فبعد النجاح في شرعنة كيانه السياسي بتوقيع اتفاقيتي سلام مع مصر والأردن، فضلاً عن نجاح الدبلوماسية الصهيونية في فتح قنوات اتصال مع الدول العربية الأخرى كان آخرها المملكة العربية السعودية، لم تجد تل أبيب أدنى صعوبة في تفعيل خطواتها نحو تأمين نفسها من كل جانب، وفرض القيود الخانقة وامتلاك معظم أوراق اللعبة في علاقاتها مع الدول العربية المعترفة بها بما يضمن لها استمرارية التواجد السياسي رغم عن أنف الجميع.

في الوقت الذي كانت تل أبيب تخطب فيه ود الدول العربية المجاورة، كانت أصابعها تلعب في القارة الإفريقية في محاولة لإحكام سيطرتها على الموارد الطبيعية بها بما يضمن لها ظهيرًا شعبيًا سياسيًا إفريقيًا من جانب، فضلاً عن مساعيها للتحكم في مياه نهر النيل بما معناه التأثير في القرار السياسي المصري والسوداني، فضلاً عن تأمين منطقة القرن الإفريقي بما يحول دون استخدامها فيما يهدد أمن إسرائيل.

“نون بوست” يسعى في هذا الطرح إلى إلقاء الضوء على المخطط الصهيوني للهيمنة على منطقة القرن الإفريقي عبر بوابة إثيوبيا، حيث نجح الكيان المغتصب في ضخ العشرات من المليارات في صورة استثمارات في إثيوبيا والكونغو مستغلاً الحالة الاقتصادية المتردية لهذه الدول بما يضمن ولاءها والتحكم في قرارها السياسي، والعسكري أحيانًا.

العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية

العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية لم تكن وليدة اليوم ولا الأمس، بل تعود في جذورها إلى بداية نشأة الكيان الصهيوني، حيث تعد إثيويبا حليفًا استراتيجيًا لإسرائيل منذ القدم، نظرًا لما بين الدولتين من روابط عرقية تعود إلى وجود العديد من يهود “الفلاشا” داخل إثيوبيا، وسعي تل أبيب الدائم إلى استقطابهم، نظرًا لما توفره تلك الطبقة من أيدي عاملة، تساهم في المهن المختلفة التي تحتاجها إسرائيل دائمًا، لذا التقارب الإسرائيلي الإثيوبي حلقة مهمة من سياسات التوسع الإسرائيلي الإفريقي.

التواجد الإسرائيلي في إثيوبيا يعود إلى ستينات القرن الماضي، حيث أقدمت تل أبيب على الحضور المبكر لها في القارة الإفريقية من خلال إرسال خبرائها في مجال الاقتصاد والأمن والزراعة والاتصالات، فضلاً عن تدشين سفارتها التي تعد الأضخم بين سفارات تل أبيب بعد سفارتها في الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب مركز القدس للدراسات السياسية.

أما فيما يتعلق بالعلاقات الدبلوماسية المعلنة بين البلدين فتعود إلى 1989، حيث زيارة رئيس وزراء إثيوبيا حينها إلى تل أبيب، ثم زيارة وزير خارجية إثيوبيا 2003، أعقبها الزيارة التاريخية لوزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، سيلفان شالوم إلى أديس أبابا في 2004، برفقة وفد اقتصادي مكون من 22 شخصية اقتصادية إسرائيلية معروفة، لتعلن بموجبها تل أبيب نيتها تطوير الصناعة والزراعة الإثيوبية عن طريق استخدام التكنولوجيا الزراعية التي تفتقر إليها إثيوبيا، بالرغم من وجود أراضي وثروة مائية كبيرة في أديس أبابا لكنها غير مستغلة بحسب مراقبين في هذه الآونة.

وبعيدًا عن الزيارات الرسمية بين البلدين، فهناك العشرات من الزيارات والبعثات الطلابية التي تحرص إسرائيل على زيادتها مع الجانب الإثيوبي، من خلال إرسال وفودها إلى أديس أبابا، والعكس، بما يضمن الحضور الثقافي الصهيوني في القارة الإفريقية.

