كيف سمحت روسيا لمتطرفيها بالسفر والقتال في سوريا؟


رويترز –

“على مدى سنوات، تصدت الشرطة الروسية للمتشددين الاسلاميين بالقبض عليهم. ولكن المصادر تقول إن السلطات غيرت سياستها بعد ذلك وسمحت لبعضهم بالسفر إلى منطقة الشرق الأوسط”.

قبل أربع سنوات، كان سعدو شاربدنوف أحد المطلوبين في روسيا. وكعضو في أحد الجماعات الإسلامية المحظورة، كان يختبئ في غابات شمال القوقاز، ويناور دوريات الشرطة شبه العسكرية ويقوم بالتخطيط لشن حرب مقدسة ضد موسكو. ثم شهد مصيره منعطفا مختلفا جذريا. فقد قال شاربدنوف ،البالغ من العمر 38 عاما، لوكالة أنباء رويترز إنه في شهر ديسمبر 2012 عرض عليه ضباط المخابرات الروسية عرضا غير متوقع. فإذا وافق على مغادرة روسيا، فإن السلطات لن تعتقله. وفي الواقع، سوف تقوم بتسهيل رحيله.

وقال شاربدنوف خلال مقابلة أجريت معه في بلد غير روسيا: “لقد كنت مختبئا، وكنت جزءا من جماعة مسلحة غير مشروعة. وكنت مسلحا”، ولكنه يقول إن السلطات عقدت معه اتفاق “قالوا: نريدك أن ترحل”.

وافق شاربدنوف على الرحيل. وبعد بضعة أشهر، تم منحه جواز سفر جديد باسم جديد، وتذكرة طيران ذهاب الى اسطنبول. وبعد فترة وجيزة من وصوله الى تركيا، عبر الحدود الى سوريا وانضم إلى جماعة إسلامية بايعت في وقت لاحق جماعة تنظيم الدولة الإسلامية السنية المتطرفة.

وقد تعرفت وكالة أنباء رويترز على خمسة متطرفين روس آخرين ممن تركوا روسيا أيضا بمساعدة مباشرة أو غير مباشرة من السلطات وانتهى بهم المطاف في سوريا كما يقول أقاربهم والمسؤولون المحليون. ومن ثم انتظمت عمليات مغادرة روسيا في نمط محدد، وبحسب شاربدنوف وأقارب الإسلاميين والمسؤولين السابقين، أرادت موسكو القضاء على خطر وقوع هجمات ارهابية محلية، لذلك تغاضى مسؤولو الاستخبارات والشرطة عن المتشددين الاسلاميين الذين يغادرون البلاد. وتقول بعض المصادر إن المسؤولين قد شجعوا المتشددين على الرحيل.

وقد استمرت هذه الخطة حتى عام 2014 على الأقل حسبما ذكر مسؤولون حاليون وسابقون بالإضافة إلى أقارب أولئك الذين غادروا. وتشير الحالات التي غادرت روسيا إلى أن الخطة قد تسارعت قبل عقد دورة الالعاب الاولمبية الشتوية في سوتشي 2014 لأن السلطات الروسية خافت من احتمال تنفيذ هجمات محلية على هذا الحدث.

وقد استقر المتطرفون الروس الستة الذين تعرفت عليهم وكالة أنباء رويترز في سوريا، ويقاتل معظمهم الآن مع الجماعات الجهادية التي تقول روسيا الآن إنهم أشد أعدائها. وقد كان هؤلاء الستة مجرد جزء صغير من المتطرفين الذين غادروا روسيا خلال تلك الفترة. فبحلول شهر ديسمبر عام 2015، غادر حوالي 2900 روسيا للقتال في منطقة الشرق الأوسط، كما ذكر ذلك الكسندر بورتنيكوف مدير جهاز الامن الروسي في جلسة للجنة مكافحة الارهاب في أواخر العام الماضي. وبحسب البيانات الرسمية، غادر أكثر من 90 % منهم روسيا بعد منتصف العام 2013.

وقالت ايكاترينا سوكيرانسكيا ،محللة بارزة في مجموعة الأزمات الدولية، وهي هيئة مستقلة تهدف إلى حل الصراعات: “اللغة الروسية هي اللغة الثالثة المتداولة في تنظيم الدولة الإسلامية بعد اللغة العربية والإنجليزية. روسيا هي واحدة من أهم موردي المقاتلين الأجانب. وقبل دورة الالعاب الاولمبية، لم تمنع السلطات الروسية المغادرين وغادر عدد كبير من المقاتلين روسيا. لقد كانت هناك مهمة محددة قصيرة المدى وهي ضمان أمن الألعاب الأولمبية … لقد غضوا الطرف عن تدفق الشباب المتطرفين” إلى منطقة الشرق الأوسط.

