د.طيب تيزيني يكتب: تدشين سوريا الجديدة..كيف؟


د.طيب تيزيني

يعيش الناس حالتين اثنتين من القسوة، حين يسعون إلى تأريخ مرحلة من مراحل تاريخهم الدامي، على نحو ما يحدث راهناً في سوريا. ولا ينبغي الاندهاش من نشأة ظاهرة ملفتة لدى الكثير من السوريين، وهي إن هؤلاء تلبستهم حالة سوداوية إلى درجة التأثر العاطفي السريع بما يعصف بوطنهم الغالي، ها هنا، ولد البكّاؤون الذارفون لدموع تهيء للحياة القادمة الجديدة بالثالوث المجيد: الحرية والكرامة والديموقراطية، إضافة إلى العدالة.

وها نحن في النصف الثاني من الست سنوات من عمر الحدث السوري الأعظم، لنواجه خيارين اثنين كلاهما يشير إلى الآخر: أن نؤرخ للحدث إياه، أم نعيشه وربما نعيش ما قد يأتي استمراراً له! في هذا السياق أسترجع من الذاكرة التاريخية أمرين اثنين تحدرا من صديقين اثنين، كلاهما مات ورحل. الأول هو الشاعر المبدع ممدوح عدوان؛ أما ثانيهما فهو الباحث الاقتصادي عصام الزعيم. لقد أعلن الشاعر «عدوان» مرة بدعابته الهائلة، إنه – على صعيد المصداقية في إنجاز المرجعيات السورية في حينه – لا يصدق حتى «النشرة الجوية»، التي يعلنها المعنيون، أما الدكتور عصام الزعيم – وكان في حينه وزيراً للاقتصاد – فقد اتصل بي وأعلمني أنه سيقدم لي «ورقة عمل حول الإصلاح في سوريا»، أنجزها فريق عمل ضمن المرجعيات الرسمية المعنية، حصلت عليها، بعد أن أعلمني أننا سنلتقي بمناسبة تداول «الورقة» إياها، ربما بعد أسبوع ونيف.

وكانت فرصة لي ولأصدقاء باحثين أن نجتمع كي ندرس الورقة. وكنت قد استبشرت خيراً في ذلك. وجاءت الدعوة للقاء البحثي الجماعي – هكذا أظننت حين اتصل بي الدكتور الوزير عصام؛ لكنني شعرت بخيبة أمل كبرى حزينة، حين أعلمني الصديق أن مناقشة «الورقة» أرجئت لوقت غير مسمى.. ومات الرجل الباحث، كما مات الشاعر.

ولن استفيض في المسألة بعدئذ، لأن المبادرات والدعوات للعمل توقفت، وتعاظمت تساؤلات الشعب السوري عن مصير «الإصلاح»، كما تراكمت المطالبات السلمية الطيبة بالتغيير والإصلاح، دونما أدنى استجابة من المرجعيات المعنية.

وقد أثارني واستفزني ما رأيت على التلفاز: لقد شاهدت قاعة مستطيلة طويلة تعج بالأوراق النقدية المحلية والدولية؛ مع تعليق بأن اليد قد وُضعت على هذه الأخيرة: من وضع يده عليها، وكيف تم الصمت عليها… كانت مناسبة استفزازية لكثير من «أناس لا يملكون أحياناً حتى أحلامهم في الشبع والكرامة والعدالة مع الحرية، كان الموقف مأساوياً فظيعاً في تمدده واتساعه، ونشأت حالة من الصمت والدهشة، واتسعت هذه الحالة، حين ولدت منها دعوة للخروج إلى الشارع، وتقديم رسالة إلى المسؤولين أن افعلوا شيئاً! ها هنا برزت «ثلاثية الحكمة» لدينا بمثابتها دعوة ممن بيده القرار، أن افعل شيئاً، ونحن مع السلم والسلامة والتغيير الصادق والحفاظ على سوريا والشعب السوري.

كل ذلك ذهب مع الريح، وبدأ يثبّط همم النساء والرجال والأطفال، بحيث إن حالة من اليأس الحزين أخذت تعم طبقات المجتمع وفئاته، خصوصاً ما يتصل منها بطبقة الفقراء والمفقرين، وبالفئات الوسطى التي عادة تؤسس للتوازن الاجتماعي وللحراك والإنتاج الثقافيين والسياسيين. ونلاحظ الآن المدى الدولي الخطير الآخذ يومياً في التوسع، ربما إلى الحد الذي قد يشعل العالم في حرب أو حروب مفتوحة. أما سوريا، أيقونة العالم كما يتضح الآن، فعليها أن تدفع الثمن: لقد اختفت الحكمة، وتحول أطراف اللعب الدولي، إلى مؤججي النار في الحلبة السورية نفسها.

في مثل هذه الحال الخطيرة، لا يسع المرء إلا أن يعلن، بكل حزم وبساطة: أيا هؤلاء اخرجوا من سوريا، ودعوها تحل مشكلاتها بنفسها؛ فتكون – بذلك قد انحنت على مشكلاتها ومصائبها، وهي الأدرى والأكثر استيعاباً لها، وكذلك الأكثر حناناً ورأفة وحكمة بها.

وإذا توصلنا إلى «عنق الزجاجة»، فإننا لا نملك في «مخزون الحكمة الوطنية» إلا أن يلتقي «أهل الدار» بعضهم ببعض، ويتفقوا على كلمة سواء هي: اعملوا من أجل سوريا القادمة الجديدة، التي لا يمكن أن تخرج عن الحقائق. ابدؤوا الآن وليس غداً بتأسيس ما يحمي سوريا، وهو الحرية والديموقراطية والعدالة والكرامة؛ وإذ ذاك، تكونون قد بدأتم بتدشين سوريا الجديدة.

المصدر: الاتحاد

د.طيب تيزيني يكتب: تدشين سوريا الجديدة..كيف؟ على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -

أخبار سوريا ميكرو سيريا