on
لماذا يخشى السيسي ليبرالي مصر، لماذا يخشى السيسي ليبرالي مصر
في الأيام الأخيرة بدا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أقل اهتماماً في قمع وملاحقة الإسلاميين ونقل تركيزه صوب القضاء على الجماعات والهيئات الرقابية الليبرالية المصرية وخاصة القوى الديمقراطية التي شاركت في الثورة التي اندلعت ضمن أحداث الربيع العربي وحافظت على تحديها له. حتى أن النظام المصري منع صحفيين أجانب من دخول مصر تزامناً مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للقاهرة هذا الأسبوع.
من الواضح أن السيسي بات ينظر إلى الليبراليين الآن على أنهم أكثر خطراً من الإسلاميين أنفسهم، فاستراتيجيته لإضعاف المعارضة الليبرالية بدأت في العام 2013 عندما اعتقلت الحكومة المصرية عدداً من الناشطين الليبراليين البارزين الذين تظاهروا اعتراضاً على القيود الصارمة التي يفرضها السيسي على حرية التعبير. فعلى سبيل المثال، في ديسمبر 2013، تم اعتقال عدد من الشخصيات الليبرالية البارزة والمؤيدة للديمقراطية من أمثال أحمد ماهر وأحمد دومة ومحمد عادل، وتم إصدار أحكام بسجنهم لمدة 3 سنوات بدعوى مشاركتهم في مظاهرة ضد قانون السيسي المتعلق بمكافحة التظاهر. هذا عدا عن الآلاف من النشطاء الآخرين الذين تم اعتقالهم وسجنوا بشكل عشوائي بعد مواجهتم لمحاكمات جائرة.
وفي فبراير من هذا العام، بدأت إدارة السيسي في استهداف المنظمات غير الربحية. حيث قامت بإغلاق مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف وهو مؤسسة تأسست عام 1993 وتقدم خدمات المشورة والدعم القانوني وغيرها من أشكال المساعدة المخصصة لضحايا التعذيب. وكانت مديرة المركز عايدة سيف الدولة قد أكدت أن قرار الإغلاق كان سياسياً بحتاً ولا علاقة له بانتهاك الترخيص كما ادعت السلطات المصرية. وفي مارس الماضي، قام السيسي باقالة المستشار هشام جنينة، وهو رئيس الجهاز المركزي للمحاسبة، حيث جاءت إقالته بعد أن استخدم قانوناً كان قد مرره في يوليو من العام 2015 و هو ما اعطاه قوة غير محدودة لإقالة رؤساء الجالس الإشرافية من الهيئات الحكومية إذا ما كانوا “يشكلون تهديداً للأمن القومي”. وقبل قرار الإقالة هذا ببضع أشهر، أتهم الجنينة الحكومة علناً بسرقة ما يزيد على 60 مليار دولار من الأموال العامة خلال السنوات الأربعة الماضية. الجنينة، الذي قام الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي بتعيينه سابقاً، أدان الحكومة بالفساد وبين تورط مؤسسات رئيسية فيه مثل الشرطة والقضاء. يدعي السيسي أن تصريحات جنينة هذه شوهت صورة مصر والقيادة وبالتالي تسببت في إبعاد العديد من الاستثمارات الأجنبية وزعزعت استقرار مصر الضعيف أصلاً.
وفي 14 من أيار الجاري، قضت محكمة مصرية بسجن 51 شخص لمدة عامين على الأقل بدعوى تورطهم في الاحتجاجات التي اندلعت ضد نقل ملكية جزر مصرية في البحر الأحمر لصالح المملكة العربية المصرية. وكانت مظاهرات عارمة اندلعت في مصر في العديد من المحافظات المصرية في 15 إبريل الماضي وردد المتظاهرين خلالها هتافهم المشهور ” الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو الشعار الشهير الذي ظهر خلال احداث الثورة الأولى عام 2011 وأطاح بحسني مبارك وقتها. ووفقاً لجبهة الدفاع عن المتظاهرين المصريين فإن ما يصل إلى 1277 شخص تم ايقافهم ما بين 15 و 27 إبريل الماضي، ومن بين المعتقلين كان محمد ناجي، باحث وطالب في مجال حقوق الإنسان، ومالك عدل محامي حقوق الإنسان وهيثم محمدين وأحمد عبد الله وهم أعضاء في لجنة الحقوق والحريات المصرية.
