on
عوامل التحوّل في السياسة الخارجية التركية: العلمانية والإسلاموية والقومية
أوراسيا ريفيو –
تحتل تركيا موقعًا جغرافيًا وجيوسياسيًا فريدًا من نوعه في العالم الحديث؛ حيث تقع على الحدود بين أوروبا والشرق الأوسط، على الشريط الحدودي الأيديولوجي الواضح بين الشرق والغرب. وهذا ما يصنع التاريخ الفريد من التأثيرات الحضارية المتناقضة التي تضافرت لتشكيل البيئة السياسية الداخلية المعقدة التي تأسست بداخلها السياسة الخارجية التركية. موقع تركيا في هذه البقعة الفارقة من التأثيرات الثقافية والدينية والسياسية جعل منها دولة ذات أهمية جيواستراتيجية كبيرة، وسهّل صعودها باعتبارها واحدة من أبرز القوى الناشئة في القرن الحادي والعشرين.
لفهم النظرة المتطورة تجاه بقية العالم، ولتحديد هذه التغييرات على مرّ التاريخ، لا بُدّ من تحديد السياسات المحلية المعقدة المحلية والعوامل الأساسية التي من تأثرت من خلالها بالعلمانية والإسلاموية، ومؤخرًا، القومية. تناول المسألة من المنظور التاريخي الذي يركّز على قضايا الثقافة والهوية، يمكن كشف تطور نهج السياسة الخارجية التركية على مدى عقود عديدة منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، ويمكن أن يساعد في فهم مسار النهج الحالي التي يتبناه الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية: نهج عملي ورجعي في السعي لتحقيق المصلحة الوطنية.
هذه الأفق الجديدة والمرنة في السياسة الخارجية تشير إلى تحوّل ملحوظ في النهج بالمقارنة مع تاريخ تركيا الحديث. على مدى العِقد الماضي، تأثرت عملية صنع القرار السياسي في البلاد بأيديولوجيتين متنافستين: العلمانية والإسلاموية.
بدأ تأثير العلمانية في تركيا في أواخر القرن التاسع عشر حين سقطت الإمبراطورية العثمانية، في حين كانت أوروبا تخطو خطوات كبيرة إلى الأمام بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي الحديث. وكان تأثير ذلك على تركيا ضخمًا للغاية؛ إذ بدأت الأفكار الوضعية والغربية تنتشر في مطلع القرن العشرين، مما أدى إلى ظهور نخبة موالية للغرب ذات ميول علمانية. واجهت هذه الجماعات الجديدة عداوة شديدة في البداية، ولكن استمرت في تشكيل حركة “تركيا الفتاة” في المنفى. وسرعان ما اكتسبت أفكارهم المصداقية بين الشعب التركي على نطاق أوسع، وأسفر ذلك عن تشكيل “جمعية الاتحاد والترقي” التي أصبحت الحزب الحاكم في تركيا عام 1908. وفي السنوات التي تلت ذلك، أصبح نفوذ حركة تركيا الفتاة أو “الأتراك الشباب” واضحًا في تنمية البلاد، خاصة مع اعتبار الحركة أنها المؤسس الأصلي للدولة التركية. في ظلّ حكمهم، أُنشئت المؤسسات السياسية على النمط الغربي، جنبًا إلى جنب مع الأنظمة القضائية والتعليمية العلمانية.
وبعد مرور سنوات عديدة، تسارعت وتيرة هذه الاتجاهات من خلال ظهور القومية العربية في جميع أنحاء المنطقة، مما ساعد على ترسيخ البنية الأيديولوجية لتركيا كدولة حديثة متماسكة وذات سيادة. وكانت النتيجة النهائية لعمليات التحديث هي الثورة الكمالية، التي اجتاحت تركيا خلال عام 1920، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. خلال هذه الفترة، ما كان مجتمعًا تقليديًا مفككًا في السابق تحول إلى مجتمع متماسك وحديث، مما يشير إلى تحوّل جذري عن الماضي وعن آخر بقايا الإمبراطورية العثمانية. أصبحت تركيا دولة علمانية رسميًا، مع إقصاء الإسلام من الحياة السياسية الرسمية ولإفساح الطريق لظهور هوية وطنية جديدة في بلد تحول جذريًا على المستوى الاجتماعي.