وفي سبتمبر 2012 ذكرت صحيفة “كابيتال” الإثيوبية، أن مجلس إدارة شركة الكهرباء الإثيوبية التابعة للدولة وافق بشكل رسمي على اختيار شركة كهرباء إسرائيل لتولي إدارة قطاع الكهرباء في إثيوبيا، كما تم الاتفاق على إنشاء محطات طاقة ووقود تتولى إسرائيل إدارتها.

واستمرت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين في تزايد يعكس عمق التواجد الإسرائيلي إفريقيًا، حتى إن وزير الزراعة الإثيوبي تفرا دبرو، أعلن أن 250 شركة إسرائيلية تقدمت بطلبات للحصول على رخص تجارية للعمل في مجالات مختلفة داخل إثيوبيا في مارس الماضي.

وبحسب بعض المصادر فإن ما يقرب من 50 رجل أعمال إسرائيلي بدأوا في تنفيذ عدد من المشروعات الاستثمارية في عدة مجالات في إثيوبيا، وهو ما أكده وزير الزراعي الإثيوبي بقوله إن بلاده تتطلع إلى الاستفادة من التجربة الإسرائيلية التي تمتلك التكنولوجيا الحديثة في قطاع الزراعة، وإن العلاقات القديمة بين البلدين لم تستفد منها بلاده في تعزيز التبادل التجاري والاستثماري على الوجه الأمثل.

أما موقع إثيوميديا فقد كشف في تقرير له عن دعوة أديس أبابا لعدد من المستثمرين الإسرائيليين للمشاركة في تنفيذ خطط الحكومة الإثيوبية الخاصة بالسنوات الخمس المقبلة، حيث سيتم بناء 2.4 مليون وحدة سكنية جديدة، وبالإضافة إلى ذلك من المقرر أن يتم إنشاء 8 مناطق صناعية جديدة.

وأكد الموقع الإثيوبي أنه بالفعل زار مندوبون من شركة “ألفا بيتا” التي تعتبر واحدة من أكبر شركات التصميم في إسرائيل المواقع المراد الاستثمار فيها والأحياء والمناطق الجديدة التي سيتم بناؤها، مؤكدين أن اقتصاد إثيوبيا ينمو بسرعة كبيرة، حيث وصل النمو في قطاع البناء والتشييد لما يزيد على 30% خلال العامين الماضيين.

وبصفة عامة فإن التواجد الإسرائيلي في إفريقيا ليس عملية عشوائية تسير وفق الأهواء والمصالح قدر ما هي استراتيجية مخطط لها منذ عقود طويلة، وهو يبرهن عليه إنشاء مركز “الماشاف” المتخصص في الدراسات والأبحاث الإفريقية كأحد الأذرع الرئيسية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وقد تم إنشاؤه في الخمسينات من القرن الماضي ويعمل على تعزيز التعاون الإسرائيلي الإفريقي.

الكاتب الإسرائيلي أريه عوديد، في كتاب “إسرائيل – إفريقيا العلاقات الإسرائيلية الإفريقية”، يقول “إن البداية كانت عندما سافر أول ممثل لهذا المركز، دافيد هاكوهين، إلى بورما عام 1953، ضمن برنامج التعاون مع الدول النامية، إذ استدعى في ذلك التوقيت خبراء إسرائيليين إلى هناك، وكذلك استقبلت إسرائيل الدارسين البورميين، لتأهيلهم في مختلف المجالات، فلقد كان نشاط هاكوهين مثالاً يُحتذى به في مجال المساعدات الإسرائيلية الإفريقية”.

وقد اختلف الخبراء في تحديدهم لأهداف هذا المركز، فالبعض يرى أنه أنشئ في الأساس كأداة لتحقيق أهداف سياسية إعلامية، وأن مساعداته مشروطة بضرورة اتخاذ مواقف سياسية على هوى إسرائيل، فيما اعتقد البعض أن هدف المركز يتمحور حول الواجب الإنساني والأخلاقي في تقديم المساعدات، وقد حرص بن جوريون وقتها على تأكيد الدوافع الإنسانية للمركز، فضلاً عن حرصه الشديد في توجيه تهانيه الحارة لرؤساء الدول المستقلة حديثًا.

