“لقد عشت ثلاثة وسبعين عامًا، ومصاب بأمراض مختلفة، ويمكن أن ألبي نداء الموت في أية لحظة، ولكن الله أكرمني بالشهادة في سبيله، فلا تجزعوا ولا تطلبوا العفو من أحد سوى الله، ولا تدعوا لي بالحياة بل ادعوا لي بالثبات والقبول عند ربي، فالشهادة في سبيله أسمى أماني”، كانت هذه آخر كلمات الشيخ مطيع الرحمن نظامي، أحد زعامات الجماعة الإسلامية في بنجلاديش، والذي رفض تقديم التماس بإلغاء حكم الإعدام الظالم الصادر ضده، وتم تنفيذه منذ أيام قليلة.

في عالمنا المعاصر وفي ظل الهجمات المتتالية على الإسلام بكل بقاع الأرض، ومحاولات القضاء على أي مظاهر للحكم الإسلامي، أو حتى التواجد السياسي لأحزاب مرجعيتها دينية، لم يكن إعدام السلطات العلمانية ببنجلاديش لزعيم المعارضة، أمين عام الجماعة الإسلامية في البلاد، الشيخ الأسير مطيع الرحمن نظامي، أمر مفاجئ، بل إنه في ظل المشهد العالمي الحالي، فإن جريمة كهذه تعد مدعاة لتثبيت النظم الاستبدادية الفاشية، وشرعنة لحكمها في “المجتمع الدولي”.

ردود فعل مخيبة

المتتبع لقضية الفقيد “نظامي” ، ومنذ رفض الاستئناف على إعدامه قبيل أيام قليلة، يلاحظ أن النظام البنجالي لم يكن مرتعدًا أو خائفًا من أي ردة فعل سواء داخلية أو خارجية مرتقبة، بل على العكس تمامًا كانت هناك تسريبات شبه مؤكدة على اتخاذ القرار دون تحديد الموعد، لجس النبض الدولي، وليس الداخلي بالدولة ذات الأكثرية الإسلامية، والتي يشكل المسلمون فيها أكثر من 85% من سكانها، ورغم ذلك يعاملون كأقلية هناك، وكان النظام يعلن الخبر مزهوًا بصرامته وبقدرته على اتخاذ قرارات كهذه دون خوف من ردات فعل المسلمين حول العالم.

علمنة ممنهجة

بالعودة للمشهد الداخلي في بنجلاديش، نجد أن نظام الديكتاتورة حسينة مجيب الرحمن، ابنة أول حاكم للبلاد بعد انفصالها عن باكستان في العام 71، والتي تحكم البلاد بالحديد والنار، وباسم المؤسسة العسكرية المتسلطة على الشعب المسلم بأوامر بريطانية، منذ الاستقلال الوهمي عن الهند في العام 1947 م، أراد هذا النظام ومن خلفه – أو إن أردت الدقة – أمامه، بيادق المؤسسة العسكرية، تقديم خدمات متتالية الواحدة تلو الأخرى للمحتل البريطاني، الذي لم يزل يحكم بلادها من خلف عسكرها، بقربانه الدموي لأحد أهم وأكبر علماء المسلمين هناك، في سياق نمطه العلماني الإقصائي ضد كل المخالفين بالبلاد، وبالطبع الجماعة الإسلامية، وهي خطوات ليست بالجديدة بل معمول بها منذ أكثر من 40 عامًا من الانفصال عن باكستان، حيث يخوض حزب “رابطة عوامي” العلماني حربًا شعواء ضد التيار الإسلامي في البلاد؛ من أجل استئصاله، وإرضاء الهند التي كانت وراء انفصال بنجلاديش عن باكستان، لإضعاف الدولة المسلمة التي استقلت عنها، وكانت تهدد نفوذها في المنطقة منذ العام 47.

تاريخيًا كان والد حسينة مجيب الرحمن ـ أول رئيس للبلاد ـ على رأس المطالبين بانفصال بنجلاديش عن باكستان، ودعمته الهند في ذلك، فيما كان نظامي من أشد معارضيه، ودخلت الهند بقواتها العسكرية إلى الأراضي الباكستانية من أجل إقرار هذا الواقع في السبعينات من القرن الميلادي الماضي، وهو الوضع الذي رفضه العديد من الزعماء الإسلاميين، باعتباره مخططًا هنديًا يهدف للانتقام من الدولة الجديدة “باكستان”.

نظامي وسيل الإعدامات

بعد الاستقلال القسري في أوائل السبعينات شارك الزعماء الإسلاميون في السياسة، وتمكنوا من الوصول للبرلمان، وشاركوا في الحكومات المتعاقبة بمناصب وزارية، ومنهم “نظامي” نفسه الذي اتهم بالوقوف مع باكستان في الحرب، وهي تهمة سياسية وليست جنائية، وتم تجاوزها منذ عشرات السنين قبل أن تعود البلاد وتحاسبه عليها اليوم.

