نقابة الصحافيين المصريين واحة مبادئ في بحر من التقلبات
17 أيار (مايو - ماي)، 2016
من بين آلاف الشعارات النقابية والفئوية التي عرفها العالم في تاريخه الحديث لم يحظ شعار بنفس حجم الجدل والخلاف الذي حظي به شعار “العضوية كالجنسية” الذي أطلقه الكاتب الصحافي المصري الراحل كامل زهيري.
صاحب هذا الشعار قصد منه وصف أهمية وقدسية نقابة الصحافيين بالنسبة إلى أعضائها، في عنفوان معركة النقابة مع الرئيس الراحل أنور السادات الذي أمر بتحويلها إلى ناد اجتماعي عام 1980.
ورغم مرور ما يزيد على 36 عاما على إطلاق الشعار، لا يزال يستخدم للتعبير عن تميز الصحافيين المصريين في مجتمعهم. كما يلجأ إليه خصومهم للإشارة إلى تقوقع أبناء مهنة البحث عن المتاعب في برجهم العاجي.
بين الاستخدامين بقيت نقابة الصحافيين حالة خاصة جدا في العمل النقابي والسياسي، تصنع ربيعها المتجدد بنفسها وتضع أجنداتها السياسية والمهنية في استقلالية واستنادا إلى دوافع نزيهة في أغلبها.
هذه الخلطة صنعت علاقة متفردة في علاقة نقابة الصحافيين بالدولة على تتابع الأنظمة الحاكمة، خلاصتها ألا تكون منحازة للنظام ولا تكون ضده، وهي نفسها التي صاغت علاقة النقابة بالتيارات والقوى السياسية الأخرى.
لكن التناسق الافتراضي بين عناصر الخلطة السرية لهذه العلاقة لم يسر بالشكل الأمثل على الدوام، وشهد التاريخ مواقف اختل فيها التناسق، وطغت عناصر على أخرى، لتجد النقابة نفسها في مواجهة مع الدولة مثلما حدث في الأزمة التي اندلعت مؤخرا.
بدأ الأمر بموقف يحمل قدرا من التعنت من وزارة الداخلية التي اقتحمت مبنى النقابة للقبض على صحافييْن متّهمين في جرائم سياسية، في مبالغة مجانية من الوزارة السيادية كان يمكن تجاوزها عبر الالتزام بالقانون.
في المقابل، قام مجلس النقابة وخلفه المئات من الصحافيين الأعضاء فيها بتصعيد لا يقل مبالغة عن تصرف وزارة الداخلية، كان المقصود منه فيما بدا استعراض العضلات بعدما تكررت انتقادات الرئيس المصري للأداء الإعلامي والصحافي في أكثر من مناسبة دون أن يتصدر أحد أو جهة للدفاع عنهم.
من أبرز المشاهد اللافتة في تاريخ نقابة الصحافيين المصريين علاقتها المتشابكة جدا بالسلطة والأنظمة السياسية المتعاقبة منذ نشأة النقابة عام 1941 وحتى الآن.
فكل طرف يحتاج إلى الآخر بشدة ويدرك هذا الاحتياج لكنه يرفض الاعتراف به أو على الأقل المجاهرة بالاعتراف، وفي نفس الوقت يمارس أقصى ضغط ممكن ليجبر الطرف الآخر على الاعتراف أولا باحتياجه له.
(اختيار نقيب مدعوم من الدولة ومجلس معارض) مبدأ ينقل العلاقة بين الطرفين إلى منطقة جديدة يجرى فيها اللعب على المكشوف، حيث تم التراضي على أن يرضى الصحافيون الدولة باختيار مرشحها مقابل الحصول على مبلغ مالي يحتاجه أغلب أعضاء النقابة، ثم انتخاب مجلس يضم أغلبية معارضة للنقيب
أنشئت النقابة بموافقة حكومة مصطفى النحاس الوفدية دون أن يكون لها مقر، حتى طلب محمود أبو الفتح أول نقيب للصحافيين من الدولة الحصول على قطعة أرض، وهي لا تزال مقرا للنقابة حتى الآن، في شارع عبدالخالق ثروت في قلب العاصمة القديمة.
بعد ذلك واجه مجلس النقابة مشكلة تدبير المبالغ اللازمة لبناء المقر، ولم يستغرق الأمر طويلا حتى عاودوا الكرّة طالبين أن تتحمل الدولة تكاليف البناء التي ناهزت 40 ألف جنيه (حوالي 4500 دولار)، فوافق رئيس الوزراء وقتها محمود فهمي النقراشي على تحمل 35 ألف جنيه مثلت حوالي 90 بالمائة من إجمالي التكاليف.
شكلت الواقعة أول إعلان مباشر عن اعتماد الصحافيين ونقابتهم العتيدة على الدولة في تسيير أمورهم المالية، وهو اعتماد تراجع بشكل ملحوظ في فترتي حكم عبدالناصر والسادات.