وتقاتل موسكو الآن تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من الجماعات المسلحة في سوريا التي يقول الكرملين إنها تشكل تهديدا لأمن روسيا والعالم. وقد برر الكرملين حملته الجوية في سوريا قائلا ان الهدف الرئيسي منها هو سحق الدولة الإسلامية.

وتنفي السلطات الروسية أنها أدارت برنامجا لمساعدة المتشددين على مغادرة البلاد. ويقولون إن المسلحين غادروا بمحض إرادتهم ودون مساعدة من الدولة. وقام المسؤولون، بما فيهم مدير جهاز الامن الروسي بورتنيكوف وسلطات شمال القوقاز، بإلقاء اللوم على من يقومون بتجنيد الشباب لصالح الدولة الإسلامية وعلى الدول الأجنبية التي تقدم ممرا آمنا إلى سوريا وغيرها من الأماكن الأخرى.

وصرح ديمتري بيسكوف ،المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لوكالة أنباء رويترز قائلا: “ان السلطات الروسية لم تتعاون أو تتفاعل أبدا مع الإرهابيين. لم يكن هناك احتمال قائم للتعاون مع الارهابيين. يتم سحق الإرهابيين في روسيا. لقد كان الأمر دائما كذلك في الماضي والحاضر وسيظل كذلك في المستقبل”.

وقالت وزارة الخارجية الروسية إن مزاعم مساعدة وكالات تنفيذ القانون الروسية للمتشددين “لا أساس لها” وقالت ان وكالات الأمن اتخذت تدابير مختلفة لمنع المتشددين من السفر ولمحاسبة أولئك الذين يعودون من الصراع. وأضافت أن روسيا فتحت مئات القضايا الجنائية المتعلقة بالمواطنين الروس الذين يقاتلون في سوريا، وبالتالي كان من “السخيف” أن نعتقد ان المسؤولين سهلوا رحيل المتشددين من روسيا.

وقد رفضت وزارة الداخلية التعليق على هذا الأمر، قائلة ان جهاز الأمن الفيدرالى هو المسؤول عن هذه القضية. وقد رفض الجهاز الكائن في داغستان التعليق على القضية فورا.

منفعة متبادلة

السماح للمتشددين بمغادرة روسيا كان أمرا جيدا لكل من المتطرفين والسلطات. فقد تحارب الطرفان في  منطقة شمال القوقاز ذات الأغلبية المسلمة حتى وصلا إلى طريق مسدود.

فقد باتت الجماعات الاسلامية ،التي تقاتل لاقامة دولة اسلامية في المنطقة، منهكة بعد سنوات من الحرب، وفشلت في احراز أي انتصارات كبيرة ضد قوات الأمن. وقد شعرت السلطات بالاحباط بسبب صعوبة القبض على المسلحين – الذين يتحصنون في مخابئ جبلية نائية أو تتم حمايتهم من قبل المتعاطفين معهم – حتى الآن.

وفي عام 2013 ، بدأ الإسلاميون بالتهديد بمهاجمة دورة الالعاب الاولمبية في سوتشي، ونشر أشرطة الفيديو لهذه التهديدات على الإنترنت. وكان وقوع أي هجوم سيؤدي إلى أحراج بوتين في حدث يهدف إلى دعم روسيا. لذا أمرت موسكو بشن حملة على المتطرفين.

وصرح ضابط روسي ،متقاعد من القوات الخاصة صاحب سنوات من الخبرة في ساحة القتال في شمال القوقاز، لرويترز قائلا إن السلطات الفدرالية ضغطت على المسؤولين المحليين للحد من العنف قبل بدء فعاليات دورة سوتشي. وأضاف “قالوا لهم قبل بدء دورة الالعاب الاولمبية إنه لن يتم التسامح مع أي خطأ، وأولئك الذين يفشلون، سوف يتم طردهم. لقد أحكموا الخناق عليهم “.

وقد تم التواصل الأولي مع شاربدنوف عن طريق مسؤول سياسي في قرية نوفوساسيتلي التي تأوي المتشددين في داغستان وهي منطقة في شمال القوقاز. وأصبح المسؤول، الذي تقاعد منذ ذلك الحين، حلقة الاتصال بين شاربدنوف واجهزة الامن الروسية. وقد أكد ما قاله شاربدنوف لرويترز.

وقد استغرق الأمر من شاربدنوف عدة أشهر ليقرر قبول العرض من عدمه. ثم اختار في نهاية المطاف الوثوق في المسؤول المحلي، الذي كان يعرفه منذ الطفولة.

وبحسب شاربدنوف، اصطحبه الوسيط إلى بلدة خاسافيورت، حيث انتظره مسؤول أمني رفيع المستوى. وقال انه على الرغم من منحه ضمانات بشأن سلامته إلا أنه ظل متشككا. لذلك وضع في جيبه مسدسا وقنبلة يدوية، على الرغم من شرط مجيئه دون سلاح.

