قبل قرن فقط أو يزيد من اليوم، كانت مدن أنطاكية وأورفا وعنتاب التركية جزءًا من ولاية حلب، وكانت نُصيبين السورية في ولاية ديار بكر الكردية، في حين تمتعت دير الزور والموصل بولايات منفصلة، في تداخل واضح بين مناطق عربية وكردية وتركية لم يشكل أي خطر يُذكر أنذاك على الخلافة العثمانية المتمركزة في إسطنبول، والتي استندت للهوية الإسلامية بشكل رسمي، ولرابطة سياسية عثمانية أكثر مرونة واستيعابًا لكافة الأقليات العرقية والدينية الموجودة على أراضيها، بيد أن ذلك الانسجام لم يستمر طويلًا مع مطلع القرن العشرين.

في فترة قصيرة نسبيًا تحوّل الانسجام الثقافي من إحدى مكتسبات المنظومة العثمانية، إلى مصدر من مصادر القلق للدولة التركية التي تبلورت كمفهوم في أذهان شرائح متزايدة من المثقفين والضباط الأتراك، قبل أن تتحقق بالفعل على الأرض عام 1923، وهو قلق شهدت المنطقة تبعاته بوضوح خلال فترة حُكم جمعية الاتحاد والترقي القومية التركية المتطرفة (1908-1918)، وهي جمعية أخذت على عاتقها تتريك الأناضول بالكامل وقدر المستطاع، مما أدى لقيامها بجرائم عرقية موسعّة أشهرها بالطبع إبادة الأرمن، والذين نزحوا بالملايين إلى سوريا ولبنان والقوقاز حيث تقبع أرمنيا اليوم كبلد صغير.

لم يختلف الأمر كثيرًا بصعود مصطفى كمال أتاتورك وحزبه الجديد إبان الانتصار في حرب الاستقلال واستعادة البعض من خسائر الحرب العالمية الأولى التي تكبدتها جمعية الاتحاد والترقي، فقط ظل هاجس تتريك الأناضول للحفاظ على وحدة الأراضي التركية وامتدادها من البوسفور إلى جبال القوقاز وحدود إيران، لتستمر سياسات طرد الأقليات غير المسلمة (باعتبارها غير تركية حيث كانت يونانية وأرمنية بالأساس) خاصة من المدن جنوبي وشرقي الأناضول، علاوة على بدء سياسات القمع الواضحة تجاه الأكراد وثقافتهم.

في عام 1923 إذن رُسِمَت الحدود الرسمية بين ما اعتبرته تركيا أنذاك نهاية وجود الأتراك وبداية وجود الأغلبيات العربية في الشام والعراق، ليصبح لدينا الخط الطويل الفاصل اليوم بين تركيا وسوريا، والذي لم يكن موجودًا في معظم مراحل التاريخ حقيقة، على العكس مثلًا من الحدود بين تركيا وإيران والتي ظلت ثابتة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وبينما عكفت الجمهورية التركية الوليدة على توطين المزيد من الأتراك في الجنوب، خاصة في لواء الإسكندرونة المعروف اليوم بولاية هطاي، بعد حيازته من فرنسا كمنطقة ذات أغلبية تركية عام 1938 (وفرنسا كانت المستعمر الرسمي لسوريا في ذلك الوقت،) فإن الفشل المستمر في السيطرة على ذلك الشريط الطويل ظل مصدر القلق الرئيسي للجمهورية سياسيًا واقتصاديًا، وحتى لسرديتها الرسمية عن الهوية التركية.