جرى ترسيخ المبادئ الكمالية في الدستور التركي عام 1937، وحدّدت طبيعة الدولة التركية وتوقعاتها الدولية لعقود قادمة. وفيما يتعلق باتجاه سياستها الخارجية، بدأت تركيا النظر ناحية الغرب بدلًا من الشرق بهدف التعاون والتجارة وبناء الثقة مع أوروبا والولايات المتحدة. وبعد الحرب العالمية الثانية، انضمت تركيا إلى المؤسسات الغربية مثل منظمة حلف شمال الأطلسي، وصندوق النقد الدولي، وفي الوقت نفسه أعربت عن رغباتها القوية في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. في المقابل، انخفض التعامل مع منطقة الشرق الأوسط، لا سيما بالمقارنة مع التوقعات الإقليمية التركية خلال الحقبة العثمانية.
في النصف الثاني من القرن العشرين، عزّزت تركيا دورها كشريك رئيسي للغرب، وكدولة علمانية غير تصادمية. كان يُنظر إلى تركيا كحليف خاص مستقر في المنطقة، في الوقت الذي كانت تتوقع فيه الولايات المتحدة تهديدات جديدة قادمة من أجزاء أخرى من العالم الإسلامي: مثل مرحلة بعد الثورة الإيرانية عام 1979، إلى جانب الأنظمة الديكتاتورية المعادية بشكل متزايد من العقيد معمر القذافي في ليبيا إلى صدام حسين في العراق.
بالرغم من استمرار هذا الموقف العلمانيّ على الساحة الدولية، حدثت تغييرات عميقة في السياسة الداخلية التركية في الفترة ما بين عام 1970 حتى عام 1980، وبلغت ذروتها عند صعود الإسلام السياسي. نشأت هذه الحركة في البداية من سكّان الريف، الذين بصفة عامة كانوا أقل تأثرًا بالتغيّرات الاجتماعية التي شهدتها تركيا، مما أدى إلى صراع الهويّة بين سكّان الريف التقليديين وسكّان المدن الموالين للغرب. تحوّلت تركيا إلى مجتمع استقطابيّ في ظلّ قوة ونفوذ حزب النظام الوطني، بقيادة نجم الدين أربكان، من خلال الترويج لمقولة إنَّ تركيا يجب أن تكون أكثر اهتمامًا بالانخراط مع العالم الإسلامي.
لقد ظهر الإسلام السياسي ومعه معارضة داخلية قوية من أجل تحقيق اندماج تركيا المقترح داخل الاتحاد الأوروبي، مع رؤية الكثيرين لتك الفكرة بأنها تعارض القيّم الإسلامية التقليدية في البلاد. في عام 1995، أصبح حزب الرفاه الإسلامي الحزب الأكبر في البرلمان التركي، بعد فوزه بنسبة 21٪ من الأصوات وسط تزايد الخطاب المعادي للغرب. وأصبح أربكان رئيسًا للوزراء في العام التالي، وسعى للتعاون الوثيق مع الشرق الأوسط وإعادة توجيه آفاق تركيا من الغرب إلى الشرق، ومن ثمّ قام بزيارات رمزية لكل من ليبيا وإيران خلال الفترة التي قضاها في السلطة.
بيدَ أنَّ عصر الإسلامويّة في السياسة التركية قصير الأجل بعد أن تمّ حلّ حكومة أربكان من قِبل المحكمة الدستورية في عام 1997 لمعارضتها “المبادئ العلمانية للدولة التركية”. وعلى الرغم من الحفاظ على التأييد الشعبي عبر قطاعات واسعة من الشعب، واجهت حكومة أربكان ضغوط هائلة من المؤسسة السياسية والعسكرية، التي كُلفت بالدفاع عن الطبيعة العلمانية لسياسات البلاد. في مطلع القرن الحادي والعشرين، عادت تركيا مرة أخرى إلى المسار الموالي للغرب، وحافظت على علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، ووضعت الاندماج في الاتحاد الأوروبي على رأس جدول أعمالها مرة أخرى.
ومع ذلك، فإنَّ الصعود الملحوظ لحزب العدالة والتنمية في عام 2002 كان بداية عهد جديد في السياسة التركية، وبداية سنوات من الجدال من المحللين والمراقبين الخارجيين حول اتجاه تركيا المقصود في الساحة الدولية. وبمرور الوقت، رسّخ حزب العدالة والتنمية سلطته وشكّل حكومة أغلبية ذات خلفية إسلامية مما أثار المخاوف بين النخبة العلمانية في البلاد. وبالرغم من أنَّ زعيم حزب العدالة والتنمية، رجب طيب أردوغان، وصف الحزب باستمرار بأنّه حزب “محافظ” ‘ بدلًا من حزب “إسلامي”، كانت هناك اتهامات للحزب بأنه يتبنى أجندة إسلامية سريّة يجري فرضها على الأمة. وأدى ذلك أيضًا إلى إثارة المخاوف بين حلفاء تركيا الغربيين من أنَّ الاعتماد التقليدي على شريك استراتيجي رئيسي في المنطقة لم يعد مضمونًا بعد الآن.