ولم يحاول شاربدنوف أبدا قبل ذلك مغادرة روسيا، حتى ولو سرا، لأنه يعتقد أنه قد يتم القبض عليه أو قتله. وترك روسيا علنا ​​كان من المستحيل لأنه كان على لائحة المطلوبين للاشتباه في تورطه في تنفيذ تفجيرات. واذا تم القبض عليه وإدانته، سيواجه السجن ثماني سنوات أو السجن مدى الحياة.

ولكن شاربدنوف قال إن الضابط أخبره أنه بإمكانه مغادرة روسيا وأن الدولة ستساعده في الرحيل.

” قالوا لي اذهب إلى أي مكان تريده، يمكنك الذهاب حتى للقتال في سوريا “. وأشار إلى أن الأولمبياد جاء ذكره في المفاوضات. “قالوا شيئا من هذا القبيل،  نريد أن يمر الأولمبياد دون حوادث. ولم يخفوا أنهم كانوا يرسلون الآخرين كذلك”.

اسم جديد

كان لدى شاربدنوف أسبابه الخاصة لمغادرة روسيا. فقد كانت هناك توترات بينه وبين الأمير المحلي، الذي كان أيضا قائدا للجماعة التي ينتمي إليها. وعندما أخبر شاربدنوف والدته عن عرض السلطات، تضرعت إليه لقبول العرض لإنها لا تريده أن يكون مطاردا دائما حسبما قال.

واحتاجت الخطة إشراك المزيد من أجهزة الدولة: حيث يحتاج شاربدنوف إلى جواز سفر جديد لمغادرة روسيا، وفقا للمسؤول المحلي السابق الذي كان وسيطا بينهما. وقال “منذ أن أصبح على قائمة المطلوبين، لم يكن ممكنا سفره إلى الخارج”.

وقال شاربدنوف انه استلم جواز سفر جديد عند وصوله إلى مطار منرالني فودي في جنوب روسيا في سبتمبر 2013، حيث اصطحبه موظف من جهاز الأمن في سيارة فضية معتمة النوافذ، بالإضافة إلى حصوله على تذكرة ذهاب فقط إلى تركيا.

وأبرز شاربدنوف لرويترز جواز السفر الذي قال انه استلمه من الدولة الروسية. وكان اسمه وتاريخ الميلاد مختلفين قليلا عن المسجلين في القائمة الرسمية للمطلوبين. وأظهرت الصورة شاربدنوف ، الذي كان ملتحيا عندما أجرينا معه تلك المقابلة، وهو حليق اللحية. وقال انه حلق لحيته من أجل جواز السفر الجديد.

وفي حين أن وكالة رويترز لم تكن قادرة على التأكد من مصدر جواز السفر، إلا أن جيران شاربدنوف والمسؤول السابق الذي عمل كوسيط أكدوا هويته وقصة حصوله على تلك الوثائق. وقد طلب شاربدنوف عدم نشر اسمه الجديد.

وينفي المسؤولون الأمنيون في شمال القوقاز انهم قد ساعدوا المتطرفين الاسلاميين للخروج من البلاد، ولكنهم يتفقون على أن غيابهم قد ساعد على حل المشاكل الأمنية في المنطقة. وقال أحد أعضاء لجنة مكافحة الإرهاب في محج قلعة، عاصمة داغستان: “بالطبع، ساعد رحيل المتطرفين من داغستان بأعداد كبيرة على جعل الوضع في الجمهورية أفضل”.

وأكد أحد ضباط الأجهزة الأمنية ممن شاركوا في المفاوضات مع المسلحين في قرية  نوفوساسيتلي أن عدد قليل من المقاتلين “القوا السلاح واستسلموا” قبل أن يسافروا إلى سوريا في وقت لاحق. “ومنذ أن ألقوا السلاح، توقفنا عن ملاحقتهم قضائيا”.

وقال إنه كان هناك قضايا استمرت خلال سنوات قليلة ولكنها لم تكن لها علاقة بدورة ألعاب سوتشي. كما أكد على أن الأجهزة الأمنية لم تساعد أي شخص على الرحيل. وقال “إذا لم تصدر بحقهم أية إجراءات، فبحسب القانون، يمتلكون نفس الحقوق التي يتمتع بها كل مواطن روسي، ويمكنهم الحصول على جواز سفر والرحيل”. وقال الضابط إنه لم يكن يعرف شيئا عن قضية شاربدنوف.