الخط المضطرب في القرن العشرين

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تعاونت الجمهورية التركية مع سلطات الانتداب الفرنسي في سوريا لحل المعضلة التي كانوا بصددها بعد الحرب، وهي أن الكثير من الأراضي المتداخلة بين الطرفين رعاها فلاحون أتراك وسوريون هنا وهناك بشكل يصعب معه منعهم بين يوم وليلة من عبور الحدود، وبالتالي تبلورت اتفاقيات وترتيبات على الأرض بينهما للسماح للفلاحين بالعبور ورعاية أراضيهم، وهي اتفاقيات تمت مراجعتها مع استقلال سوريا عام 1946، غير أن ظهور حزب البعث في سوريا عقّد ذلك الملف تمامًا نتيجة لفقدان الثقة بين الطرفين، لا سيما مع الخطاب القومي العربي الذي انطلق من سوريا بعد الاستقلال وطالب بلواء الإسكندرونة كأرض سورية، ثم مع لجوء البلدين لاتجاهين معاكسين أثناء الحرب الباردة، إذ أصبحت تركيا عضوًا بالناتو، وصارت سوريا الحليف السوفيتي الأبرز في الشرق الأوسط ومحيط المتوسط.

بالتزامن مع سيطرة البعث في سوريا، كانت تركيا تعاني من ويلات خروج كافة الأرمن واليونانيين وبعض العرب من أراضيها، والذين سيطروا في أغلب الأحيان على الكثير من أشكال التجارة في العهد العثماني وساهموا في رخائه الاقتصادي، في حين ارتكز اقتصاد القطاعات التركية للزراعة والرعي والمهام الإدارية والعسكرية، ومن ثم بدأت في تلك المرحلة حملة لتتريك الاقتصاد باسم مركزية الدولة شهدت فيها تركيا ظهور وكالات مختلفة تابعة للقطاع العام تدير بشكل شبه كامل التجارة والصناعة، وهي مركزية أدت لإنتاج شبكات اجتماعية اقتصادية جديدة تركية فاعلة في مجال التجارة والصناعة، ولكنها كانت مصطنعة بالطبع بشكل ما ومعتمدة على الدولة ولم تؤدي لأي رخاء حقيقي يُقارن بدينامية الاقتصاد العثماني.

بينما سيطر البعث في دمشق وسيطرت الجمهورية في أنقرة، وكما هي العادة مع كافة الدول الحديثة، ظلت سيطرة الدولة ضعيفة في الأطراف، والمثال الأهم هنا كان الحدود التركية السورية مرة أخرى، حيث استمرت شبكات التجارة القديمة بين العرب والأتراك في جنوب تركيا وشمال سوريا بخلق نوع من الدينامية الاقتصادية معتمدة على الطلب في الأسواق المحلية بتلك المناطق، بل وأدت لمقاومة تلك الولايات لمركزية الدولة، كما حدث مع ولاية عنتاب التركية، والتي نجحت في إفشال مخطط الدولة التركية للسيطرة على تجارة الفستق المشهورة بالمدينة، وكذلك مع العديد من المنتجات التركية التي استمر إنتاجها وبيعها بشكل محلي وعبر الحدود لمستهلكيها بشمال سوريا، وبعض المنتجات السورية، وهي الأفيون بالأساس، القادم من سوريا عبر تركيا وإلى بقية أنحاء أوروبا.

كعادتها، حاولت الدولة التركية حل تلك الهشاشة في حدودها الجنوبية بالقوة، باستهداف المهربين تارة واعتقالهم تارة أخرى، لكن “السوق السوداء” كما تسمى ظلت حية، ويمكن رؤية آثارها بوضوح في البازارات الضخمة المعروفة بولايات الجنوب التركية، وهي سوق لم توقفها حتى الحرب الأخيرة في سوريا، كما أن نظام البعث من ناحيته قد استغل تلك الثغرة للضغط على تركيا في إطار علاقته المتوترة معها طوال القرون الخمسة الماضية، علاوة بالطبع على دعمه لمجموعات مثل حزب العمال الكردستاني، وهي سياسة مستمرة إلى اليوم، وكذلك مجموعة أصالا الأرمنية المسلحة التي نشطت بقوة القرن الماضي ضد الدولة التركية.