ومع ذلك، يخبرنا اتجاه السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة أنّه كانت هناك مبالغات كبيرة بشأن هذه المخاوف في الغرب. في حين أن بعض خطابات الرئيس أردوغان تدافع عن زيادة دور الدين في الحياة اليومية للمواطنين الأتراك، إلّا أنَّ البلاد ظلت حليفًا قويًا للدول الغربية؛ فقد دعمت تركيا الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه تتعاون مع أوروبا في أزمة اللاجئين، وتقدّم نفسها كملجأ لأعداد كبيرة من المدنيين الفارين من الصراع في سوريا. لقد أصبحت السياسة الخارجية لتركيا أكثر واقعية ورجعية، بدلًا من الانسياق وراء أي تحوّل أيديولوجي طويل الأجل لحزب العدالة والتنمية.
لذلك، في حين أنَّ السياسة الخارجية لتركيا تشكّلت تاريخيًا وفق خلفية أيديولوجية علمانية، ثمّ تأثرت بشكل متزايد بالإسلام، يجري الآن تحديد السياسة الخارجية التركية من قِبل القومية، حيث يتم اتخاذ معظم القرارات من منطلق فكرة “المصلحة الوطنية”.
هذا النهج المتطور متعدد الأبعاد الذي تبناه حزب العدالة والتنمية أصبح ممكنًا عن طريق إجراء تغيير تدريجي كبير: زيادة السلطة السياسية لتركيا فيما يتعلق بحلفائها الغربيين. في ظل نمو الاقتصاد المحلي، أصبحت المنطقة ككل أكثر تقلبًا، ومن ثمّ أصبحت تركيا دولة ذات أهمية متزايدة للغرب، وقي الوقت نفسه ازداد نفوذها وقدرتها على العمل بشكل مستقل. في جوهرها، تغيّر دور تركيا في النظام الدولي؛ إذ لم يعد يُنظر إليها كحدود بين الشرق والغرب، ولكن كقوة ناشئة هائلة في حد ذاتها، وكنقطة مركزية في المنطقة، وفاعل أساسي في السياسة العالمية. ومع الإبقاء على علاقة المنفعة المتبادلة مع الغرب، أصبحت تركيا أيضا أكثر ارتباطًا مع المنطقة ككل وفقًا لشروطها الخاصة.
وعلى صعيد صياغة السياسة الخارجية، يبدو أن تركيا قد سدّت الفجوة بين مه هو علمانيّ وإسلاميّ، ولكن تلك الفجوة لا تزال سمة سائدة في السياسة الداخلية التركية وداخل المجتمع على نطاق أوسع. ولكن على الساحة العالمية، أصبحت تركيا دولة واثقة بنفسها ومستقلة، غالبًا ما تتصرف في خط مع المصالح الغربية عندما تتطابق مع المصلحة الوطنية، ولكنها لم تعد بمثابة أداة سلبية لامتداد وممارسة السياسة الأمنية الغربية. تجلت هذه المرونة في عقيدة “العمق الاستراتيجي” التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية؛ وهي استراتيجية تهدف إلى تعزيز التكامل الإقليمي وتعزيز علاقات تجارية جديدة مع جيرانها، مع الحفاظ على علاقات صحية مع الحلفاء في الغرب.
عند إضافة زيادة القوة السياسية التركية لموقعها الجغرافي الاستراتيجي الكبير على الحدود بين الثقافات والأديان والمجتمعات من الشرق والغرب، سنجد أنَّ تركيا لديها فرصة فريدة لتكون بمثابة رمز للتكامل والتعاون في العالم المعاصر، باعتبارها دولة مستعدة لتسهيل المشاركة والتفاهم. تعمل تركيا كمثال لبلد نجح في الوجود بسلام نسبيًا على مدى عقود، على الرغم من الفوضى في المنطقة المحيطة والتوترات الداخلية الناجمة عن التأثيرات المتنافسة بين العلمانية والإسلام. في السنوات المقبلة، من المتوقع أن تستمر السياسة الخارجية المرنة والحازمة لحزب العدالة والتنمية، مع اتخاذ القرارات وفق المصلحة الوطنية في المقام الأول. ولكن مع استمرار الصراع المدمّر في سوريا في التأثير سلبًا على الاستقرار في تركيا، فإنَّ الشغل الشاغل للغرب لم يعد القلق من أسلمة السياسة التركية، ولكن سؤال عما إذا كان النهج القومي للسياسة الخارجية للرئيس أردوغان سيبقى مقيدًا، وواقعيًا، ومعتدلًا في مواجهة تزايد الضغوط الإقليمية.