غياب الدور المصري

لم تجد إسرائيل الفرصة السانحة للتوغل في القارة الإفريقية إلا عندما فُرغت الساحة تمامًا من الوجود العربي عمومًا والمصري بصورة خاصة، ففي الوقت الذي كانت دول حوض النيل والقرن الإفريقي تمد يدها لمصر لتفعيل سبل التعاون فيما بينها، اختارت القاهرة الابتعاد والتراجع بعدما كانت اللاعب الأساسي في هذه المنطقة إبان الفترة الناصرية.

ومن يتابع يجد أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس المصري مبارك خلال زيارته لأديس أبابا 1995م، كانت الشعرة الأخيرة التي سلخت مصر من محيطها الإفريقي، ومنذ هذه اللحظة أعلنت تل أبيب حالة الطوارئ القصوى لاحتلال الدور المصري في القارة لكن لأهداف وتوجهات مختلفة تمامًا.

ومنذ الألفية الحالية بدأت تل أبيب في التوسع بشكل كبير في محيط التعاون مع إثيوبيا سواء في المجال الاقتصادي أو العسكري أو التكنولوجي والزراعي ومجال الأقمار الصناعية والفندقة، وهو ما وضع أديس أبابا في مصاف الدول ذات الموارد الاقتصادية والبنية التحتية الجاذبة للاستثمار في القارة الإفريقية خلال الآونة الأخيرة مما جلعها قبلة للمستثمرين من مختلف دول العالم إلا القاهرة.

ماذا تريد تل أبيب من إفريقيا؟

تباينت أراء الخبراء والمحللين في تحديد الأهداف الإسرائيلية من وراء تعميق تواجدها في منطقة القرن الإفريقي عامة وفي إثيوبيا بصفة خاصة، حيث أشاروا إلى أن هناك عدة أهداف سياسية واقتصادية وأمنية تسعى إسرائيل لتحقيقها جميعها في آن واحد من جراء هذا التوسع في الشأن الإفريقي.

الصحفي السوداني والخبير في شؤون القرن الإفريقي، سيد أحمد خليفة، أشار إلى أن وجود إسرائيل في إثيوبيا هو تخطيط للمستقبل إضافة إلى تحقيق العديد من النجاحات في الوقت الراهن، منوهًا إلى أن العلاقات الإثيوبية الإسرائيلية ظلت دائمًا مميزة، دون أن تتأثر بالحقب التاريخية التي انضمت فيها أديس أبابا لبعض التحالفات المعادية للكيان الصهيوني، لاسيما حقبة منغستو هيلا مريام، الاشتراكية.

الخبير في شؤون القرن الإفريقي أشار إلى أن الملف المائي الخاص بنهر النيل أحد أبرز الدوافع وراء تقوية تل أبيب علاقتها بإثيوبيا، وهذا يحقق لها هدفين كلاهما مرتبط بالآخر، الأول هو ضمان الوفرة المائية القادمة من إثيوبيا إلى تل أبيب عبر عدة منافذ، ثانيًا الضغط على القرار السياسي للقاهرة بما يصب في صالح الكيان الصهيوني، وهو ما يفسر التعنت الإثيوبي في مفاوضات سد النهضة الأخيرة والتي فشلت فيها القاهرة في الضغط على أديس أبابا لإثناءها عن بناء وتشييد السد، في ظل الدعم الإسرائيلي المادي والسياسي فضلاً عن الوساطة الصهيونية في تحييد القرار الدولي فيما يتعلق بالدفاع عن حق مصر في حصة مياه النيل.