الحدود السورية اليوم: قلق تركي واشتباك عثماني

اليوم، وبينما تعيد الدولة التركية تعريف نفسها تحت حُكم حزب العدالة والتنمية، فإن التغييرات التي تريد إلحاقها بالمنظومة الاجتماعية والاقتصادية لتعزيز فكرة الوطن التركي كوطن متعدد الأعراق واللغات ستأخد سنوات طويلة لتترسخ على الأرض، وهو وقت ستظهر فيه بالتوازي سمتان للحدود السورية اليوم، سمة معاصرة وهي مدى ما تشكله من قلق بالنسبة للأمن القومي التركي بتعريفه التقليدي، والذي لا يزال مستمرًا في رؤية الدولة التركية لنفسها ولو جغرافيًا، وسمة قديمة هي الاشتباك الكامل معه المجتمعات الكائنة عبر الحدود دون خوف، وهو استباك يستند بالطبع للثقافة الجديدة التي تحاول الجمهورية بثها وبدأت تجني ثمارها ولو جزئيًا.

بعد حوالي قرن من مذابح الأرمن وحملات قمع الأكراد والعرب في تركيا، ولأول مرة منذ سقوط الخلافة العثمانية، تجد تركيا نفسها وقد صار لها ظهير إقليمي نوعًا ما ممثلًا بالطائفة السُنية في سوريا وميليشياتها وإن كانت ضعيفة، وكذلك في حكومة كردستان العراق، والتي شكلت هي الأخرى خطًا أحمر مثيرًا للقلق يومًا ما حتى تسعينيات القرن المنصرم، قبل أن تقرر حكومة العدالة والتنمية أن ظهور كردستان ذاتي الحكم في العراق فُرصة للاشتباك وليس مصدرًا للقلق، ومن ثم تحصل على أبرز حليف تركي في المشرق حتى اليوم، وتلك الثقة في التشابك مع المجتمعات الكائنة عبر الحدود لم تكن لتتم فقط عبر الخطاب الإسلامي والحديث عن الهوية العثمانية، بل هي نتاج واقعي أيضًا لاستعادة المجتمعات التركية لثقتها في السنوات الأخيرة، وتبلور اقتصاد وتجارة وصناعة تركية أكثر دينامية من أي وقت مضى تحت حكم الجمهورية، مستفيدة في ذلك من الانفتاح الذي بدأ في أواخر الثمانينيات.

تلك الإدارة التركية الجديدة إن جاز القول، تجد اليوم في أسواق الحدود كما يجدر بنا أن نمسيها فرصة لمد خطوط الاتصال الثقافي والتاريخي وتعزيز الأمن الجغرافي في آن، لا سوقًا سوداء وشبكات تهريب يُنظر لها من المنظور الأمني فقط كما في السابق، وهو ما يفسر ربما ازدهار التجارة عبر الحدود السورية رُغم تدهور الاقتصاد السوري، وظهور طبقة جديدة من التجار ورجال الأعمال السوريين وثيقي الصلة بالمصالح التركية خاصة في الشمال، بالتوازي مع بروز تركيا كأكبر شريك اقتصادي بشمال العراق.

لعل تلك الحقائق هي ما دفعت رجال الدولة التركية فعليًا لرعاية تلك الشبكات التجارية الجديدة بدلًا من محاربتها، ودفعت الرئيس التركي لإعلانه صراحة أنه غير مهتم بأي تدفق للأموال من وإلى تركيا عبر الحدود السورية، وانتهاجه فعليًا سياسة الباب المفتوح بكل جوانبها، من استقبال اللاجئين السوريين لتعزيز التجارة من وإلى سوريا، وتمرير السلاح إلى ميليشيات الثورة السورية، وحتى غض الطرف عن شبكات تهريب المسلحين المتجهين لداعش والأموال الذاهبة إليها، وهي سياسة تعني بوضوح أن الجمهورية التركية أصبحت تنظر للحدود السورية كمفتاح هام للاشتباك بالمنطقة المحيطة بها وتعزيز دورها وأمنها، بيد أن ذلك لا يعني تخلي الدولة التركية عن النظر للحدود السورية كمصدر للقلق بعد، لا سيما وأن الحدود ليست ملكًا لتركيا كما كانت في العصر العثماني، فالنظام البعثي لا يزال متواجدًا كظهير لروسيا، كما يتواجد حزب العمال الكردستاني مدعومًا من النظام والروس على السواء ليظل الإشكالية الرئيسية ربما للدولة التركية الآن في حدودها الجنوبية.