بانتظار السيد الزهايمر


بانتظار السيد الزهايمر

ماذا لو صحوتُ صباح الغد مصابةً بمرض الزهايمر؟ الأمراضُ، كما الأعمار كلها، طبعاً بيد الله، لا ندري بالضبط متى تداهمنا ولأي سبب. صحيح أن المقدّمات تؤدي إلى النتائج في لغة المنطق وصيرورة العلم. لكن، هناك أمراض كثيرة ما زالت تداهمنا بلا منطق مكتشف حتى الآن، والأهم من ذلك، بل ربما بسبب أنها بقيت بلا علاج أكيد. والزهايمر، مرضي المنتظر، والمتوقع لأسبابٍ تتعلق بالحدس وحده، من الأمراض التي ما زالت تتحدّى الطب الحديث، وأبحاث العلماء بغموضها وغرابتها وغرائبيتها أيضا! وصحيح أنني لم أبلغ بعد من العمر عتياً، ما يجعلني لقمةً سائغةً للسيد الزهايمر في ما رصد عنه من ملاحظاتٍ سريريةٍ، إلا أن هذا لا يمنع أبداً أن تكون حالتي من الحالات القليلة الشاذة التي يداهم فيها هذا المرض من هم في منتصف العمر التقريبي للإنسان المعاصر، حيث أنا الآن، ثم هناك حالة أولى دائماً، فلماذا لا أكون أنا بالنظر لاستعدادي النفسي الذي أسلمني للحدس والانتظار؟

هذا يعني، نظرياً على الأقل، أنني قد أستيقظ من نومي صباح الغد في موعدي المعتاد من دون أن تستيقظ معي ذاكرتي. أن يصحو جسدي، وتنفتح عيناي، لكن عقلي سيستمر في سبات سرمدي.

قد أصحو قبيل أن يرن جرس المنبه بثوانٍ قليلة، كما أفعل دائماً، فيكون ذلك آخر شيء أفعله من عاداتي اليومية. وبعدها، أستسلم لضيفي القاتل الذي لم أعرف متى وكيف فتحت له باب الروح. لحظتها، لن أتذكّر أن أبدأ يومي بكلماتي التي اعتدت أن أردّدها كهذيان منغم بيني وبين نفسي، قبل أن أغادر السرير، وربما لن أصلي. ومن يدري، لعلي أنسى كل محفوظاتي من الآيات القرآنية، ويختفي إدراكي الواعي المتجه باتجاه القبلة، فلا أرى في سجادة الصلاة، المنبسطة وسط الغرفة، سوى قطعة قماش مهملة.

هل سأعرف كيف أنتقي ملابسي، وكيف أرتديها استعداداً للذهاب إلى العمل؟ لن أتذكّر عملي، وربما لن يدور رأسي دورته الغائمة استجلاباً لنكهة القهوة الصباحية.. ولن يكون الصباح كله صباحي!

لست من القلقين بشأن الصحة والمرض، ولا أفكّر كثيراً فيهما، لكنني أفكر فعلاً بالزهايمر وكأنه واقعي الجديد، على الرغم من أن تاريخي العائلي الموروث خال تماماً من هذا المرض، كما أعرف، ولا إشارات مبدئية للمرض في واقعي الراهن. لا أفعل ذلك استعداداً لاستقبال هواجس منتصف العمر، وأزمتها الشهيرة لدى النساء، كما قد يظن بعض من يعرفني، فهذا الهاجس يسكنني منذ تعرّفت على هذا المرض قبل سنين طويلة. كنت في منتصف العشرينيات عندما قرأت كتاباً، ثم شاهدت فيلماً أو أكثر عنه، فرأيتني، منذ ذلك الوقت، أتمثل الحالة. هكذا.. أصحو، فأجدني مجرد جسدٍ يتحرّك ويأكل ويشرب ويشم ويتلمس ويسمع ويبصر. ولكن، بلا مرجعيةٍ على الإطلاق، حتى إنه لا يكاد يتذكّر أي الأطعمة يحب، ولا أي العطور يعشق، ولا أي الأغنيات يستمع، فلن تكون لأغنية “عيون القلب” أي خصوصية في ذاكرتي المنسحبة، ولن أعرف نجاة الصغيرة، ولن أنسحب وراء صوت عبدالكريم عبدالقادر على غير هدى، وهو ينادي قلبي المتأبي، برجاء المجيء: “مُرْني.. مُرْني”.

ستكون تلك الأغنية عندما أسمعها مجرد كلمات بلهاء، تنادي الفراغ الذي سيحتل كياني الحي، ليحيله إلى مواتٍ حقيقي، وستختفي كل الحكايات الصغيرة التي تراكمت في وجداني، ولم تفلح سنوات العمر من إهالة تراب النسيان عليها. لن أتذكّر كل ما عشت عمري كله تحت هيمنته الجبارة من الذكريات. وستتحوّل أول رسالةٍ ورديةٍ فضضتها بدهشة، وحفظتها إلى مجرد ورقة اصفرّت أطرافها، وبهت لون الحبر الأزرق فيها، ولن يرفّ لي جفن، وأنا ألقيها في سلة المهملات.

ستمر وجوه الناس أمامي بحيادٍ باردٍ، فيستوي وجه الطبيب بوجه ابن شقيقي الأثير، ووجه صديقة العمر، بوجه عابر في أي قاعة انتظار.

لن أعي ما أسمعه، وستتبخر ملايين الكلمات التي قرأتها في الكتب والصحف من رأسي الذي سيتحوّل إلى كرة منفوخة بالهواء الراكد وحسب. هل سأنسى قصائدي أيضا؟ لعلي.. لكنني لست متأكدةً إن كان ذلك كله سيزعجني، كما يظن الآخرون.. أم سيسعدني جداً بدهشةٍ لم يتوقعها أجد. سأنتظر وأرى.

المصدر: العربي الجديد – سعدية مفرح