‘الفشل الليبي: الحرب المنسيّة لأوباما وكلينتون’
19 مايو، 2016
أوراسيا ريفيو – إبوان24
في 17 فبراير عام 2011 اجتاح الربيع العربي ليبيا. وفي غضون بضعة أسابيع، سقطت طرابلس وتأسس المجلس الوطني الانتقالي كحكومة موازية لنظام القذافي الحاكم. بعد ذلك بوقت قصير، بدأت فرنسا ودول أوروبية أخرى الاعتراف بالحكومة الجديدة.
ومع بدء انحدار ليبيا إلى الفوضى، حاول القذافي الرد عسكريًا لصد تلك الانتفاضة. وفي أكتوبر عام 2011، قُتل القذافي ونجح الثوار في السيطرة على معظم أنحاء البلاد ووصلت الحرب الأهلية إلى نهايتها.
أطاحت ليبيا يطاغيتها وكانت الديمقراطية تلوح في الأفق. وبمجرد تحوّل تركيز وسائل الإعلام إلى أماكن أخرى، تجاهل الجميع ليبيا ومن ثمّ اندلعت الحرب. ساعد التدخل الأجنبي ودعم الانتفاضة في تحويل دولة مستقرة إلى عش دبابير من الفوضى والفتنة والإرهاب. واليوم، على الرغم من تجاهل وسائل الإعلام، تجد ليبيا نفسها متورطة في معركة وجودية على هويتها. مع القبائل التي تقاتل بعضها البعض من أجل السلطة وتنظيم داعش الذي يستغل حالة الفوضى لتوسيع الخلافة، يبدو مستقبل ليبيا قاتمًا في أحسن الأحوال.
ليبيا القذافي
من أجل فهم الوضع الحالي في ليبيا وتقييم نجاح حلف الناتو، لا بُدّ من فهم تاريخ البلاد في مرحلة ما قبل التدخل. في بداية القرن العشرين، كانت ليبيا مستعمرة إيطالية، ومثل بقية المستعمرات الأوروبية، كانت بنية مصطنعة من ثلاث مناطق متميّزة: برقة، فزان، وطرابلس. وعلى طول هذه المناطق الثلاث تنقسم البلاد الآن. بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، ظلّت ليبيا خاضعة للإدارة البريطانية والفرنسية حتى عام 1951 عندما أعلنت استقلالها في عهد الملك إدريس. أسس إدريس نظامًا ملكيًا دستوريًا. ومع اكتشاف احتياطيات نفطية كبيرة داخل البلاد، أصبحت ليبيا دولة غنية ولكن للأسف تركزت معظم الثروة في يد الملك والنخب الأخرى. في هذا الوقت، اجتاحت الثورات العلمانية العديد من الدول الاستعمارية السابقة، ولم تكن ليبيا استثناءً. شنّ الزعيم الليبي معمر القذافي ومجموعة من زملائه الضباط ثورة الفاتح في عام 1969.
وعلى غرار الثوريين العرب الآخرين، أعلن القذافي إنشاء نظام ديمقراطي لإخفاء حكومته الديكتاتورية. وباستخدام الثروة الضخمة من مبيعات النفط وقلة عدد السكان نسبيًا، أصبحت ليبيا من أغنى دول شمال أفريقيا. استخدم القذافي المال لشراء أسلحة لتزويد الحلفاء والجماعات الإرهابية في جميع أنحاء العالم. ولكن على عكس الملك إدريس أو الطغاة العرب الآخرين، قام القذافي بتطوير ليبيا، وتحديث نظام التعليم والبنية التحتية والرعاية الصحية في البلاد. وحقق أعلى مؤشر تنمية بشرية في أفريقيا وتجاوز دول في الشرق الأوسط بما في ذلك المملكة العربية السعودية في مجال التنمية. كما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي ليصبح من بين أكبر خمسة دول في أفريقيا، وأصبح الدعم المالي للتعليم الجامعي عالميًا، وساعدت برامج التوظيف في تدريب المواطنين لشغل الوظائف التي تتطلب مهارات خاصة، وأصبحت المياه العذبة متاحة بسهولة في بلد مدفون في الصحراء.
وعلى الرغم من كونه ديكتاتورًا لديه الكثير من الأعداء في الخارج بما في ذلك الولايات المتحدة، عمل القذافي باهتمام على تطوير البلاد. كان مستوى المعيشة مرتفعًا في ليبيا مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة. وفي حين كانت البلاد تفتقر إلى الحريات المدنية، أبلى معظم الليبيين بلاءً حسنًا في واحة الاستقرار التي أسسها الديكتاتور الليبي.