لكنه عاد بشكل سافر في بداية حكم حسني مبارك، حينما قررت الدولة تخصيص بدل نقدي لأعضاء نقابة الصحافيين مقداره 30 جنيها (حوالي 3.4 دولارات) دعما لمرشّحها في انتخابات نقيب الصحافيين ربيع عام 1984 صلاح جلال، في مواجهة المرشح المنافس كامل زهيري الكاتب الصحفي المعروف بمشاغباته السياسية.
الطريف في الأمر أن الصحافيين لم يرفضوا البدل، ولم ينتصروا لزهيري في مواجهة الدولة وإنما انتخبوا صلاح جلال بالفعل. وظهرت وقتها مقولة ظلت تتردد في كل مناسبة انتخابية وهي “اختيار نقيب مدعوم من الدولة ومجلس معارض”.
هذا التطور نقل العلاقة بين الطرفين إلى منطقة جديدة جرى فيها اللعب على المكشوف، حيث تم التراضي على أن يرضى الصحافيون الدولة باختيار مرشحها مقابل الحصول على مبلغ مالي يحتاجه أغلب أعضاء النقابة، ثم انتخاب مجلس يضم أغلبية معارضة للنقيب لضمان ألا يحوّل دفة النقابة نحو الدولة.
هذه العلاقة المتراوحة مع الدولة توازت معها علاقة شبيهة بالقوى السياسية المختلفة، حفلت بكثير من لحظات التقارب والجفاء وفقا لمعيار وحيد حرص عليه أغلب الصحافيين على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية هو استقلال النقابة.
شهدت العقود الأربعة الأخيرة معارك لافتة بين جموع الصحافيين والتيار الإسلامي على وجه الخصوص دارت حول هدف واحد هو رغبة كل طرف في احتواء الطرف الآخر وتحويله إلى حصان طروادة لاستخدامه في اللعب مع الدولة.
ورغم أن النقابة نجحت في الحفاظ على استقلالها خلال “فتوحات” الإسلام السياسي، الذي سيطر على أغلب النقابات المهنية الكبيرة طوال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وحقق من خلالها انتشارا سياسيا لافتا، فإن الصحافيين واظبوا على انتخاب ممثل واحد على الأقل من التيار الإسلامي في مجالس النقابة المتعاقبة، لتحجيم هيمنة التيار اليساري على المشهد الصحافي والنقابي.
تعاظم نفوذ تيار السلام السياسي عقب ثورة يناير انعكس في نقابة الصحافيين بانتخاب الإخواني ممدوح الولي نقيبا لهم، لكن أعضاءها انقلبوا عليه بسرعة بسبب محاولته تسخير النقابة لتأييد الجماعة.
أغلب القضايا التي تواجهها نقابة الصحافيين منذ تأسيسها قبل 75 عاما لم تتغير رغم تغير الأنظمة السياسية، بين ملكية واشتراكية وليبرالية وإسلامية
الموقف الوطني للنقابة الرافض لتورطها في انحيازات سياسية ضد رغبة الشعب تبلور في الانتخابات الوحيدة التي جرت في فترة حكم الإخوان وتحديدا في مارس عام 2013، من خلال انتخاب نقيب ينتمي لليسار (ناصري) هو ضياء رشوان، والاعتداء على النقيب الإخواني خلال انعقاد الجمعية العمومية، قدمت النقابة أول سلوك عملي ضد الجماعة وحكمها، وهو ما تم البناء عليه لاحقا للوصول إلى ثورة 30 يونيو من نفس العام. كذلك تميّزت علاقة النقابة باليسار المصري بالمراوحة في أوقات كثيرة، وفي موقف معاكس انتخب الصحافيون اليساري جلال عارف نقيبا لهم لدورتين انتخابيتين عامي 2003 و2007 على حساب صلاح منتصر الليبرالي والمدعوم من الدولة في رسالة تحدّ واضحة للحكومة القائمة آنذاك.
صدامات نقابة الصحافيين مع الحكومات المتعاقبة حسمت غالبيتها لصالحها مستفيدة من عدالة ما تطالب به ووطنيته الخالصة غير المشوبة بمصالح خاصة، سواء كانت سياسية أو فئوية مثل باقي النقابات.
بدأ أول الصدامات عام 1951 وقبل اندلاع ثورة يوليو حينما تبنت كثير من الصحف مواقف تعزز المطالب الوطنية المصرية المتمثلة في جلاء الاحتلال الإنكليزي، وكالت الانتقادات للملك فاروق الأول الغارق في نزواته لدرجة لا تجعل لديه وقتا لإدارة الدولة.
كما رفعت الصحف سقف انتقاداتها للأحزاب السياسية القائمة وقتها، وصراعها للهيمنة على البرلمان ومن ثم السلطة، وإهمال مطالب الشعب العادلة في نيل استقلاله، واتهمت العديد من قيادات تلك الأحزاب بالفساد.
ردت حكومة حزب الوفد على ذلك بعرض مشروع قانون لتغليظ عقوبات النشر في الأخبار التي تمسّ أفراد الأسرة الملكية، من خلال إستفان باسيلي عضو الهيئة الوفدية وعضو مجلس النواب.
