كيف أفسد “الداعمون” الثورة السورية؟


بدأت الثورة السورية بإمكانيات بدائية جدا معتمدة على بنادق صيد وعلى مسدسات الجنود المنشقين وبنادق غنموها من مخافر الشرطة. ثم بدأت مجموعات الثوار السرية بالإعلان عن نفسها وتلقت تبرعات محلية واشترت السلاح الفردي من لبنان.

وكانت تُجمع التبرعات من الجاليات السورية بالخليج بشكل علني دون إزعاج، لكن بعد عدة أشهر بدأت الحكومات بتقييد هذا ليكون بيد شيوخ معينين ووفق رقابة إلى أين تذهب. وبدأت تصل معونات حكومية للثوار غير مشروطة إلا بمعرفة أسماء المقاتلين ومخططاتهم. على أن ما كان ظاهره أنه دعم حكومي غير مشروط، تبين أنه من أعظم أسباب التفرقة بين فصائل الثوار.

ومن البدهي أن دول العالم ليست منظمة خيرية لتعطي الدعم لوجه الله، ولكن تعطيه لترعى مصالح لها. وقد لا تكون هذه المصالح مرتبطة بمصلحة الثورة. فما معنى أن تترك الفاروق والأحفاد جبهتي حمص وحماة وترسل مقاتليها لرأس العين (أقصى شمال شرق سوريا) لقتال الأكراد على الحدود التركية، إلا لنيل الدعم التركي؟

ألم تكن من مصلحة الثورة تحييد الأكراد وعدم الاصطدام بهم؟ علما أن تلك السياسة التركية جعلت الوحدات الكردية السورية YPD التابعة لحزب العمال حاميا للأكراد بعد أن كان مكروها من الشارع الكردي في سوريا، أي كانت نتائجها عكسية ومضرة بتركيا وبالثورة السورية معا.

  وقد يكون الدعم هدفه جمع معلومات استخباراتية لم يكن من الممكن الحصول عليها بغير طريقة الدعم. ففي أوج اشتداد العمليات الأمنية ضد النظام بالعاصمة دمشق، فإن القوى المدنية والتجار والفاعلين داخل دمشق من المؤيدين للثورة تواصلوا مع قطر أو عبر وسيط ضمن محيطهم، طلبا للدعم. وفجأة، قُبض على 120 معا وفي نفس اللحظة وفي كل أحياء دمشق. وبذلك أمسك النظام معظم الخيوط التي كانت بالعاصمة.

الخط الأول لقادة ثورة دمشق 40 شخص كلهم سُجنوا في اليوم نفسه، وصدر عنهم فيديو 3 ساعات، وبعدها خرجت الفصائل خارج دمشق إلى الغوطة. وإثر هذه الحادثة، صار كل قيادي في الثورة يتعجب مما حصل. وتبين أن معظمهم تواصل بالسكايب وغيره مع قطر. شكّوا في قطر، ثم إن قطر طلبت منهم التفاصيل لاحقا عن طريق د. حسان الصفدي، نائب رئيس رابطة علماء الشام.

وأصر د. حسان، فعملوا شيئا وهميا، وأعطوا القطريين مناطق معينة وتفاصيل حتى يختبروا الأمر، ولم ينفذوا، فوجدوا جميع المناطق خلال يومين شُدَدت عليها الحراسات بصورة كبيرة. في حين نجد أن “شام الرسول” التي رفضت إعطاء معلومات مقاتليها مقابل الدعم، رغم وساطة الشيخ سرور وغيره، عن حسن نية، بقيت مستمرة رغم الضعف المادي.

وقد يكون الدعم هدفه إبعاد الثوار عن الجبهات التي تهدد النظام (وخاصة جبهتي العاصمة دمشق والساحل) عبر فتح معارك بعيدة لا تفيد الثورة إستراتيجيا وإنما تستنزفها، فيوجه الدعم لمعارك في سهول صحراوية جرداء لا أهمية إستراتيجية لها، وفوق ذلك هي مكشوفة للطيران، بدلا من غابات الساحل الجبلية، أو أن يُغرى الثوار بدخول بلدات فقيرة فينشغلون بإدارة شؤون المدنيين بدلا من التركيز على  القطعات العسكرية للنظام.

وحتى فتح مدينة حلب كان فخا للثورة، حيث سُلَم الجزء الشرقي الفقير منها للثوار، والذي كان عبئا على النظام، وأبقى النظام بيده الجزء الغربي الغني! وأصبحت حلب بمثابة الثقب الأسود لموارد الثوار، بحيث أصبحوا عالة على الدعم الخارجي، بدلا من حرب العصابات التي كانوا يشنوها بإمكانات محلية في ريف حلب.

وفي المقابل، تُحرم الجبهات الخطرة على النظام من الدعم. وعلى سبيل المثال، فأول مرة استلمت داريا (البلدة الثائرة قرب القصر الجمهوري) دعما من الأشقاء القطريين كانت في شهر أغسطس من عام 2013م، بمبلغ 400 ألف دولار فقط، وكانت هي المرة الأخيرة!

