الحالية في منطقة الشرق الأوسط. وحتى الطائفية العرقية والدينية المتفشية هي نتيجة لهذا الاستبداد الذي يحدد نظام الدولة في الشرق الأوسط أكثر بكثير مما فعلت اتفاقية سايكس بيكو.
لم تؤدِ الحدود “غير الطبيعية” في المنطقة إلى الانقسامات العِرقية والدينية في الشرق الأوسط. بل يقع اللوم على القادة السياسيين الذين دعموا هذه الانقسامات على أمل الحفاظ على حُكمهم. في العراق، على سبيل المثال، بنى صدام حسين نظام الرعاية والمحسوبية من خلال حزب البعث الحاكم الذي يخوّل لدولة يحكمها السُنة على حساب الشيعة والأكراد. كما حكم بشار الأسد سوريا، ووالده من قبله، من خلال بناء شبكة من المؤيدين والجماعات التابعة له حيث يتمتع أعضاء طائفته العلوية بمساحة متميّزة في الدائرة الداخلية. النظرة الوهابية لقادة المملكة العربية السعودية تشجّع بقوة التفسير الطائفي للصراع في البلاد مع إيران من أجل الهيمنة الإقليمية. وينطبق الشيء نفسه على أيديولوجيات مختلف الجماعات السلفية الجهادية التي تقاتل من أجل التفوق في سوريا، والعراق، واليمن.
سياسة الهوية تلعب دورًا في الصراعات التي تتكشف الآن للسيطرة في منطقة الشرق الأوسط، ولكنها ليست بالضرورة الأسباب الجذرية للصراعات في المنطقة. لكن السبب هو نمط السياسة والحكومات التي اختارها زعماء الشرق الأوسط، والتي تحرّض شعوبها ضد بعضهم البعض.
يمكن أن تتشرذم العديد من البلدان في الشرق الأوسط في السنوات القادمة. ولكن باستثناء كردستان العراق، فلن يكون هناك شيء “أكثر طبيعية” حول النظام الجديد أكثر من الوضع الذي استمر لقرن من الزمان. أسطورة نسخة أفضل من سايكس بيكو ليست سوى أسطورة يمكن أن تبرر السياسة غير المتماسكة في الشرق الأوسط أو تدافع عن الجهود الدولية لإعادة رسم الخريطة.
أسوأ افتراض يطرحه أنصار حُجة “نهاية سايكس بيكو” هو أن شعوب الشرق الأوسط، في نضالهم لتحديد مستقبلهم وضمان استقرارهم، يريدون أن تحكمهم خريطة جديدة جذريًا. سيكون أكثر فائدة، وأكثر دقة، أن نتوقف عن إعطاء اتفاقية سايكس بيكو الكثير من الفضل؛ لأنَّ إرث تلك الاتفاقية لا يخبرنا أي شيء عن مشاكل المنطقة اليوم.