قصة نظامي والانتقام من الإسلاميين في شخصه لم تكن الوحيدة بالبلاد خلال الألفية الجديدة، بإيعاز هندي وبريطاني، فقد سبقه في العام الماضي إدانة قياديين إسلاميين بزعم ارتكاب جرائم حرب خلال ما سمي بـ “حرب الاستقلال” عن باكستان عام 1971، ورفض الرئيس محمد عبد الحميد التماسهما بالعفو، وأعدم وقتها القيادي بحزب الجماعة الإسلامية علي إحسان محمد مجاهد (67 عامًا) ، إضافة إلى صلاح الدين قادر تشودري (66 عامًا) العضو السابق في المجلس النيابي عن حزب بنغلاديش القومي، الذي تتزعمه رئيسة الوزراء السابقة، خالدة ضياء، منافسة حسينة الحالية، والتي تتبادل معها كرسي الحكم بالبلاد، كما أعدم في ديسمبر عام 2013 القائد عبد القادر ملّا، الذي شغل منصب الأمين العام للجماعة الإسلامية، وفي أبريل من عام 2015 أعدم الزعيم الأبرز في الجماعة الإسلامية محمد قمر الزمان، ثم في نوفمبر من نفس العام أعدمت السلطات البنغالية النائب البرلماني والأمين العام للجماعة الإسلامية علي إحسان مجاهد، بعد رفض الطعن المقدم لتخفيف عقوبته، وفي أكتوبر من العام نفسه أصدرت المحكمة حكمًا بالإعدام على موتيور رحمن نظامي، رئيس حزب الجماعة الإسلامية، البالغ من العمر أكثر من 91 عامًا، ومؤخرًا في مارس الماضي أيدت المحكمة العليا قرار إعدام مير قاسم علي، العضو في الهيئة التنفيذية لحزب الجماعة الإسلامية.

حرب على الهوية

خطورة الحرب على الزعماء الإسلاميين بالبلاد ليست مقتصرة على الفكرة والأشخاص فقط، بل تعدتها للهوية التي تدين بها الدولة والتي من المفترض أن غالبيتها – 85% من سكانها – مسلمين، والإسلام هو دينها الرسمي، ومؤخرًا نظرت المحكمة العليا التماس قدّمه منذ 28 عامًا أحد المواطنين يدعى “سرجول إسلام جودهوري”، لدعوة المحكمة لإلغاء الدين الإسلامي كديانة رسمية!

لكن ما هي الجماعة الإسلامية في بنجلاديش، ومن هو نظامي لكي تسعى وراءه الحكومة بقضية مر عليها سنوات، وتصر على إعدامه باتهامات سياسية قائمة على القضية المنتهية فعليًا، وكيف أمنت الحكومة ردات الفعل العالمية والإسلامية ؟

مطالب وفكر المودودي

على أرض الواقع تعد الجماعة الإسلامية من أكبر الأحزاب السياسية الدينية المعارضة علنيًا في البلاد، حيث تأسست في البداية في باكستان الكبرى “باكستان وبنجلاديش” قبل استقلال الأخيرة، وكان ذلك في العام 1941م، في لاهور بقيادة أبي الأعلى المودودي، الذي كان أول أمراء الجماعة التي اتخذت من دار السلام مقرًا لها في العام 43 بعد الانتقال من لاهور.

ومع إعلان قيام دولة باكستان في 28 أغسطس 1947م، انتقل المودودي مع زملائه إلى لاهور، حيث أسس مقر الجماعة الإسلامية بها، وفي يناير 1948م، بعد قيام باكستان بنحو خمسة أشهر، طالب المودودي بتشكيل النظام الباكستاني طبقًا للقانون الإسلامي، وظل يلح على مطالبة الحكومة بهذا المطلب، حتى لجأت في 4 من أكتوبر 1948م، باعتقاله وعدد من قادة الجماعة الإسلامية، فأظهر الشعب تعاونه الكامل مع الجماعة في مطالبها حتى اضطرت الحكومة إلى الموافقة على قرار الأهداف الذي يحدد الوجهة الإسلامية الصحيحة لباكستان في 12 من مارس 1949م، وبعد ذلك بنحو عام في 28 من مايو 1950م اضطرت الحكومة إلى إطلاق سراح “المودودي” وزملائه.

ومع بدايات العام 71، استقلت بنجلاديش عن باكستان، عقب حرب استمرت شهورًا بين الانفصاليين والحكومة والجيش الباكستاني، وكانت الجماعة الإسلامية من مؤيدي الوحدة، وعدم انفصال بنجلاديش عن باكستان، فكان هذا الموقف بمثابة نقطة الفصل في توتر العلاقة بين الجماعة والنظام البنجلاديشي بعد الانفصال.