أما البروفسير حسن مكي الخبير في شؤون القارة الإفريقية، والأستاذ بجامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم، فقد عزز التواجد الإسرائيلي في القرن الإفريقي إلى عدة مستويات استراتيجية، منوهًا أن تل أبيب تسعى من خلال هذا التواجد – السياسي في المقام الأول – إلى توظيف الفلاشا مورا والفلاشا، يهودا، بما يصب في صالح إسرائيل دوليًا، وذلك من خلال الاستفادة بالتوجه العالمي الجديد الرامي إلى  إعادة الاعتبار لكل ما هو أسود من خلال الاحتفاء برموز سوداء كمايكل جاكسون الأب ديزموند توتو كولن باول كونداليسا رايس نلسون مانديلا وكوفي أنان علاوة على التلميحات بإمكان انتخاب بابا أسود خلفًا للبابا يوحنا بولس الثاني.

مكي أكد أن تل أبيب ستوظف هذا التوجه العالمي بما يصب لمصلحتها من خلال تهجير العرب واستيعاب سود في مجتمعها بغية التأكيد للأفارقة بصفة عامة، بوجود جذور مشتركة تسهّل مهمة عزل العرب عن إفريقيا، إضافة إلى التحكم في ملف مياه النيل بإعادة الفلاشا مورا والفلاشا إلى إثيوبيا، كسادة لبحيرة “تانا”، للعمل على صعيد استراتيجي لخدمة أهداف تتعلق بتعميق الشكوك والقطيعة بين دول البحر الأحمر ودول حوض النيل.

ومن زاوية أخرى، أشار السيد الربوة، الباحث في الشأن العربي، إلى أن خروج مصر من المعادلة الإفريقية كان أكبر خطايا نظام مبارك ثم الأنظمة التالية له، حيث استغلت إسرائيل هذا الخطأ ونجحت في سد الفراغ وتعويض دول القرن الإفريقي عن غياب الدور المصري بل ووظفت – إسرائيل – كل طاقاتها وإمكانياتها وعلاقاتها الخارجية في وضع أديس أبابا على خريطة الاقتصاد الدولي مما حدا بالأخيرة إلى محاولة رد الجميل وتنفيذ كافة السياسات التي من شأنها خدمة الأهداف الإسرائيلية حتى وإن تعارضت مع المصالح الإثيوبية على المدى البعيد.

ومن الأهداف التي ألمح إليها الباحث في الشأن العربي، ضمان تل أبيب السيطرة على مضايق القرن الإفريقي بما يضمن لها عدم توظيفها في الأعمال العدائية ضد الكيان الصهيوني، وهو ما تجسد في القلق الذي أبداه بعض قادة الموساد مؤخرًا بشأن هذه المعابر.

الربوة ىتفق مع البروفسير حسن مكي، والصحفي سيد خليفة في أن ملف المياه كان الأبرز بين الأهداف الصهيونية من وراء التواجد الإفريقي، مؤكدًا أنه وبالرغم من التقارب بين وجهات النظر بين تل أبيب والقاهرة، إلا أن الإدارة الاسرائيلية متخوفة من المجيء بنظام سياسي يكن العداء للوجود الصهيوني في فلسطين ويدعم حق المقاومة في الدفاع عن نفسها، كما فعل نظام الرئيس محمد مرسي، وهو ما حدا بخبراء الموساد إلى تفعيل سبل الضغط على القاهرة والسيطرة عليها من خلال التحكم في منابع نهر النيل بما يضمن عدم خروج القرار المصري عن الخط المرسوم له من دعم لتل أبيب أو على الأقل عدم التأييد للمقاومة.

ويبقى السؤال: إذا كانت إسرائيل تبذل كل ما بوسعها من أجل التواجد الإفريقي الذي يضمن لها تحييد القرار المصري بشأن القضية الفلسطينية والسورية، فضلاً عن التحكم في مياه نهر النيل من منابعها الأصلية، إضافة إلى تسيس القارة الإفريقية بما يصب في صالح الكيان الصهيوني، فأين الدور المصري؟ وأين الدبلوماسية المصرية التي ما نجحت إلا في مطاردة ميكروفونات الجزيرة هنا وهناك؟ أين السياسة الخارجية المصرية من السيطرة الصهيونية على النيل والتأثير – بلا شك – على حصتها من المياه؟ أسئلة تفرض نفسها، فهل من مجيب؟