شهدت الفترة الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق من جانب تنظيم الدولة “داعش”، على جبهتي سوريا والعراق، بشكل لا ينفصل عن الكثير من التطورات الإقليمية والتحولات الحاصلة في المشهد الجهادي في الوقت الراهن.

فقد شهدت العاصمة العراقية بغداد، وخلال أقل من أسبوع، سلسلة من تفجيرات انتحارية وبسيارات مفخخة، راح ضحيتها على أكثر من 200 عراقي، بخلاف سلسلة من العمليات التي استهدفت الجيش وميليشيات الحشد الشعبي، في المناطق المحيطة بالعاصمة العراقية.

وبحسب وسائل إعلام ومسؤولين عراقيين، فإن هذه الموجة الجديدة من التفجيرات تأتي في سياق نجاحات حققتها القوات الحكومية وداعموها من العشائر السُّنِّية وقوات الحشد الشعبي الشيعية، في تطهير العديد من المناطق المحيطة ببغداد، بالإضافة إلى استعدادات القوات الحكومية لعملية تحرير الموصل، أكبر وآخر معاقل التنظيم في العراق.

وفي سوريا، نجد أن التنظيم قد انتقل إلى مرحلة أخرى من العمل الهجومي، تُعتبر بدورها استجابة للتطورات التي وقعت في حلب ومناطق شمال وشمال شرق سوريا في الأشهر الأخيرة، عندما تمددت قوات النظام السوري، مدعومة بقوات “حزب الله” اللبناني، والغطاء الجوي الروسي من جهة، وتمدد قوات سوريا الديمقراطية، الكردية المكوِّن بالأساس، في مناطق شرق وغرب الفرات.

وبخلاف العراق التي وسَّع فيها التنظيم من استخدامه لأدوات تقليدية في أنشطته وعملياته، مثل السيارات المفخخة والانتحاريين؛ فإن العمليات في سوريا حملت طابعًا جديدًا أكثر تعقيدًا وتنوعًا من الناحية الميدانية.

فللمرة الأولى منذ أشهر طويلة، نسمع عن معارك خاضتها قوات من التنظيم ضد القوات الحكومية السورية عند مفاصل مهمة في حلب ودير الزور، بالإضافة إلى عمليات قصف مدفعي شملت مناطق الشدادي وجبل عبد العزيز الاستراتيجية في الحسكة، والتي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية، مطلع العام الجاري.

كما تخوض داعش معركة أخرى غامضة على الحدود التركية، عند منطقة “كيليس”؛ حيث يقوم التنظيم بشكل شبه يومي، بقصف هذه البلدة.

ومكمن الغموض في هذا الأمر، هو أنه لا توجد أية مصلحة للتنظيم في استفزاز الجيش التركي، في ظل الضغوط الأخرى الراهنة على التنظيم والتي قادت إلى خسارته الكثير من الأراضي في سوريا والعراق.

فقبل أيام، نشرت مجلة النيوزويك الأمريكية واسعة الانتشار، تصريحات لبيتر كوك، الناطق باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، قال فيها إن تنظيم داعش قد خسر حوالي 45% من الأراضي التي كان يسيطرون عليها في العراق، في أوج تمدده فيها منذ العام 2014م، كان أهمها هيت والرمادي ومناطق أخرى في الأنبار.

أما في سوريا؛ فتشير تقديرات البنتاجون إلى أن التنظيم خسر ما بين 16 إلى 20% من الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا، وكان أهم هذه المناطق، والتي كان لخسارة التنظيم لها دوي إعلامي، مدينة تدمر الأثرية في مارس الماضي.

كما يواجه التنظيم الكثير من الضغوط الميدانية، وكذلك السياسية التي حالت دون وجود الرافد المالي والبشري القديم الذي كان يحظى به.

ففي ظل تشديد الرقابة على الحدود السورية العراقية، وكذلك الحدود الأوروبية بعد الهجمات الأخيرة في بروكسيل وباريس، حُرِم التنظيم من استجلاب المزيد من المقاتلين، لدرجة أن التنظيم الآن لا يحرك سوى ما بين 19 إلى 25 ألف مقاتل موزعين بين سوريا والعراق، انخفاضًا من تقديرات في العام 2015م الماضي، بأن مقاتلي التنظيم كان يصل عددهم إلى 50 ألف.