فقد القذافي دعم المجتمع الدولي بعد تورطه في تفجير طائرة بان آم 103 وملهى ليلي في برلين يرتاده أفراد القوات الأمريكية. منذ فترة التسعينات وحتى بداية الألفية، فرضت الأمم المتحدة عقوبات صارمة على ليبيا. بعد أن شهد سقوط زميله الديكتاتور صدام حسين، تخلى القذافي عن سعيه لأسلحة الدمار الشامل وبدأ التقارب مع الغرب. ولفترة قصيرة بدا أن كل شيء يسير على ما يرام، إلى أن اندلعت ثورات الربيع العربي والانتفاضة الليبية حتى انقلب كل شيء رأسًا على عقب. تعهد القذافي بإخماد الانتفاضة ضد حكومته، لكنه لم يتوقع تدخل حلف شمال الأطلسي. ادّعى الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أنه كان لزامًا على الولايات المتحدة وحلفائها التدخل على أساس أن أزمة إنسانية ذات أبعاد كارثية ستحدث في ليبيا.
“لقد جئنا، ورأينا. لقد مات”
كان سبب التدخل هو أن العالم، وخاصة الولايات المتحدة، لا يمكن أن يقف مكتوف الأيدي في ظل وجود ديكتاتور يذبح شعبه. في ظلّ هذه الذرائع، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1973 مع امتناع من روسيا وألمانيا والبرازيل والصين والهند. نصّ القرار على إنشاء مناطق حظر جوي وسمح بتنفيذ كافة الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين الليبيين. قاد حلف شمال الأطلسي الحملة لتنفيذ القرار مع تأييد من الولايات المتحدة، وفرنسا، والمملكة المتحدة. انتهت الحرب الأهلية بموت ما يقرب من 30 ألف شخص. وعلى الرغم من طلب الحكومة المؤقتة في ليبيا تمديد مهمة حلف الناتو لمدة عام آخر، أوقف الحلف مهمته وأعلن النصر.
بعد انسحاب حلف شمال الأطلسي ووسائل الاعلام، أصبحت ليبيا دولة فاشلة؛ حيث تتصارع القبائل المختلفة مع بعضها البعض من أجل السيطرة على الأرض في حين تحاول الجماعات الإسلامية إقامة إقطاعية خاصة بهم، وعلى رأس كل ذلك، تمكن تنظيم داعش من إيجاد موطئ قدم له في البلاد. ولذلك، أصبحت ليبيا بقعة استراتيجية أخرى لداعش لتوسيع مخالبه. تقع ليبيا على عتبة أوروبا وتحتوي على كمية هائلة من احتياطيات النفط التي يأمل داعش في استخدامها لتمويل حملته الإرهابية. وفي الوقت نفسه، أصبحت ليبيا الملاذ الآمن الذي يحتاج إليه داعش لتوسيع العلاقات المزدهرة مع جماعة بوكو حرام في نيجيريا، وحركة الشباب في الصومال والإسلاميين في مالي، وغيرها من الجماعات في القارة الأفريقية. على رأس كل هذه المهزلة والخطأ الاستراتيجي الفادح، لم يعترف الرئيس أوباما ولا وزيرة الخارجية كلينتون بتلك الكوارث في السياسة الخارجية. وبدلًا من ذلك، قالت وزيرة الخارجية كلينتون عبارتها الشهيرة: “لقد جئنا، ورأينا. لقد مات.”
الكارثة في ليبيا، بالرغم من تجاهل معظم وسائل الإعلام ووصفها بأنها مصدر إزعاج ضئيل، يمكن أن تصبح الفتيل الذي يورط منطقة شمال أفريقيا بأسرها في حالة من الفوضى والحرب. مما زاد الطين بلة، رسائل البريد الإلكتروني التي انتشرت مؤخرًا لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والتي توضح أنها كانت واحدة من الذين قادوا حملة الإطاحة بالقذافي. وعلاوة على ذلك، كانت وزيرة الخارجية كلينتون المحفز الرئيسي في إثارة الفوضى والتطرف الموجود حاليًا في ليبيا بسبب الفراغ الناجم عن الإطاحة بالقذافي. توضح رسائل البريد الإلكتروني الأخيرة أنّه لم يكن هناك أي تهديد حقيقي للسكّان المدنيين الليبيين من القذافي، لكن هيلاري اختلقت التهديد بالقتل الجماعي والاغتصاب لإصدار قرار الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن.
أحد المبررات الرئيسية وراء الحرب ظهر في تبادل الرسائل بين سيدني بلومنتال وهيلاري كلينتون. يؤكّد بلومنتال على حتمية تحقيق “فوز مطلق” عن طريق إزالة القذافي من أجل مساعدة الرئيس أوباما في تعزيز شعبيته المنخفضة في ذلك الوقت. وعلاوة على ذلك، ناقش بلومنتال ضرورة شطب اسم ليبيا فيما يتعلق بموازنة القوى مع إيران وإرساء الأمن في شمال أفريقيا ولكنه تجاهل النتائج الكارثية.