  وقد يكون الدعم هدفه منع الوحدة بين الفصائل. فمثلا غرفة “الموم” حددت الدعم لفصائل الشمال على أن لا يتجاوز عدد مقاتليها 3000 عنصر، وبعد انضمام لواء الحرية وحلب المدينة وحركة الظاهر بيبرس لحركة الزنكي، أوقفت الدعم فورا. وقد يكون هدف دعم بعض الدول هو منافسة دول أخرى عبر فصائل معادية للفصائل المحسوبة على الأخرى، وأكثر ما حصل هذا بين قطر والسعودية أواخر سنة 2014.

وقد يكون الدعم هدفه إضعاف المجموعة الثورية نفسها وصنع ترهل بيروقراطي داخله. فعلى سبيل المثال، كنت شاهدا في آخر سنة 2013 على اجتماع الشرعيين من الفصائل التي اندمجت في حركة أحرار الشام الإسلامية. وقد قرروا عدم قبول الدعم المشروط لجبهة معينة.

ومازلت أذكر كيف ذكر الشيخ أبو يزن مقولة أبي مصعب السوري أن الثورة إن أرادت النجاح فعليها رفض الدعم المشروط، وحتى الدعم غير المشروط يجب عليها أن تبحث عن بديل عنه. ثم قال أخي محب الدين الشامي: إذا أردت الشغل الصحيح، فيجب أن يكون الدعم لقيادة الحركة فقط. ووافق الجميع على هذا، ومع ذلك لم يطبق القرار.

فمثلا الدعم القطري كان جزء منه يصل للقيادة العليا، لكن بعضه كان يذهب لأشخاص معينين. فمثلا يأتي دعم خاص بأبي طلحة القائد العسكري، مما أدى إلى ضعف المركزية، حيث فتح مكاتب دعوية وإعلامية وإغاثية تابعة له ومنافسة لمكاتب التابعة للقيادة العامة! عدا عن الدعم الذي يوجه لكتائب محلية بالأحرار بهدف تقوية جبهات معينة، وكذا الدعم الذي كان يعطى لشخصيات ليس لها منصب كبير، فيوزعون الدعم على غيرهم ويشترون الولاءات ويصبح لهم دورا أكبر من منصبهم الرسمي. وكل هذا تسبب في فوضى إدارية وإضعاف القرار المركزي.

 والدعم الفردي لم يكن أفضل بكثير من الدعم الحكومي، خاصة الدعم الخليجي. فأسلمة الثورة إنما بدأها هؤلاء ثم أكمل الأجانب المهاجرون البقية. الثورة بدأت من المساجد وبهتافات إسلامية، لكنها كانت فطرية صادقة معبرة عما في قلوب الناس، ولم تكن كاذبة مبتذلة.

وأصبحت حتى عصابات السرقة والنهب تطيل اللحى وترفع الأعلام السوداء. فعلى سبيل المثال، عصابة غرباء الشام التي نهبت حلب، فمن يدخل لصفحتها يظن أن أفرادها من التيار الإسلامي المتشدد، ولما جرى تفكيكها من قبل الهيئة الشرعية ظهرت فضائح مجالسها من حشيش وغلمان! وللعلم حتى أحرار الشام كان شعارها بلون علم الثورة الأخضر مع ثلاث نجوم حمراء، لكن لاسترضاء الداعمين تحولت أعلام كثير من الفصائل للون الأسود القاتم.

  وكم أفسد هؤلاء الداعمون من الخارج وكم سفكت من دماء يتحملون أوزارها. وعلى سبيل المثال أحد الداعمين الكبار من الكويت، سلفي جهادي، ومع ذلك دعم الأجناد (تنظيم أشعري صوفي إخواني) نكاية بجيش الإسلام، الذي يعتبره منافسا )كما دعمها الإخوان والمشيخة التقليدية بدمشق( ولازالت سيئاته إلى اليوم نراها، وهو الذي دمر جبهة تحرير سوريا، وأصر على إقحام عداوته لآل سعود بقضيتنا، وجعلنا مشاريع تصفية حسابات بأموال المسلمين التي سيَسها. وكم من امرأة باعت حليها وتبرعت به لتجد أن هؤلاء الداعمين قد جعلوه حربا وتفريقا بين المسلمين.

وهذا نذكره من باب التمثيل لا الحصر، فمصائب الداعمين كثيرة، وكل واحد له مشروع أيديولوجي يريد تطبيقه على أرض سوريا وتحويلها لصراع ضد الجماعات التي يكرهها. وللأسف التصفيات الحزبية يديرها الداعمون من الخارج، ونتيجتها دماء الشعب السوري في الداخل ولو بعد حين.

  وكم مرة سمعت قادة من الثورة يذكرون كلام أبي مصعب السوري عن الدعم الخارجي وأنه وسيلة لتدمير الثورة، وأن على الثورة لتنجح أن تعمل على إيجاد مصادر تمويل ذاتية. فالمشكلة ليست في أنهم لم يكونوا يعلمون هذا، بل المصيبة أنهم يعلمون!