في الوقت نفسه، بدأ السيسي يبدي بعض اللين حينما يتعلق الأمر بالإسلاميين وحماس على وجه الخصوص. ففي العام الماضي حوكم مرسي بتهمة التآمر مع حماس و”تخريب مصر”. وفي الوقت نفسه صنفت جماعة الإخوان المسلمين على أنها منظمة إرهابية في فبراير من العام 2014، لكن الأمر تغير بالنسبة لحماس إذ حكمت محكمة مصرية في يونيو 2015 بأن حماس لم تعد منظمة إرهابية. وفي ربيع هذا العام، استضاف رئيس المخابرات المصرية خالد فوزي وفداً رفيع المستوى من قيادة حماس في القاهرة، وفور عودة وفد حماس إلى غزة صدر قرار بإزالة جميع الملصقات التي تدعم الإخوان المسلمين في غزة. ومن المفارقة بمكان أن المحادثات مع حماس جاءت بعد بضغة أيام من إعلان الحكومية رسمياً عن المجموعة المسؤولة عن اغتيال المدعي العام المصري في يونيو 2015.
في منتصف مارس، أفرجت الحكومة المصرية عن عدد من السجناء الإسلاميين البارزين بينهم محمد الظواهري الشقيق الأصغر لزعيم تنظيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري، وتم إطلاق سراح العديد من الأعضاء القياديين في التحالف المناهض للانقلاب والمحسوب على الاخوان المسلمين في حدث لم يشهد نفس الضجة التي شهدها الإعلام إبان اعتقالهم سابقاً.
تعيد هذه الاستراتيجية للذهن ما كان يقوم به الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، حيث كان يستخدم القمع لعقد الصفقات المختلفة وإبطالها، يمكن أخذ حالة علاج مبارك للجماعة الإسلامية كمثال هنا، حيث كانت تعتبر الجماعة ارهابية في مصر. وسجن مبارك ما لا يقل عن 20 ألف من اعضاء المجموعات التابعة للجماعة. وكثير منهم حكم عليه بالسجن مدى الحياة وسمح لأجهزة أمن الدولة بتعذيبهم وممارسة كافة أنواع الاعتداءات بحقهم، لكن في بداية ال 2000 قام أعضاء الجماعة بنبذ العنف وتوصلوا إلى اتفاق مع حبيب العدلي وزير داخلية مبارك ويده اليمنى، ليصدر عفو عن قادة الجماعة وأعضائها ويخرجوا من السجون فاقدين لزخمهم وتحولوا لمجموعة لا تشكل أي تهديد للحكومة المصرية.
وكما هو الحال مع مبارك، استخدم السيسي سياسة الجزرة والعصا في التعامل مع الاخوان المسلمين، فعلى سبيل المثال، خلال الانتخابات البرلمانية عام 2005 سمح مبارك للجماعة للمشاركة لأول مرة فيها، وتمكنت الجماعة من الفوز ب 88 مقعداً خلال تلك الانتخابات. في العام التالي من هذه الانتخابات نظمت الحكومة حملة ضد الجماعة بعد الاحتجاجات الطلابية السلمية التي شهدتها جامعة القاهرة والأزهر وعرفت لاحقاً باسم “حادثة ميليشيا الأزهر” حيث تم اعتقال 124 من الطلاب بالإضافة إلى 17 من قيادة الجماعة كان بينهم خيرت الشاطر، الرجل الثالث في الجماعة حينها. زعمت حينها الحكومة أن الاحتجاجات تلك جرى تنظيمها من قبل ميليشيات عنيفة مرتبطة بالجماعة. والآن يبدو أنه وبعد 3 سنوات من الحملة الجائرة ضد الجماعة يسعى السيسي لاستعمال نهج أكثر دبلوماسية معها خاصة بعد أن تسببت تلك الضربات الموجعة بإضعاف المجموعة ولم تعد تشكل تهديداً كبيراً للنظام المصري القائم.
وفي علامة أخرى على تليين الحكومة المصرية لموقفها تجاه الاخوان المسلمين، تم توفير معاملة خاصة لبعض أعضاء الجماعة في السجون. فبعد اعتقال المئات خلال الاحتجاجات ضد بيع الجزر للسعودية، منعت الحكومة السجناء الليبراليين من رؤية ذويهم، فيما سمحت الحكومة لأعضاء جماعة الاخوان المسلمين البارزين برؤية ذويهم، ولعل صور باسم عودة وزير التموين المصري السابق وهو يقابل ابنته أخذت انتشاراً واسعاً. ويعد هذا الموقف بلا شك تغييراً كبيراً وسابقة في سياسة التعامل مع سجناء الإخوان المسلمين، حيث لم يكن يسمح لهم بالسابق مجرد الحديث مع ذويهم.
و كمبارك سابقاً، يبدو ان استراتيجية السيسي ستعمل هذه المرة، حيث ظهر الإسلاميون أكثر مرونة وانفتاحاً على الصفقات السياسية. فعلى سبيل المثال وبعد وقت قصير من الإطاحة بمبارك في عام 2011، وقفت جماعة الاخوان المسلمين مع المجلس العسكري ضد الاحتجاجات المناهظة للعسكر والتي كانت النشطاء الليبراليون قد قاموا بتنظيمها. وخلال الفترة الانتقالية، قام المجلس الأعلى للقوات المسلحية بتعيين لجنة دستورية أعطت بوضوح الاخوان المسلمين نفوذاً أكبر في صياغة الدستور. وسمح للإخوان المسلمين بتشكيل حزب سياسي لأول مرة بعد أن منعت الجماعة من ذلك وفق القانون الذي يحظر إنشاء أي أحزاب سياسية تحمل خلفية دينية، وفي أول برلمان بعد الثورة انتقد الإخوان المسلمون النشطاء الليبراليين الذين احتجوا وقتها على الحكم العسكري.