كما قادت هذه الضغوط، والتي من بينها تصعيد التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، من عملياته الجوية على مناطق التنظيم، وكذلك استعادة الحكومتَيْن السورية والعراقية لمواقع مهمة في مجال النفط، كان التنظيم يستغلها في تمويل أنشطته، من خلال تجارة النفط المسروق عبر الحدود التركية، ومن خلال وسطاء مع النظام السوري نفسه، قاد ذلك كله إلى تراجع قدرة التنظيم على تمويل أنشطته

ومن ثَمَّ يمكن فهم أهمية استيلاء التنظيم على حقل “الشاعر” الغازي في حمص قبل أسابيع قليلة.

لغز “كيليس”!

بالعودة إلى موضوع كيليس، فإن هناك بعض الأمور التي تؤكد أن الصورة ليست كما هي ظاهرة إعلاميًّا، ففي ظل هذه الأوضاع السابقة لا يكون من الرشادة أن يفتح التنظيم على نفسه جبهة جديدة، ومع جيش من أقوى الجيوش العالمية، ويحظى بدعم وحماية من حلف شمال الأطلنطي “الناتو”.

هنا ثمَّة تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قد يفسر الموقف على الحدود التركية السورية عند كيليس، التصريح يقول فيه أردوغان إن تركيا ستتحرك بمفردها للتصدي لهذه الهجمات إذا لم تتلق مساعدة من الخارج، وقال كذلك: “قرعنا كل الأبواب لنقيم منطقة آمنة على حدودنا الجنوبية، لكن لا أحد يريد الإقدام على هذه الخطوة”.

هنا تبدو أهمية هذا الموقف عند كيليس للحكومة التركية.

ففي ظل انتقادات متزايدة في الدائرة السياسية والعسكرية التركية الضيقة المحيطة بأردوغان، من أن التأخير الذي رافق قرار التدخل البري في شمال سوريا، لفرض منطقة آمنة عازلة غرب الفرات، من أجل منع تدفق اللاجئين السوريين إلى داخل تركيا، ومنع الأكراد من التواصل الجيوسياسي في تلك المناطق، من عفرين غربًا، وحتى أقصى الشمال الشرقي لنقطة الالتقاء بين الحدود السورية التركية.

وتبحث الحكومة التركية منذ فترة عن وسيلة لإقرار هذا الأمر، فحاولت خلق نواة لهذه المنطقة، عند معبر باب السلامة أو أونجو بينار، خلال أزمة التصعيد الكبير في حلب في يناير وفبراير 2016م، وذلك من خلال إقامة معسكر للاجئين السوريين في الجانب السوري للحدود، بدأت الحكومة والجمعيات الخيرية التركية في دعمه ببنية أساسية للإعاشة، من مستشفيات ميدانية وخلافه.

إلا أن الموقف الأمريكي كان حاسمًا، ومنع الأتراك من التوسع كما يريدون في هذه المنطقة المجاورة لـ”كيليس”، وأوصلت واشنطن رسالة مهمة للأتراك مفادها أنه لن يكون هناك أية مناطق آمنة في شمال سوريا تسيطر عليها تركيا.

وبلغ من حسم الأمريكيين في هذا الأمر – مثل الضغط الممارَس لمنع إمداد المعارضة السورية بسلاح نوعي مضاد للطائرات – لدرجة أن الأتراك عندما يقومون بقصف داعش الآن جوًّا في سوريا، يؤكدون أن ذلك يتم في إطار التحالف.

لن نردد ما يقوله الروس على وجه الخصوص من أن هناك تعاون عضوي وعلاقة قوية بين داعش وبعض الأجهزة والأطراف في الدولة التركية، ولكن – على الأقل – لا يمكن في هذه الحالة – وفق ما قاله أردوغان نفسه – إنكار أن ما تقوم به داعش في هذه المنطقة الآن، يساعد الحكومة التركية في هذا الموضوع المهم للغاية للأمن القومي التركي.

تحديات “جهادية” بوجه داعش!

ظهر تحدٍّ آخر أمام تنظيم داعش، قد يكون أحد أهم أسباب تراجعه في القترة القادمة، وهو التحول الحاصل في المشهد الجهادي في سوريا، والمتعلق بالأساس بالاستراتيجية الجديدة لتنظيم القاعدة هناك، والمتعلق بدعم التنظيم لجناحه في سوريا، جبهة النصرة، لكي تقوم بتأسيس إمارة في منطقة ما من شمال سوريا.