إرهابي بدرجة وزير

أما الشيخ مطيع الرحمن نظامي، أمير الجماعة فولد عام 1943 في الهند، وترشح للانتخابات البرلمانية في بلاده للمرة الأولى عام 1986، وأصبح أمينًا عامًا للجماعة الإسلامية ببنجلاديش في ديسمبر 1988، ثم فاز بعضوية البرلمان في 1991 وانتُخب بعدها رئيسًا للوفد البرلماني، وانضم إلى ما عُرف بـ”لجنة القضاء على المتعاونين والعملاء” في 1992، وتم انتخابه كأمير للجماعة في عام 2000 وترأس الحزب التابع لها، الذي اتخذ موقفًا معارضًا من استقلال بنجلاديش، واستمر انتخابه لعضوية البرلمان عدة مرات، منها مرة حصل فيها على أغلبية الأصوات في العام 2001، الذي عُيِّن فيه وزيرًا للزراعة في عهد رئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء من 2001 حتى 2006.

تعددت الاتهامات البنجالية لـ “نظامي” منها اتهامه بقيادة فرقة “البدر”، التي كانت لجنة شعبية مسلحة، وكذلك قيادة جناح الطلبة في الجماعة الإسلامية والذي عاون الجيش الباكستاني ضد المتمردين، إبان الحرب بين الهند وباكستان في 1971 ، ليواجه السجن للمرة الأولى في 2007 في قضية تعود إلى العام 2004 تتعلق بتهريب 10 شاحنات محملة بالأسلحة إلى “جبهة أصام للحرية”، التي تقوم بعمليات مسلحة في شرق الهند.

ثم أُلقي القبض على نظامي في 2010 بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وظل محتجزًا حتى أدرجت النيابة اسمه في لائحة المتهمين بالقضية بعد تحقيقها الموسع في 26 يونيو 2011، قبل أن يصدر قرارًا بإعدامه في العام 2014 أثناء وجوده في منصب وزير الصناعة، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، منها ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والقتل والتعذيب والاغتصاب، وتدمير الممتلكات خلال حرب الاستقلال عن باكستان في العام 1971، وهو الحكم الذي تم تنفيذه بدايات مايو الجاري، ولم يشفع له كبر سنه الذي تجاوز السبعين عامًا، أو أفكاره المعتدلة التي عارض بها المتشددين المسلحين في بلاده، ولا مشاركته في العمل الديمقراطي ووصوله إلى منصب وزير في الحكومة مرتين، أو كونه رئيس حزب سياسي له شعبية كبيرة.

شرعنة وجود

صحيح أن بنجلاديش شهدت تشددًا من بعض الحركات المسلحة السرية مثل جماعة المجاهدين وحركة الجهاد، وكلاهما محظورة، وتم إعدام قادتها من قبل النظام السابق، أما الأحزاب الإسلامية الرئيسية فتشمل الجماعة الإسلامية والنهضة الإسلامية (أوج)، وقد شكلتا حكومة تحالف مع الحزب الوطني لبنجلاديش ما بين 2001 – 2006م، وهذان الحزبان شجبا بشدة عنف جماعة المجاهدين وحركة الجهاد، ولم يثبت أي دليل على تورطهما في العنف وحمل السلاح، غير أن العلمانيين يحاولون إلصاق تهمة العنف بهذه الأحزاب، وحظر السياسة على أسس دينية، وهي الغاية النهائية لهم.

قتل الشيخ، برغم مناشدة عدد من المنظمات والهيئات الإسلامية، كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وغيره، اطمئنانًا إلى ضعف الفعل الرافض له، واستنادًا لعاملين هامين أولهما يقضي بأن تكلفة تصفية قادة الجماعة الإسلامية الآن، أقل كثيرًا من إبقائهم على قيد الحياة، وبهذا تضمن حسينة شرعية أكبر لدى الغرب بدعوى محاربة الإرهاب الإسلامي، وعلى المستوى الداخلي تضمن حسينة بأن تصفية قادة الجماعة الإسلامية، أكبر حزب إسلامي في البلاد وفي القارة الهندية كلها، يمثل إضعافًا لغريمتها القوية خالدة ضياء، التي تنافسها وتبادلها منصب رئيس الحكومة بالتوالي.

الخلاصة

نظام حسينة العلماني في بنجلاديش يناهض الإسلاميين، ليس ضمن تحرك داخلي خاص بهوية الدولة فقط، التي يهيمن أقل من 15% من سكانها على مقدرات 85% منها، ولكن هذا الرفض لكل ما هو إسلامي يأتي في سياق دولي تلجأ وستلجأ إليه نظم عديدة في العالم، ترى الظرف مهيئًا جدًا لاتخاذ إجراءات أكثر “جرأة” وتطرفًا تجاه الإسلاميين، كون الهيئات الإسلامية لا تملك إمكانات لمواجهة مثل هذه التصرفات، أو إقناع الحكومات الإسلامية بتبني وجهة نظرها وتحريكها في الصعيد السياسي الدولي.