في المقابل، لم تبد جماعات حقوق الإنسان استعدادها لعقد صفقات مع السيسي حيث ترى أنها فاسدة من الأساس، وبدلاً من ذلك ارتبطت هذه الجهات بالغرب بما عزز جنون العظمة الذي يعيشه الجيش المصري ودعم دعايته بأن المنظمات غير الحكومية المدعومة من الغرب تحاول زعزعة استقرار الحكومة. فعلى سبيل المثال، في 21 مارس 2016، أصدرت 17 منظمة غير حكومية مصرية في بيان مشترك أدانوا فيه ما وصفوه ب”الهجوم” المدبر الذي يقوم به السيسي على المجتمع المدني السيسي. وأشار البيان إلى أن مؤسسات المجتمع المدني المصري باتت تواجه هجمات انتقامية بعد أن قامت جماعات مختلفة بتقديم مذكرة إلى مفوض الأمم المتحدة السامي بخصوص حقوق الإنسان، وشملت تلك المذكرة تفصيلاً بجميع أنواع الانتهاكات التي ارتكبت من قبل السلطات المصرية بما في ذلك اعتقال عشرات الآلاف من السجناء السياسيين وعمليات الإعدام خارج نطاق القانون والقتل والاستخدام المفرط للتعذيب عدا عن حالات الاختفاء القسري.
ومع اشتداد الحصار اصدر البرلمان الأووربي قراراً يدين بشدة تردي حالة حقوق الإنسان في مصر، وبعد فترة وجيزة أصدر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بياناً آخر حذر فيه من ” أن القيود المفروضة على مجالات ونشاطات المجتمع المدني سينتج عنها حالة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن”. ولاشك أن هذه البيانات الرسمية تسبب الحرج للسيسي في الوقت الذي يسعى فيه المسؤولين المصريين إلى الوصول إلى الغرب وإصلاح الإقتصاد المنهار.
يتوقع المدافعون عن حقوق الإنسان أن ستة من مكاتب الجماعات الحقوقية الأكثر شعبية سيتم إغلاقها قريباً، ومن بنيها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان و”نظرة” للدراسات النسوية. لكن هناك بعض الأمل، فبمجرد احتجاز حسام بهجت، الناشط في مجال حقوق الإنسان، في شهر نوفمبر 2015 إثر كتابته لمقال انتقد به الجيش المصري، شهد الحدث استجابة دولية سريعة، حيث مارس بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة ووزارة الخارجية الأمريكية ضغوطات على المسؤولين المصريين من أجل إطلاق سراحه وهو ما حدث فعلاً بعد أن تم احتجازه لثلاثة ايام. هذه الحادثة وغيرها تدل على أن حكومة السيسي تستجيب فعلاً للضغوط الدولية المتزايدة.
تحتاج الولايات المتحدة والحكومات الغربية وضع السيسي وحكومته تحت الضغط، فحياة كل مصري ذا قيمة. وتماماً كما انتقد الغرب الاختطاف والقتل الوحشي لجوليو ريجيني، الأكاديمي الإيطالي الذي ما تزال قضيته شائكة للحظة، يجب إدانة جميع عمليات قتل المصريين خارج نطاق القضاء. ويجب أن يكون هناك المزيد من القيود على بيع الأسلحة لمصر واشتراط تدقيق سجل حقوق الإنسان قبل الموافقة على أي عمليات بيع مستقبلية. وبوضوح، الجيش المصري واحد من اقوى جيوش الشرق الأوسط وأفضلها عتاداً ولا يحتاج لمزيد من الأسلحة لمحاربة مقاتلي داعش في العريش أو شبه جزيرة سيناء.
يتعين على الغرب مواءمة مصالحه مع قيم الجيل الجديد من المصريين فضلاً عن الآخرين في العالم العربي الذين يسعون جاهدين من اجل إحداث تغيير اجتماعي حقيقي والوصول الى حالة من الاستقرار على المدى الطويل وتحقيق الإزدهار. أما السيسي فعليه ان يدرك أن تكثيف هجماته على الليبراليين في مصر يتسبب بشكل أساسي في إضعاف السيسي لسلطته، وببساطة فإن أي محاولة لإنتاج نسخة جديدة من نظام مبارك ستفشل كما أظهر الربيع العربي بكل وضوح.
محمد منصور: صحفي مصري وناشط في مجال حقوق الإنسان