النتائج
بعد مرور ما يقرب من 5 سنوات منذ الإطاحة بالقذافي، أصبحت ليبيا دولة فاشلة حيث وصلت أعمال الاقتتال والقتل، والأنشطة المتعلقة بالإرهاب إلى أعلى مستوى على الإطلاق. في حين أنَّ العديد من وسائل الإعلام تشير عادة إلى سياسات بوش الفاشلة في العراق باعتبارها السبب الرئيسي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، إلّا أنَّ إغفال فشل سياسات أوباما / كلينتون في ليبيا يتجاهل صعود التطرف والفوضى في شمال أفريقيا. إنَّ نتائج حرب أوباما الفاشلة في ليبيا لم تتحقق بالكامل، ولكن مع مرور الوقت سيواجه العالم المزيد من المشاكل نتيجة لهذه الحرب. وحتى الآن، كانت النتائج:
- أمة مدمرة: بالتأكيد كان القذافي طاغية من مؤيدي المنظمات الإرهابية على مستوى العالم. ولكنَّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاهلوا كل ذلك مع بدء إصلاح العلاقات والانتقال إلى علاقات أوثق مع ليبيا. كل ما قد يتصوّره المرء عن القذافي، لا يمكن إنكار حقيقة أنّه طوّر القرى الصحراوية الممزقة وحوّل ليبيا إلى دولة وقدّم العديد من الخدمات للشعب الليبي. ومع ذلك، أصبحت ليبيا اليوم من دون أي بنية تحتية وذلك بفضل الاقتتال الداخلي والتدخل الأجنبي.
- الهجرة إلى أوروبا: في حين لا يشعر الأمريكيون بعواقب أفعالهم في ليبيا بطريقة مباشرة، أثّرت مشاركة أوروبا في الحرب عليها بشكل كبير. موجة الهجرة الأخيرة إلى أوروبا شهدت محاولة العديد من الليبيين الفرار من مكان الحادث الأليم والمروّع في بلادهم وكل ذلك بسبب التدخل الأوروبي.
- داعش: بصرف النظر عن اعتراف دونالد ترامب في الآونة الأخيرة بقدرات داعش المتنامية في ليبيا، أثارت وسائل الإعلام الكثير من النقاش حول هذا الموضوع. ربما أحد العواقب الوشيكة، إن لم تكن الكارثية، لهذه المأساة هي توسيع سيطرة داعش غلى الأراضي لتشمل ليبيا. لقد تمكنوا من إيجاد الدعم المحلي وترسيخ نفوذهم. وسيتم استخدام ليبيا كنقطة انطلاق لكسب مزيد من النفوذ في نيجيريا والصومال وتشاد ومالي ومصر والجزائر والمغرب، وأوروبا نفسها.
- أجيال ساخطة: الأمر الذي لم تتم مناقشته على الإطلاق في معظم التحليلات لهذه الحروب هو تأثير الموت والفوضى على الأجيال الشابة. دائمًا ما يجلب أي صراع الصدمات النفسية، وخيبة الأمل، واليأس ومجموعة من المشاكل النفسية الأخرى. بعد دوامة هذه الدول في حالة من الدمار، ليس هناك أي مؤسسات لمساعدة هؤلاء الأطفال والشباب لمواجهة الموت والدمار من حولهم. ونتيجة لذلك، فإنهم يقعون فريسة للمجندين المتطرفين. ومع نضوج هؤلاء الأطفال، ستظهر دول على غرار طالبان.
الإطاحة بالقذافي، أيًا كان سببها، كانت غير منطقية وأسفرت عن ليبيا أكثر اضطرابًا. وبالرغم من أنَّ الفشل في العراق قدّم درسًا للجميع، يبدو أنَّ الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية كلينتون قد تجاهلا تلك الدروس في إعدادهما للحرب في ليبيا. والأسوأ من ذلك، أنَّ الرئيس أوباما جاء إلى السلطة مع وعود بإنهاء الحروب “غير المجدية”. في ظلّ استمرار العالم في تركيز اهتمامه على داعش وسوريا، فإنَّ الصراعات المنسيّة مثل ليبيا ستبقى دائمًا في الخلفية، وعاجلًا وليس آجلا ستنفجر بطريقة غير سارة. بالرغم من تجاهل العالم لما يحدث في ليبيا، أصبحت البلاد بقعة لا إنسانية بسبب التدخل “الإنساني”.