عقدت نقابة الصحافيين جمعية عمومية حضرها كل أصحاب الصحف ومحرروها للاحتجاج، وأصدرت الجمعية قرارا باحتجاب الصحف المصرية يوماً واحدا احتجاجا على التعديلات، ما أجبر باسيلي ومن ورائه حكومة الوفد على سحب المشروع.
بعد ذلك شهدت النقابة حالة أقرب للموت الإكلينيكي طوال فترة حكم الرئيس عبدالناصر الذي أمّم الصحف وفصل الكثير من الصحافيين المعارضين له وسجن البعض الآخر.
لكن نقابة الصحافيين التي يفترض أن تكون مسؤولة عن حماية أعضائها لم تحرّك ساكنا بسبب هيمنة الدولة عليها، حتى أنها اختارت الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو نقيبا للصحافيين لدورة واحدة عام 1960 مستفيدة من عضويته بالنقابة باعتباره رئيسا لتحرير جريدة الشعب.
ثم عادت النقابة لممارسة شغبها مع الدولة مجددا في نهاية الستينات وتحديدا بعد أن تولى الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين منصب النقيب عقب هزيمة 1967 حيث طالب مجلس النقابة الدولة بالتحقيق في أسباب النكسة ومحاسبة المسؤولين عنها.
أغلب القضايا التي تواجهها نقابة الصحافيين منذ تأسيسها قبل 75 عاما لم تتغير رغم تغير الأنظمة السياسية، بين ملكية واشتراكية وليبرالية وإسلامية
منذ تأسيسها في أربعينات القرن الماضي حظيت نقابة الصحافيين باستثناء لافت عن بقية النقابات المهنية تمثل في النص على حق النقابة في ممارسة العمل السياسي، بفضل النائب البرلماني وقتها يوسف أحمد الجندي الشهير بـ”رئيس جمهورية زفتي”.
فقد اعترض عند مناقشة قانون النقابة في مجلس الشيوخ على نص يحظر على أيّ نقابة الاشتغال بالسياسة، قائلا إن طبيعة تنظيم المهنة تقتضي من النقابة التطرّق للسياسة، كما أن رفع شأن الصحافة وإعلاء كلمتها يستدعى حتما تعرض النقابة للشؤون السياسية.
منذ ذلك الحين تمتعت النقابة بدور قيادي ليس بين مثيلاتها فقط، وإنما حتى وسط الأحزاب السياسية، وهو ما استفادت منه النقابة في كل معاركها مع السلطة في أمور تخص حرية الرأي.
وفّر الوضع القيادي للنقابة احتشادا مؤثرا خلف مواقفها ربما إيمانا بعدالتها، أو لقناعة بقدرة أصحاب الأقلام على التصدي للسلطة ما يعطي أملا للآخرين لتكرار الانتصار في مواقف مستقبلية.
كان لافتا في الأزمة الأخيرة مع وزارة الداخلية حجم الدعم المعنوي الواضح الذي حظيت به النقابة من مختلف القوى والكيانات السياسية وكذا من بقية النقابات المهنية.
فقد عقدت النقابة جمعيتها العمومية غير العادية في مناخ معزز ببيانات وتصريحات التأييد من العديد من النقابات المهنية، وكذا من رؤساء أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني تسابقوا جميعا على مناصرة النقابة في مواجهتها مع وزارة الداخلية.
المثير أن أغلب القضايا التي تواجهها نقابة الصحافيين وكل من توالوا على زعامتها منذ تأسيسها قبل 75 عاما، لم تتغير رغم تغير الزمن والأنظمة السياسية، بين ملكية واشتراكية ثم انفتاح اقتصادي مع توجه غربي، وكذلك حكم الإسلام السياسي.
ظل الشغل الشاغل للنقابة طوال هذه السنوات الدفاع عن المهنة والعاملين بها من مشاكل تسريحهم من صحفهم، وحمايتهم من الرقابة على الصحف، ثم ضمان حقوقهم في الحصول على المعلومات وأخيرا مقاومة رغبة الأنظمة المتعاقبة في تغليظ عقوبات النشر.
النقابة التي حاولت جميع الأنظمة التي توالت على حكم مصر استقطابها وفشلت، وحافظت على قدر كبير من استقلاليتها، لا تزال تقاوم هذه النظرة، وتتشبث بموقف شيوخها الذي قد يستعصي على فهم البعض، وهو أنها حصن الحريات ومدخل للحراك السياسي.
فقد كانت رأس الحربة في الاعتراض على كثير من سياسات الرئيس الراحل أنور السادات، ومهدت الوقفات الاحتجاجية أمام مقرها لثورتي يناير ويونيو، وساهمت في ضعضعة حكم الإخوان، وتحاول حاليا أن تكون الشوكة التي تقف في حلق الحكومة الحالية، فهل تنجح النقابة أم تنجح الحكومة في هذا الصراع ليتغير مسار التاريخ؟