اختفاء مفاجئ

يقول شاربدنوف إنه عندما وصل سوريا، كان تنظيم الدولة الإسلامية يصعد نجمه ولكنه لم يكن يسيطر على الكثير من الأراضي. وقد انضم إلى جماعة تسمى جماعة صبري مع مقاتلين آخرين من روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق. وكانوا بالقرب من حلب، بينما تسيطر الدولة الإسلامية على الأراضي المجاورة.

وبحسب شاربدنوف، كانت الجماعتان يتمتعان بعلاقات ودية تجاه بعضهم البعض. وفي وقت لاحق، تعهدت جماعة صبري بالولاء للدولة الإسلامية، على الرغم من قول شاربدنوف أنه بحلول ذلك الوقت كان قد ترك القتال وغادر سوريا. ورفض الإفصاح عن أسماء المقاتلين الداغستانيين الآخرين في سوريا.

وقد حصلت وكالة أنباء رويترز بشكل مستقل على تفاصيل خمسة متطرفين آخرين غادروا روسيا في ظروف مشابهة لظروف شاربدنوف. وهؤلاء الخمسة إما ماتوا، أو سجنوا أو لازالوا في سوريا ولا يمكن الوصول إليهم.

وقد ذكر الأقارب والجيران والمسؤولون المحليون روايات متعددة عما حدث لهؤلاء الرجال. حيث يتشابه  الرجال الخمسة في بعض الأمور: فجميعهم من داغستان، وكانت السلطات الروسية لديها أسبابا خاصة  لحرمانهم من وثائق السفر ومنعهم من مغادرة البلاد. ولكن وفقا للأقارب ومسؤولين محليين، جعلت السلطات سفرهم ممكنا كل على حدة.

وكان رابداندوف أحد المقاتلين الخمسة الآخرين الذين غادروا روسيا من قرية بيركي. وقال ضابط في الشرطة المحلية أنه أمر في عام 2014 بمراقبته عن كثب هو وغيره من المتطرفين المشتبه بهم كجزء من سياسة أمنية جديدة تم انتهاجها قبل دورة الالعاب الاولمبية في سوتشي.

وقال الضابط وهو يعرض ملف رابداندوف على جهاز الكمبيوتر انه تلقى أوامر بوضع المتطرفين على قائمة المراقبة، والاتصال بهم هاتفيا مرة واحدة في الشهر. واضاف “اذا لم يستجيبوا، كان علينا أن نجدهم”. وقال الضابط انه خلال الاستعدادات لدورة الالعاب الاولمبية، تم إدراج رابداندوف في القائمة باعتباره شخص “يعتنق معتقدات إسلامية غير تقليدية، وهابية ” وهو المذهب السني الإسلامي المعروف بتفسيره المتشدد للدين.

وعند نقطة ما، تم اعتقال رابداندوف بسبب حيازة متفجرات في منزله، حسبما قال والده، ولكن قد أفرج عنه بعد فترة وجيزة ووضع تحت الإقامة الجبرية بدلا من ذلك.

وقال والده والضابط المحلي أنه رغم الإقامة الجبرية، تمكن من المرور من ادارة الجوازات في مطار موسكو الدولي مع زوجته وابنه في مايو 2014. وقال والده انه ظهر في وقت لاحق في سوريا. ورفض المسؤولون الحكوميون التعليق على الأمر. وقال والده أنه تلقى رسالة في يوم 2 يناير 2015، من شخص قال ان ابنه قتل أثناء قتال الدولة الاسلامية ضد القوات الكردية قرب بلدة كوباني السورية، على الحدود مع تركيا.

وقال والد متشدد آخر أيضا إن ابنه سمح له بمغادرة روسيا كجزء من اتفاق مع السلطات. وقال المسؤول السابق الذي تولى الوساطة في حالة شاربدنوف إنه ساعد اثنين من المتشددين الآخرين للحصول على جوازات سفر.

وقال سكان ومسؤولون في داغستان أنه بمجرد وصول المتشددين الروس إلى سوريا، شجعوا آخرين من مجتمعاتهم المحلية للانضمام اليهم. وفي قرية بريكي، التي يبلغ عدد سكانها 3000 نسمة، غادر نحو 28 شخصا لمناطق الشرق الأوسط التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية، وفقا لضابط في الشرطة المحلية. وقال انه تم إدراج 19 منهم في روسيا على قائمة المتطرفين.

وفي مركز للشرطة بالقرب من بريكي، رأى مراسل رويترز ملفا على الكمبيوتر يحتوي أسماء عشرات المتشددين المشتبه بهم. وكان عنوان الملف “الوهابيون”.

وأظهرت بعض الصور مجموعة من الشباب الملتحين من بريكي والقرى المجاورة معهم أسلحة. وقال أحد الضباط إن الصور التي تم بثها على الانترنت أظهرت هؤلاء الرجال وهم في سوريا والعراق.