ينذر هذا التحول في الموقف من جانب القاعدة التي كانت ترفض في السابق فكرة تأسيس كيانات مستقرة أو ما يعرف في مصطلحات التنظيمات الجهادية المسلحة بـ”الإمارات الإسلامية”، ينذر بمنافسة سوف تفضي لا محالة إلى مواجهة بين النصرة وداعش، أسوأ من تلك المواجهات التي اندلعت في السابق، بعد انشقاق داعش عن القاعدة في العام 2013م.

ومن خلال تقرير للنيويورك تايمز حول هذا الأمر، الذي ورد في تسجيل مصور جديد لزعيم تنظيم القاعدة، الدكتور أيمن الظواهري، في مطلع مايو الماضي، إرسال عشرة من القيادات العسكرية الوسيطة لـ”القاعدة”، إلى سوريا، والبدء في تأسيس مقارٍّ بديلة في سوريا، يمكن أن تشكل نواة لإمارة مستقرة لجبهة النصرة.

هذا الأمر لا يقلق داعش فحسب، بل يقلق الغرب أيضًا، حيث إن ذلك يعني عملية إحياء وبعث جديدَيْن لـ”القاعدة” التي تلقت الكثير من الضربات الأمنية والعسكرية في باكستان ومعاقل أخرى لها في السنوات الأخيرة، مع تحول الكثير من فروعها لمبايعة داعش، من بينها جماعات كانت مهمة في انتشار القاعدة النوعي، الجيوسياسي في مناطق عدة من العالم العربي والإسلامي، وأهمها جماعات “الشباب المجاهدين” في الصومال، و”بوكو حرام” في نيجيريا وغرب إفريقيا، و”المرابطون” في الصحراء الكبرى.

هذا التحول في المشهد في سوريا، يعني أن التنظيم سيكون قادرًا على تهديد أوروبا والولايات المتحدة، كما سوف يستفيد من مورد بشري مهم من كل من العراق، وتركيا، والأردن، ولبنان.

ففي العام 2013م، قام الظواهري بإرسال كتيبة إلى سوريا، عرفت باسم كتيبة “خراسان”، خططت لهجمات في أوروبا والغرب، ولذلك تمت مهاجمة هذه الكتيبة وقتل قياداتها بالكامل، ومن بينهم قيادي مهم في الجهاز العسكري لـ”القاعدة”، هو محسن الفضلي، في سلسلةٍ من الغارات الأمريكية، في سبتمبر من العام 2014م.

وبالتالي، فقد أعاد ذلك التطور الحديث، إلى الأذهان هذه القضية المهمة.

ويقول تشارلز ليستر، زميل معهد الشرق الأوسط، في مقال له بمجلة الفورين بوليسي، إن هناك فارق في استراتيجيات العمل والتأسيس على الأرض بين داعش والنُّصرة، سوف تقود إلى صراعات عدة.

ومن بين أوجه الخلاف التحركات الفردية لداعش، بالتعاون مع أعوان محليين من أهل السُّنَّة في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا والعراق وسوريا، بينما عملت القاعدة من خلال جبهة النُّصرة، على بناء تحالفات متينة مع تنظيمات جهادية مسلحة أخرى في سوريا، مشكِّلةً جبهات موسعة باسم الجبهة الإسلامية تارة، وجيش الفتح تارةً أخرى.

ويُعقِّد ذلك عملية التصدي للقاعدة، خلافًا لداعش، ويفسر كذلك، حمامات الدم الأخيرة التي تجددت في قتال عنيف بين فصائل إسلامية عدة في سوريا، وصفته وسائل الإعلام العالمية، بقتال أو اشتباكات الإخوة، كما تم في الغوطة، بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن.

…….

تختلف هذه الصورة المعقدة عن جانب آخر لا يقل عنها تعقيدًا يمثل تحدي بقاءٍ آخر أمام تنظيم داعش، وهو الوضع العام في شمال إفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء وغرب القارة، في ظل التطورات الراهنة في ليبيا وفي تونس، ونيجيريا، على ارتباطه بقضية صراع النفوذ الدولي في هذه المناطق بين كل من فرنسا، والتحالف الأنجلو أمريكي، إلا أن هذا الأمر سيكون موضع حديث آخر يطول.